مقابر المصريين
بقلم: مصطفى عبد الصادق*
دق جرس منبه عم صابر بائع السبح في الخامسة صباحًا فقام من نومته فزعًا وهو يصرخ في
وجه زوجته التي كانت ترقد في جواره؛ ففزعت هي الأخرى وتعجبَتْ من أمره،
وسألته عن سبب هَبَّته هذه فذكَّرها بموعده مع الأستاذ إيميل الذي سيتوسط
لابنهما ليدخل المدرسة في سن مبكرة حتى لا تضيع عليه
السنة. فتذكرَتِ الزوجة ولكنها عادت وتعجَّبت وسألته مرةً أخرى بسخرية.
-
والأستاذ إيميل بقى بسلمتو صاحي بدري علشان يصلي الفجر معاك؟!
فردَّ عم صابر عليها بغضب:
-
لا يا ناصحة الأستاذ إيميل مش حيصلي الفجر معايا أنا اللي رايح أحضَّر السِّبَح اللي حديها له هو وأبوه الأستاذ نجيب.
فلاحقته زوجته قائلة:
-
وهو تحضير السِّبَح يخليك قلقان كده يا أبو إيميل؟؟!! وسِبْحة إيه اللي حتديها للأستاذ إميل وأبوه، هما بيسبحوا زينا؟!
فتعجَّب عم صابر من سؤال زوجته الذي لم يخطر على باله طيلة حياته، ولم يردَّ عليها لأنه لا
يملك الإجابة.
ثم حمل جُعبتَه بما فيها وانصرف إلى الرصيف أمام المسجد المواجه للكنيسة ذلك المكان الذي يضع
بضاعته عليه منذ أكثر من ثلاثين عاما.
راح
يفرش فرشته ويضع عليها ما يبيعه من سِبَح وسواك وأشرطة دينية. كان يعمل
بيديه وعينيه لكنَّ
فِكْره كان شاردًا يبحث عن إجابة لسؤال زوجته: هل الأستاذ إيميل وأبوه
بيسبحوا زينا؟؟! وهو الذي كان يظن طيلة عشرته لزوجته أنها الجاهلة الوحيدة
في البيت ولكن بعد ذلك السؤال الذي جَهِل إجابته أصبح جاهلَ البيت الأول
فقرَّر أن يغوص بفِكْره في الماضي الذي يقبع فيه
ذلك الإيميل ويستحوذ على نصيبٍ كبير منه، وتذكر عم نجيب أبو إيميل عندما
كان يأتي إلى القداس مصطحبًا معه زوجته وابنتيه نسمة وسناء وابنه إيميل.
وتذكر ذلك الإيميل كم كان ولدًا شقيًّا يحب اللعب كثيرًا، ولكنه في نفس
الوقت كان مؤدبًا وذكيًّا وطالما كان عم صابر يتنبَّأ
له بمستقبل باهر لكثرة إعجابه به، وكان يتمنى من ربه أن يرزقه بولد مثل
إيميل، وقالها بصراحة وأدب إيميل ربنا يرزقني بولد ويكون في زكاوته
فرد عليه الأستاذ نجيب بفكاهيته المعتادة: عاجبك إيميل أوى يا صابر طاب يا سيدي خلاص إيه رأيك
احنا نعمل بدل إنت تاخد إيميل وأنا يبقا لي ابنك لما يتولد واهو أبقى ريَّحتك من ست سنين شقاوة وغلب في تربية ولد شقي زي إيميل".
فضحك الاثنان.
وعاد
عم صابر من ذاكرته وكانت يداه قد انتهت من عملها في ترتيب البضاعة ثم هرول
في عُجالة إلى
داخل المسجد ليلحق بالصلاة مع المصلين، وما إن فرغ من صلاته ونظر في وجوه
المصلين حتى حطت عيناه على إمام المسجد الذي يشبه إيميل كثيرًا مما عاد به
إلى حيرته ليتردد على مسامعه سؤال زوجته: (هو إيميل وأبوه بيسبحوا زينا؟)
فقرر أن يضع حدًّا لتلك الحيرة، وعند خروج الإمام من المسجد استوقفه عم صابر وسأله السؤال المحيِّر.
فتعجب الإمام من سؤال عم صابر وقال له:
-
بتسأل السؤال ده ليه يا عم صابر؟ إوعى يكون الشيطان دخَّل في دماغك حاجة كدة ولا كدة ده حتى إنت اسمك أبو إيميل من شدة حبك لإميل وأبوه.
ففزع عم صابر من فهم الإمام الخاطئ لسؤاله وراح يلعن زوجته التي وسَّعت أفق حب المعرفة لديه.
وضحك الإمام من فزع عم صابر وقال له:
-
أنا عارف إنت بتسأل لمجرد الفضول وأنا حجاوبك علشان تتفوَّق على زوجتك في المعرفة بص يا عم صابر، الأديان التلاتة اليهودية والمسيحية والإسلام كلهم من رب واحد جميعهم أنزلهم الله سبحانه وتعالى على البشر، ولكن الدين يختلف عن الدين التاني بالطريقة اللي نزل بيها، والطريقة اللي يعبدوا المتدينين بيها. يعنى إنت بتسبح بطريقة وإيميل بيسبح بطريقة ولكن كلنا بنسبح لله، مش قالها النجاشي لما سمع القرآن إني اللي نزل على سيدنا عيسى واللي نزل على سيدنا محمد من مكان واحد؟!
انتهى
الإمام من إجابته على سؤال الزوجة الذي تبناه عم صابر وكان يحمله على
استحياء لكنه
بعد إجابة الإمام سيعود لزوجته وهو مُطهَّر من الوساوس التي أوجدتها
بداخله من جراء ذلك السؤال الملعون الذي وضعه في قمة جهلاء البيت.
ذهب
الإمام وجلس عم صابر بجوار فرشته وسرح وتذكر الماضي السعيد الذي يربطه
بالأستاذ نجيب،
وكيف كان يقف معه عند فرشته وأحيانًا كان يقف مكانه حتى يصلي ويعود من
صلاته، وتذكر أيضًا كيف كان نجيب يردد خلف المؤذن ذلك الفعل الذي كان
دائمًا ما يُحيِّره، ولكن بعد إجابة الإمام ما عاد للحيرة مكان بداخله لأنه
علم أنه ونجيب يعبدون إلهًا واحدًا.
وأثناء
تذكره قطع ذكرياته ذلك الشاب الذي صرخ في وجهه (إنت أبو إيميل) فنظر إليه
عم صابر
وإلى هيئته التي إن دلت فتدل كما هو معروف بين الناس على أنه شاب ملتزم
ومتدين فهو يرتدي جلبابًا ويطلق لحيته وبه علامات تدل على أنه يصلي ولكن كل
ذلك تمحوه تلك الغلظة في تعامله.
فأجابه عم صابر: أيوة أنا أبو إيميل.
فرد عليه الشاب بغلظة: وإنت مغيرتش إسمك ليه ولا إنت زي ما بيقولوا عنك لسة نصراني وعامل نفسك
مسلم؟
فشعر عم صابر بما لدى ذلك الشاب من تنطع وقسوة قلب وردَّ عليه بما يتناسب مع ما لديه: وهو انت
بقى من السجلات العمومية ولا انت نصَّبت نفسك رقيب على أديان الناس؟
فغضب
الشاب غضبًا حقيرًا وأراد أن يرد ردًّا أحقر، فأخرج من جيب جلبابه قطعة
حديد تشبه السيف،
وأراد أن يوجهها إلى وجه عم صابر، ولكن العناية الإلهية أنقذت عم صابر
وبعثت بعض المصلين الذين هرولوا تجاه عم صابر لإنقاذه من ذلك الجاهل بأمور
دينه ودنياه الذي هرول خوفًا من البطش به لأنه يعلم رصيده عند هؤلاء
المصلين من كره، ورغبتهم في الرد على آرائه الهدامة
والمتطرفة، ولكن بعد أن أصاب عم صابر في حاجبه. اختفى الشاب وطيَّب
المصلون خاطر عم صابر وراح أحد الشباب الملتزم التزامًا حقيقيًّا بمحاولة
تطهير جرح عم صابر بعد أن أنعم عليه ربه بطهارة قلبه، وقرر الشاب اصطحاب عم
صابر إلى المركز الطبي المجاور للمسجد، وهناك قرر
الطبيب ثلاث غرز في حاجب عم صابر ولكن مع إيقاف التنفيذ ذلك لنفاد رصيد
المركز من الخيط الطبي، ولكن إيميل قدم إلى غرفة الطبيب وكأنه يستأنف الحكم
ففرح عم صابر برؤية إيميل وفزع إيميل من الحالة التي رأى فيها عم صابر
ولكن عم صابر طمأنه وسأله عمَّن أعلمه بما حدث له؟
فردَّ إيميل: أيميل: إنت نسيت إني شغال في شركة أدوية ومن حظك إني جايب طلبية فيها خيوط طبية
لكن بعد إذن الدكتور أنا حاخد الثواب ده مكانه وحنروح أنا وإنت للدكتورة سناء، ولا إنت نسيت إن سناء دكتورة؟
فتبسم
الطبيب وعم صابر شعر بالسعادة لاهتمام إيميل به وذهب في صحبة إيميل إلى
بيت الأستاذ نجيب
حيث ابنته الدكتورة سناء أخت إيميل الكبرى وفي الطريق عاد عم صابر
بذكرياته إلى أكثر من ثلاثين عاما عندما كان يهم في لمِّ فرشته في ساعة
متأخرة من الليل، حيث جاءه نجيب مهرولًا حاملا على يده ابنته سناء وكان
عمرها لم يتجاوز السنتين ووجهها البريء تغطيه الدماء، واستنجد
نجيب بعم صابر: إلحقني يا صابر البنت دماغها اتخبطت في السرير ودمها
بينزف!!
ففزع
عم صابر وهرول مع نجيب إلى المركز الطبي التابع للمسجد حيث قام الطبيب
بتضميد جراح سناء
ثم رافقهما إلى بيت نجيب، وأقسم نجيب على صابر بتناول الطعام معه وأثناء
تناولهما الطعام صرخت زوجة نجيب مُعلِنة قدوم ذلك الإيميل الذي ولدته أمه
في نفس المشفى التابع للمسجد المواجه للكنيسة وهناك سأل الموظف عن اسم
المولود
فرد نجيب: صابر هو إللي حيسميه.
وذكَّر نجيب صابر بالوعد الذي قطعه على نفسه
فانصاع صابر لمطلب نجيب وقال: ماشي يا سيدي وانا علشان نرضي الست أم سناء حاقترح نسميه إيميل
على اسم أخوها الشاب المحترم إلى وشه كله بشاشة.
فحطت
على وجهي نجيب وزوجته ابتسامة رضاء معبران عن رضاهما بذلك الاسم، وقبل أن
تخرج أم إيميل
من المشفى عاد عم صابر بذاكرته حيث يرافق إيميل إلى بيت الأستاذ نجيب
ليتمَّ علاجه على يد الدكتورة سناء التي فتحت الباب وفزعت مما رأته، وكذلك
نجيب الذي قام من مقعده وأجلس عم صابر، حيث قامت الدكتورة سناء بتضميد
جراحه ثم جلس عم صابر يتسامر مع نجيب وأبنائه حتى همَّ
بالرحيل، فقام معه إيميل لإيصاله، وفي الطريق سأله إيميل عن محمد ابنه وعن
أوراق تقديم المدرسة فأجابه بأنها في البيت وطلب منه الذهاب معه إلى
فرشته. وهناك أخرج عم صابر سبحتَيْن من أجود أنواع السِّبَح وأعطاهما
لإيميل وقال له إنها هدية كان يُعدُّها منذ فترة فأخذها
إيميل وحضن عم صابر وطلب منه إحضار محمد ابنه لحضور قداس العيد، وتركه وهو
سعيد بأبوته لإيميل وفى اليوم التالي جلس عم صابر على فرشته حتى قبل
الغروب بقليل حيث جاءه نجيب وبصحبته العائلة، وسأله عن محمد فأجابه بأن أمه
سوف تلبسه وتأتي به لاحقًا.
وقبل
أن يدخلوا إلى الكنيسة تناول عم صابر زجاجة من زجاجات العطر التي يبيعها
ورش على عائلة
نجيب وبارك لهم عيدهم ذلك ما جعلهم يسعدون من فعلته وتركوه على أن يعطي
محمد لإيميل الذي سيتأخر قليلا وذهبوا إلى داخل الكنيسة المواجهة لفرشة عم
صابر وبعد قليل جاءت زوجة عم صابر بمحمد وأوصت أباه عليه، وتركته حتى جاءه
إيميل الذي كان يحادث عم صابر بفمه ولكن عقله
وعينيه وقلبه ثلاثتهم يبحثان عن أحدٍ آخر يعرفه عم صابر بالتأكيد لأنه أبو
إيميل.
فمازحه عم صابر قائلا: مالك يا أبو الأميال مش ناوي تاخد محمد وتروح القداس ولا حتفضل تدور
كتير؟
فشعر
إيميل بخجل ولكنه قابل كلام عم صابر بلطف لأنه يعلم أن عم صابر يعرف جيدًا
أن من يبحث
عنها هي ماري تلك الفتاة الجميلة التي وافقت على خطبته ولا ينقصهما غير
إتمام مراسم الخطوبة حتى يُتوِّجا قصة حبهما بالنهاية السعيدة، وبعد أن
تشجَّع وقبل أن يرد على عم صابر كانت عيناه قد أتمت مهمة البحث باقتدار
ووجدت مطلبه حيث رأى ماري في الساحة أمام الكنيسة فلاحقه
عم صابر قائلا: والله ما انت متكلم خد محمد في إيدك وروح بس خد بالك وانت
بتعدي الطريق أحسن في ناس عاوزينك.
فبتسم إيميل وقبض على يد محمد واصطحبه متجهًا إلى الكنيسة إلى حيث مكان ماري.
وبعد
مغادرة إيميل ومحمد جاء الشاب المتنطع المتنكر في زي الملتزم دينيًّا إلى
عم صابر ليحادثه
بنفس الغلظة التي حادثه بها من قبل قائلا: أبو إيميل وعديناها لكن تخلي
محمد المسلم يروح مع المسيحي ده إلى مكان عبادته؟! ده انت صحيح كافر، ففارت
دماء عم صابر في عروقه وردَّ عليه بما يستحقه قائلا: وانت مالك يا بارد
ابني وأنا حر فيه هو انت ما حَرَّمتش من المرة
إلى فاتت طاب اصبر بقى وحتشوف.
فنظر الشاب إلى عم صابر نظرة احتقار وتركه وذهب.
وهناك
على البر الثاني تبادل العاشقان نظرات اللهفة والشوق حتى اقتربا من بعضهما
ولكن قبل أن
تتلامس الأيادي جاءت الأعادي فقطع جوزيف الطريق بينهما لأنه دائما ما كره
إيميل وحقد عليه، ولكن هذه المرة ظن أنه المتدين الوحيد وأنه قبض على زَلة
لغريمه برُؤيته محمد في يد إيميل فلم تقبل نفسه المتطرفة ذلك المشهد الجميل
فراح يؤنِّب إيميل على فعلته.
فقال له جوزيف: إنت إيه يا ابني مش مكسوف من الرب ماسك محمد في إيدك وداخل الكنيسة هو انت ما
تعرفش إن ده من أعداء المسيح؟!!
فرد إيميل مسرعًا: المسيح بريء منك ومن أمثالك وانت من إمتى وصي على أتباع المسيح دنا عمرى
ما شفتك في قداس واحد؟!
جوزيف: لا إنت كدة خلاص تعتبر كفرت، وأنا مش حعديها لك.
شعر
إيميل بأن ذلك الجوزيف يريد أن يطفئ المشاعر الملتهبة بينه وبين ماري
ويخرجهم من لحظات
العشق بتكهناته الملعونة، فامتص غيظه وساعدته على ذلك نظرات التوسل من
ماري بأن يُبقي على تلك اللحظة، فأبقى عليها وذهب ذلك المتطرف وراحت عيون
العاشقين تتحاكى عن غرامهما وقصَّت كل منهما للأخرى عن اشتياقها لرؤية مَن
عشقت.
كل ذلك دار تحت مرأى عم صابر الذي يراقب ابنيه عن بُعد، وبعد أن انتهت لحظات العشق وقرر إيميل
وماري الدخول إلى الكنيسة وأعطوا ظهرهما إلى عم صابر فأعطاهما هو الآخر ظهره وهو سعيد وهمَّ بدخول المسجد.
وقبل
أن يخطو خطوة حدث انفجار عنيف هزَّ كل شيء حتى إن زجاج المسجد تهشم جميعه
ووقع عم صابر
على الأرض وحدثت حالة من الهرج بين المارة، واشتعلت النيران في بعض
السيارات، وبعد أن استوعب عم صابر ما حدث قام من على الأرض وعيناه تبحث عن
أحبائه فلم يجدهما في مكانهما ولكنه وجد الدماء والأشلاء، فهرول يصرخ ويبحث
ولكنه لم يجدهم، فتعالت صرخاته وصاحبتها صرخات نجيب
ووليلة على ابنه الشاب فحطت دموع صابر ونجيب على دماء الأبناء فاختلطت
الدموع والدماء وأعلنت استشهاد الأبناء حتى جاء الأمن وباشر التحقيقات
ولمَّ الأشلاء.
وفي
الطب الشرعيّ طلب الطبيب عينةً من عم صابر والأستاذ نجيب حتى يتعرفوا على
ابنيهما ويتسنى
لهم أخذ أشلائهم لتدفن الأشلاء في مقابر الأقباط أو مقابر المسلمين، ولكن
الاثنين رفضا إعطاء الطبيب العينة المطلوبة واتفق الاثنان أنهما سيدفنان
ابنيهما في مقابر جديدة يُدفن فيها كل شهيد مصري قتله التطرف والإرهاب من
شرياني مصر: الأقباط والمسلمين. فلم يجد الطبيب
أمامه غير الموافقة وأعطاهما قطعةً من القماش بها أشلاء فأخذاها الاثنان
وقاما بدفن أحبائهما في قطعة أرض صغيرة ورثها عم صابر عن أبيه وكان يريد أن
يبني عليها بيتًا لابنه الوحيد الذي جاءه بعد أن كبرت سِنُّه وشاخ جسده
ولكنه بنى عليها مقبرةً لتضمَّ ابنه مع مَن أحبه
مثل ابنه وكتبا على مدخلها:
(مقابر المصريين)
*السويس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق