بقلم: د باسل يوسف
مولود
ضمن محاولاتنا
الرامية على تسليط الضوء على التجارب الثرية في تنوعها في محافظتنا ارتأينا أن
نشرح أحد نصوص الدكتور محمود عيدان
الوعظية على طاولة الفحص والدراسة للتعرف على أهم استشعارات مجايليه المنتمين إلى
هذا اللون الشعري المتوارث .
يعتبر
هذا النصأحد الأعمال التي تشكل محطة مهمة– من وجهة نظر ناظمه - في تجربة الشعر
الكلاسيكي من خلال اتخاذه لثيمة الموت كإنطلاقة نظمية لبنائه؛ نظراً لما حظي به هذا الموضوع من استجابات شعرية واسعة على مر العصور, ولعل
الاستشهادات غير مطلوبة للتعبير عن وجهة نظر ناظميها ضمن بناء ينتمي الى النسق
الشعري المتعارف .
إلا
أننا نأمل أن تكون هذهِ الدراسة إضاءة نوعية إلى مكتبة باحثي هذا اللون الأدبي
المتعارف .
فالموت
والحياة أمران متعلقان بالإنسان من حيث وجوده واستمراره في هذا البعد الفيزيائي .والحياة
هي البداية التي يأتي فيها الإنسان ليقضي سنينهالمعدودة زمنيا على هذهِ البقعة
الأرضية ووفقا للقياسات الكونية / الفلكية
والموت هو المعادل الرمزي الذييعصف بعقدة
التواجد الهش وتعيد الإنسان إلى بعد عدمي / غيبي ؛ نافضاً يديه من غبار دنيته الفانية ؛ ليتحلل من أجوائها
ويمكث في باطنها إلى حيث لا يعلمه إلا الخالق الموجد([1]).
وإذا
كانت الحياة هي المدة الزمنية التي يحياها الإنسان ويحس فيها بوجوده؛ليحاول عن
طريقها ترسيخ أقدامه على هذه البقعة
الترابية مدفوعاً بالأمل والشعور والحركة والإيمان, فإن الموت هي اليد القوية التي
تقتلع هذهِ الآمال والأحلام وتقطع عليها جسور العبور وخيوط الامتداد لتسكن الإنسان
هوة اللحد السحيقة, وتحوله إلى أديم يضيع في أجزائها التي لا يسكنها إلا الفناء.
وإذا
كانت مشكلات الحياة الإنسانية قد وجدت في الإنسان الاهتمام الذي تستحق والعناية
الكافية من أجل حلها ووضع حد لنهايتها, فإن الموت قد ظل بالنسبة له هو المشكلة
الكبرى والمأساة الخانقة, والهاجس الباعث لقلقه وحيرته وضياعه, فبمجرد التفكير
فيه, مجرد التصور للناهية يجعل الإنسان يرتعد من الخوف.
فالبشرية
تنفعل حين تواجه حقيقة موتها بالذات, وتختلف مظاهر هذا الانفعال من إنسان لآخر,
فالحقيقة الإنسانية العادية لا تقوى بادئ الأمر على احتمال هذهِ الحقيقة والقبول
بها فتهرب إلى كل ما يبعدها عن التفكير في الموت.
أمّا
القلة الخلاقة التي تحدق بالموت باستمرار فيعتريها الضجر والوحدة واليأس والكآبة
ومشاعر أخرى يختلف بين عبقري وآخر([2]).
فالموت
هاجس كل الأحياء, يتهددهم كل لحظة, ويبعث في نفوسهم الخوف والرعب, فنحن نخشى
المستقبل والمجهول والزمان ونخشى حتى الحياة, فخوفنا من الموت كما يقول إدجار آلان
بو:
إنما يعبر عن فزعنا
من أن ندفن أحياء, وكأنما نحن نخشى ألا يكون موتاً كاملاً, أو كأنما نتصور أننا
سنظل أحياء حتى في موتنا نفسه أمواتاً أحياء, وكأن الموت ليس موتاً محضاً, بل
شعوراً حياً بالفناء([3]).
لكن
الإنسان على الرغم من خوفه من الموت, وهذهِ النهاية المفزعة, يحاول بكل قواه أن لا
يستسلم لليأس, بانياً آماله على أساس خلوده وبقائه على أساس أن الموت لا يستطيع-
على الرغم- من إيقاف نبضات الحياة فيه, أن يقضي على قدرة الإنسان التي تستطيع أن
تصمد في وجهه وتتحدى قبضته الرهيبة وذلك بالفكر الخلاق الذي يبقى إبداعه حياً إلى
آبد الآبدين.
فالقلق
الإنساني المتزايد والتفكير الدائم بالموت عند بعض الفلاسفة الوجوديين الذين
يؤمنون بانتهاء الإنسان إلى العدم حيث لا بعث ولا حساب, قد كان الهاجس الخانق الذي
استحوذ على أفكارهم, وجعلهم يرتعدون خوفاً من غموضه, بينما كان الموت عند المؤمنين
بالآخرة وبالبعث والنشور, انتقالاً من مرحلة إلى مرحلة, فالحياة بالنسبة لهؤلاء
كانت جسراً يفضي إلى الآخرة.
وإذا
كان الشعر العربي في مراحله المتعددة قد عرف ظاهرة الموت, وكان للشعراء منها مواقف
تتأرجح- في أغلبها- بين اللوعة والرفض والتسليم والشك واليقين فإن للشعراء
المعاصرين رؤيتهم الخاصة في التعاطي مع هذهِ الظاهرة اعتمدت في بعض تصورها على
رؤية الشاعر الغربي حينما قال:
فلا يمكننا أن ننكر
التأثير المباشر وغير المباشر لشعر اليوت الذي يعني الحضارة الغربية وإفلاسها وموت
الإنسان الوحي وخاصةً في قصيدته (الرجال الجوف) و(الأرض الخراب)([4]).
ولكن
من الخطأ الظن بأن التأثير الغربي وحده كان السبب في الاهتمام بهذهِ الظاهرة في شعرنا
الحديث, فقضية الموت تكاد تكون هاجس الإنسان بشكل عام, ولكن الجديد في هذهِ
القضية- عند الشاعر العربي المعاصر- هو الرؤية وشموليتها التي تختلف عن الرؤية
المحددة للشاعر القديم([5]).
ويعتبر
محمود عيدان من الشعراء المعاصرين الذي أولوا اهتماماً كبيراً لقضية الموت في
أشعارهم لما تمثله من نقطة تحول خطيرة في مسار الإنسانية, ولم يكن حديثه عن الموت
حديث الفيلسوف أو الزاهد وإنما كان جناحاً من أجنحة الشاعر المدرك لحقائق الأشياء
وجوهرها وفي ذلك يقول أحد الشعراء:
إن الإنسان يستطيع أن
يشهد موته الخاص في حياته كما يقول الفلاسفة الوجوديون, فمادمت أدرك أن كل شيء
يموت- الثمار والأشجار والحيوان والطير بل وحتى الصخر والجبل, ومادمت أرى رفاقي من
حولي يتساقطون صرعى واحداً إثر الآخر فما بالي إذن لا أعرف أني ميت, فإذا تيقنت من
هذهِ المعرفة وثبتت وقائعها في وجداني وخلدي, فإنا إذاً أعيشها في كل لحظة فكأني
أموت كل لحظة أو كأنني أعيش موتى([6]).
كانت
قضية الموت محوراً من محاور الشاعر محمود عيدان الأساسية, كما هي محوراً من محاور
الوجود الإنساني والبشري. فإذا ما تأملنا نتاجه الشعري كله عبر الدواوين لوجدنا
هذا الحس كثير الاطلال علينا, حتى في القصائد التي لا تتحدث عن الموت أو التي تموج
بإحساس الحياة كقصائد الحب مثلاً, وسأعرض هنا أهم القصائد التي تطرح فكرة الموت
كظاهرة إنسانية لها أبعادها التي تحدد رؤية الشاعر لها.
وبدايتنا
مع قصيدة (الملك لك) وهي القصيدة التي يطرح الشاعر من خلالها تساؤلات عن مصير
الإنسان الذي يعيش منطلقاً في الوجود حالماً محباً, وفي لحظة من اللحظات يفقد إلى
الأبد حيويته ونشاطه وصورته الإنسانية, ويتحول إلى جثة هامدة, أو إلى جيفة تتحلل
في باطن الأرض داخل حفرة موحشة لا خلاص له منها ولا مهرب يقول:
يموت
المرء في دنيا العباد
وإن طال المقام بكل ناد
وأن الموت لاقينا جميعاً
وبعد الموت تختلف الأيادي
فيشقى ذو الشقاء بما تعنّى
من الآثام في كل البلاد
فيصلى النار من ظلم البرايا
ويحيا خالداً فيها كعاد
وإن طال المقام بكل ناد
وأن الموت لاقينا جميعاً
وبعد الموت تختلف الأيادي
فيشقى ذو الشقاء بما تعنّى
من الآثام في كل البلاد
فيصلى النار من ظلم البرايا
ويحيا خالداً فيها كعاد
يطرح
الشاعر من خلال هذهِ المقطوعة تساؤلات جوهرية تتعلق بواقع الإنسان ومصيره فإذا كان
مآل كل إنسان هذهِ الحفرة من الأرض بعد حياة قصيرة تعج بالنشاط الضيقة والانطلاق
ولا تهدأ, فلماذا يظن الإنسان نفسه سيد الأرض بصلفه وغروره وتكبره, فليترفق ولينظر
من حوله, فما أديم الأرض إلا من هذهِ الأجساد.
وفي
مطلع القصيدة يثبت الشاعر الحقيقة التي لا مفر منها مهما طال الأمد وهي أن الإنسان
سيموت ولا أحد كتب الله له الخلود. الموضوع الذي تتحد فيه المصائر ولكن بعد الموت
سيختلف كل شيء, كل يذهب ويلاقي عمله ومصيره فأمّا في الجنة أو النار.
وفي
قصيدة محمود عيدان يرى الشاعر بأن الموت مقدور على كل البشر وموت الإنسان ليس
نهاية لحياته بقدر ما هو حياة مستمرة بما خلفه من آثار تدرك على بقائه بالرغم من
فناء جسده, فيقول الشاعر:
فيصلى
النار من ظلم البرايا
ويحيا خالداً فيها كعاد
ونجو من عذاب الله قوم
بهم صين الوداء على السوداء
لهم دار السلام جزاء صدق
على الإحسان والخير الفراد
وأن الموت أول من يساوي
فقيراً مع غني في ازدياد
ويحيا خالداً فيها كعاد
ونجو من عذاب الله قوم
بهم صين الوداء على السوداء
لهم دار السلام جزاء صدق
على الإحسان والخير الفراد
وأن الموت أول من يساوي
فقيراً مع غني في ازدياد
إن
الموت الإنساني هو أن لا يكون هناك أهداف تخلد بعد الموت ويحس المرء أمامها بأنه
جزء منها وأنهُ مات من أجلها, وهنا يفتح الشاعر صفحة ما بعد الموت وما يؤول إليه
مصيره, فأمّا إلى جنة عرضها السموات والأرض أو إلى نار جهنم خالداً فيها أبداً
ومذكراً أن الموت الذي يفر منه الإنسان فإنه ملاقيهم. وأنه يساوي بين الغني
والفقير.
ويذكر
الشاعر أن الاستقامة والصلاح يجب أن تكون هي أهم الأهداف وهي التي تخلده بعد الموت
ويحس المرء أمامها بأنه جزء منها وأنه قد مات من أجلها, وهي التي تخلده ويبقى في
ذاكرة التاريخ ووجدان الأجيال على مر العصور. إن الذي يفنى هو جسده, أمّا من يخلفه
من علم وفكر وهو الأهم فيبقى لتستفيد منه الأجيال التي بعده.
ويسعى
جاهداً عمن حباه
صنوف البر في دنيا العباد
صنوف البر في دنيا العباد
وهنا
نقطة هامة يدعو فيها الشاعر إلى عمل الخير وعمل البر وهكذا فعل الشعراء والكتاب
والمفكرون من سحيق الأزمان مازالوا يعيشون معنا بفكرهم ووجدانهم وكأنهم فارقونا من
زمن ليس ببعيد وحتى الذين لم يخلدوا في حياتهم في صفحات التاريخ فإنهم يتركون
رسماً على القلوب كالحضارات القديمة التي خلدت حياتها بالرسومات والرموز والتي كانت
لغة التواصل بينهم أو خطأ فوق ديباجة أو ذكرى في حنايا قلب.
فالميت
هو الذي لا ذكرى له جاء بصرخة ثم أعقبها بصمت ورحل في صمت لم يخلف وراءه أثراً
يمنحه البقاء والخلود في ذاكرة الأجيال.
وفي
هذهِ القصيدة إدانة للذين يموت الإنسان بداخلهم وهم أحياء وهي دعوة إلى المحبة
والاخاء الإنساني.
إن
الإنسان المحبوب هو الذي يحيا بمن حوله بالتواصل والمحبة والألفة قبل أن يأتي رسول
الموت.
فالشاعر
هنا يدعو إلى الصلاح والثبات والطاعة لله وحب الخير وكأنه يدعو دعوة العاشق المتيم
لحب الخير والعمل الصالح ليخلص الناس من أمراض القلب ووسوسة الشيطان, ومن وطأة هذا
الكون الموبوء الذي لا شفاء للإنسان منه إلا بالأعداد وانتظار الموت الذي لا مهرب
منه.
وتطرح
هذهِ القصيدة رؤية فلسفية عميقة لتجربة الموت استدعتها أفكار منيرة للشاعر, ووردت
عدة تساؤلات في نفس الشاعر عن الموت لعل من أهمها:
- ما
هو الموت؟
- متى
يأتي الموت؟
- ما
هو مصير الإنسان بعد الموت؟
ومن
خلال هذهِ القصيدة حدد الرؤى التي يؤمن بها الشاعر, فكأنما اجتاز الشاعر المسافة
التي تفصل بين الحياة والموت, ويصف الرغبة في العودة إلى الله والرغبة في الموت
المطمئن, لأنه يعلم سيجد نفسه وحيداً في عالمه الجديد لا يعرف فيه أحد, فهو يبحر
ولكنه لا يجد في إبحاره إلا الأفكار والعيون وأعماله التي أَخذها معه إلى عالمه
الجديد والغريب, فهي روحه التي انطلقت من جسده المسجى على لوح من الطيب ويتوسد
التراب ومن فوقه تراب, يقول الشاعر:
يذوق
جميعنا كأس المنون
فلا ينجو طريد في البوادي
فكأس الموت مشروب زعافاً
به تمحى الفروق بكل نادي
فلا ينجو طريد في البوادي
فكأس الموت مشروب زعافاً
به تمحى الفروق بكل نادي
وبهذا
تم الانتهاء من هذهِ القراءة لقصيدة (هاجس الموت) للشاعر محمود عيدان ونسأل الله
أن نكون قد وُفقنا في هذا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق