بقلم: عبد القادر كعبان
منذ البداية، و في أول
صفحة من رواية "أطفال بلا دموع" للأديب المصري علاء الديب نصطدم كقراء
بتقنية المنولوج الداخلي الذي يعتبر الخيط السردي الذي سيعكس لنا بإمتياز حالة
البطل "منير عبد الحميد فكار" أستاذ الأدب العربي في جامعة المطل بمدينة
"دلوك" التي تلبسها الوحدة و الأحزان و هواجس الإغتراب حيث يقول السارد:
"يأتي المنظر وحده، و ينصرف وحده، بعد أن ينزع قلبي، و يترك في مكانه
دوامة هواء." (ص 9).
تدفع به تلك الحالة إلى
الهروب من حالته النفسية السيئة كما يلي: "أدخل مقهى، مطعما، دكان بقال،
أشتري زجاجة خمر، قرش حشيش، أهرب من لا أحد، أصعد شوارع، سلالم، أنزل إلى حدائق
جرداء، أعود إلى غرفة البنسيون، أرى وجهي في المرآة القديمة، ذقن نابت، عينان
مرعوبتان، خوف قديم، نفس قاحلة، خاوية جرداء، أصنام متهاوية، طريق كباش متتالية
حمقاء. أصبحت خارج الزمن. السبت اليوم بلا إثبات، خارج المكان أيضا، هل أنا في
مصر، في القاهرة، أم أنني في الجامعة في مدينة دلوك!" (ص 10) من هنا
نكتشف خبايا تلك الروح بل و نشم رائحة الضياع التي تعيشها دون سابق إنذار.
بطل الرواية عرف نجاحا
ساحقا و انقلبت حياته رأسا على عقب حينما غادر مسقط رأسه "كفر الشوق" في
مصر خصوصا أنه دكتور في الأدب العربي و يعتبر كتابا للمقالات أيضا لكن كل ذلك لم
يمنعه من أن يذوق معاناة الإغتراب التي اعتبرها "منير عبد الحميد فكار"
إعاقة أدخلته متاهة العزلة و السجن هو و زوجته الدكتورة "سناء فرج" حيث
حولت تلك العلاقة الزوجية بينهما شبه مستحيلة إذ يقول السارد: "لو أن
السيدة الدكتورة سناء فرج صمدت قليلا معي- و احتملت ما سمته السجن الذي كنت أضعها
فيه، سجني النازي المرعب، الهواء معي هناك كان عذابا..." (ص 16).
تنقسم "أطفال بلا
دموع" إلى ثمانية فصول كالآتي: بصمات العيون، رقصة الديك، حادث خلف الكلية،
قطة من الحي الإفرنجي، الجرح و التشريح، منحنى حياة رجل محترم، أكلت أولادها القطة
و إعارة إلى الأبد أين تتصاعد أحداث الرواية على لسان البطل بضمير المتكلم بين
الزمن الماضي و الحاضر، ذلك الماضي الذي يعكس جملة من الأحاسيس المدفونة و
المرتبطة إرتباطا وثيقا ب"كفر الشوق" و الحاضر الذي يدفعنا لإكتشاف تلك
الأماكن الضائعة.
و من اللافت في هذه الرواية
علاقة "عبد الحميد فكار" بشخصية "رجب" بائع الدوم و الجوافة و
الأساطير كأسطورة رقصة الديك التي كانت بمثابة حلم يغالب الواقع في حياة البطل: "كل
ليلة أعيد ترتيب الحكاية. رجب دائما يدخل عليها تفاصيل جديدة، عن مكان الكهف، و عن
الأنواع الموجودة في الكنز، أحجار لم أسمع عنها من قبل، و ألوان لا أستطيع أن
أتخيلها.. و لكنها غالية الثمن جدا ولامعة براقة." (ص 41).
انتهت حالة البطل الى
تمسكه بالحلم الذي جعل الأشياء تختلط في ذهنه ليكون "رجب" هو ملاذه
الوحيد ليتفادى اضطرابه النفسي: "في ذلك الوقت كان رجب سبيلي الوحيد، يسد
علي كل طريق، يسكن معي في بيتي و أحلامي." (ص 64). من هنا يحاول الأديب
علاء الديب رسم ملامح شخصية لم تجد أمامها سوى ذلك الحلم الممزوج بالرغبة القوية
في إدراك أسرار مغامرته التي يتحدى أقدارها بحماس كبير يضيء فتيله ماضيه الذي
ينسيه وحدة حاضره.
لا تخلو فصول الرواية من
دلالة الحنين التي يحملها البطل في داخله رغم عبوره إلى الضفة الأخرى حيث يقول
الروائي: "أعود أذكر قريتي، شارعها الترابي، أرض ميدان المحطة المرشوش
بالماء، تهفو نفسي لمنظر قبل الغروب في شرفة بيتنا. في يد أبي مسبحة سوداء و في
البيت رائحة خبز طازج، و خضرة باذخة نقية تحيط بكل المكان." (ص 77).
ثمة تبعثر و رؤى و أحلام
مجهضة تحفل بها رواية "أطفال بلا دموع" و مثالا على ذلك حديث البطل عن
صديقه "عبد الله الجمال" الذي تم تعيينه مدرسا في ثانوية كبرى بالقاهرة
و الذي نجح في كتابة القصص على عكس "عبد الحميد فكار" كما يقول السارد:
"ربما لأنه كان واضحا محددا، ملتزما كما يقول، حاول ألا يجعل الضياع يتسرب
إلى نخاع حياته، بينما صرت أشعر أن روحي و صدري و قلبي خواء. كان يكتب قصصا جيدة،
لكنها ككل شيء حولي. لا جدوى منها و لا تضيف جديدا." (ص 81).
يهيمن الزمن النفسي في
هذا العمل الروائي حيث أن شخصية البطل تعيش الوقت بتأثيره السيكولوجي عبر معاناة
لا يجد لها نهاية حيث يقول السارد: "النور الخافت في غرفتي، التي لن
يزورني فيها أحد، يسقط على أشلاء و شظايا من ملابسي و أغراضي. و أنا في الشرفة
أراقب سقوط قطع الليل الداكن، أدخل بين الحين و الآخر، و لا أفعل شيئا سوى أن أنظر
إلى وجهي في المرآة القديمة، فأرى عيوني، و ذقني النابت الذي يحتاج إلى حلاقة،
نرحل جميعا في ليل داكن، نهاية بلا نهاية، و شخص لا أتعرف عليه، أعود مسرعا إلى
الشرفة أبحث عن روحي في فراغ الشارع." (ص 99-100).
لقد استطاعت الشخصيات
الأخرى للرواية كشخصية "أم عصام"، "محمود السيد فكار"،
"الدكتور صدقي فراج" أن تعكس بعدا إجتماعيا و نفسيا و ماديا من خلال
عملية السرد الروائي بتكنيك رائع، كما جاءت اللغة سهلة تتسم بالوضوح و الموضوعية
تجعل القارئ يعيش بكل كيانه وسط أجواء هذا العمل الروائي للمبدع علاء الديب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق