2018/01/03

بمناسبة الذكرى الأولى لرحيله: "الصارخ فى البرية" بقلم: يوسف الشارونى

بمناسبة الذكرى الأولى لرحيله:
 "الصارخ فى البرية" 
بقلم: يوسف الشارونى
* كلنا نعرف المثل القائل : القط يحب خناقه . هذا المثل أتذكره كلما استعرضت علاقتى بالأدب . أولاً دعونا نتفق على أن هناك أشياء فى حياة البشر لا نعرف سرها الآن ، وقد لا نعرف سرها أبدًا . من هذه الأسرار ما الذى يجعل شخصًا يهوى الأدب وآخر من نفس الأسرة يهوى العلم وثالثًا يصبح من رجال الأعمال البارزين بينما آخرون يقنعون بحياتهم المتواضعة لتتكون منهم البنية التحتية لحضارتنا البشرية . لقد حاولت إحدى مدارس علم النفس بقيادة زميلنا وصديقنا الدكتور مصطفى سويف أن تبحث فى الأسس النفسية للإبداع الأدبى ، لكنها حامت حول هذا السؤال دون أن تجيب عليه . وقد حدث هذا فى أسرتنا ونحن أبناء بيئة واحدة ، فأنا أكتب القصة والدراسة الأدبية ، وأخوتى يعقوب الشارونى يكتب للأطفال ، والدكتور صبحى الشارونى تخصصه الفن التشكيلى بينما رابعنا مفيد يقوم بدور إيجابى فى تطوير بعض آلات الإنتاج الالكترونى .
صحيح أننى - مثل معظم الذين يكابدون حرفة الأدب - جربت قلمى فى بدء حياتى فى معظم القوالب الأدبية : شعرًا ودراسة أدبية وإبداعًا قصصيًّا وروائيًّا ، لكنى ما لبثت أن وجدت نفسى فى القصة القصيرة والدراسة الأدبية . وكنت فى سن حياتى الباكرة أنظر إلى الدنيا من جانبها الوردى ، فأتطلع إلى الأدباء : محليين وعالميين ،  وما يتمتعون به من شهرة وربما ثروة أو نفوذ وفى مقدتهم طه حسين ، وتجاهلت أن طه حسين طرد من الجامعة وصودرت كتبه ، وأن توفيق الحكيم قدم للمحاكمة التأديبية بسبب كتاباته ، وأن حياة دستيوفسكى وصلت إلى حافة الإعدام . وهكذا وجدتنى ذات يوم أعانى متاعب الحياة الأدبية كما أتمتع بمباهجها ، حتى أننى تمنيت أن يكون للإبداع الأدبى عمر محدد يحال بعده الأديب إلى المعاش ليريح ويرتاح ، لكن ممارسة فعل الكتابة متمم لوجود الأديب شأنه شأن التنفس والنوم وتناول الطعام ثم إفراز العنبر واللؤلؤ والمسك ، ولا مفر من تعاطى حرفة الأدب - كما كان قدماؤنا يعبرون - بحلوها ومرهــا ، فهــى قــدر مكتــوب على كل من أصيـب بلعنتها ونعمتها . ولم يخفف من حيرتى
إلا عندما استطعت أن أبلور مسيرتى الأدبية فى مثلنا الشعبى " القط يحب خناقه " .   
* سر آخر فى حياتى الأدبية يتصل بموضوع أكثر تخصصًا ، فأنا لا أعشق فقط ممارسة ما يعذبنى ، بل فى داخل هذا العشق أهجر ما أعتبره غُنمًا وأمارس ما أراه غُرمًا . فأنا أعتبر النقد الأدبى فى مناخنا الثقافى غرمًا لا غنم فيه مقارنة بالإبداع القصصى ، ذلك لأن قراءه محددون ، ولا سبيل إلى أن يصل إلى جمهور غير قارئ كما يحدث فى القصة والرواية التى يمكن أن تتحول إلى دراما إذاعية أو تليفزيونية ، كما أنهما يصلان إلى جمهور لا يقرأ اللغة المكتوب بها العمل الروائى أو القصصى وذلك حين يترجم . والناقد قد يعرض نفسه لخصومة شخصية مع مبدع العمل الأدبى حين لا يُرْضِى نرجسيته ، بينما المبدع القصصى لا يتعرض لمثل هذه الخصومات . فالعائد الأدبى والمادى للإبداع القصصى أفضل بكثير من النقد الأدبى ، الذى أعتبره عمرًا مخصومًا من حياة الناقد لحساب المبدع . فأنا إذن أمارس الأدب الذى ألقى منه من المتاعب ما يفوق ما ألقاه من  مباهج ، وأمارس النوع الأدبى الذى اعتبره غُرمًا أكثر مما أمارس النوع الأدبى الذى أعتبره غُنمًا .
* من جوانب هذا اللغز الحياتى اكتشافى أن الإبداع والنقد عمليتان متجاورتان ، وأن المبدع هو الناقد الأول لعمله الفنى . فى أثناء الإبداع تتداخل العمليتان . عندما أنتهى من كتابة قصة أعيد قراءتها لأقدم كلمة أو أؤخر أخرى ، وربما أحذف أو أضيف جملة ، وقد أغير مكان الفقرات تمامًا كما يحدث فى عملية المونتاج السينمائى . ويجب أن تكون خلطة الإبداع ونقد الإبداع بنسبة دقيقة معينة حتى تستساغ ، فغياب الوعى النقدى كثيرًا                  ما يؤدى إلى بدائية العمل الإبداعى وسذاجته ، وكثرته تؤدى إلى تغلب جرعة الفكر عليه بحيث يبتعد عن تلقائية العمل الإبداعى ، كالطفل الذى يبكى ثم يرى نفسه فى المرآة فيتوقف ، لهذا أستطيع أن أقول أننى كمبدع ربما أفدت منى كناقد .. فى جانب الكيف ، وخسرت فى الوقت نفسه .. فى جانب الكم ، وربما كسبت فى العمق ما قد أكون خسرته فى التلقائية .
لهذا حاولت طوال مسيرتى الأدبية أن أقترب بالنقد من العملية الإبداعية ، فكثير من دراساتى النقدية عبارة عن إعادة صياغة للعمل الأدبى الذى أتعرض له تتخلله رؤيتى ، لأننى أراعى فى كتاباتى النقدية أن من لم يقرأ العمل الأدبى المتناول يستطيع أن يتتبع ما كتبت ، والذى قرأه يجد شيئًا جديدًا فيما أكتبه .
فالعملية النقدية لا تختلف عندى كثيرًا عن العملية الإبداعية ، فأنا أبدأ أولاً بمجهــود
إرادى أثناء قراءة العمل الأدبى . وإذا كان البعض يلجأ إلى وسائل مزاجية للاندماج فيما يقرأ - ابتداء من احتساء القهوة وتدخين السجائر على سبيل المثال إلى ما هو أكثر تغييبًا للوعى - فإنى ألجأ إلى وسائل أدبية ، وذلك بمعاودة قراءة العمل وقراءة الأعمال السابقة للمؤلف نفسه إن وُجـِـدَت ، وما كُتِبَ مثله فى أدبنا العربى وربما فى الأدب الأجنبى .. كل هذا ما يلبث أن ينقلنى من حالة المجهود الإرادى إلى حالة الاندماج الوجدانى ، تمامًا كالإنسان الذى تقابله لأول مرة فى حياتك فلا تعرف عنه إلا شكله الخارجى بحيث لا تستطيع التعرف عليه إذا استدعيت إلى شهادة ما . فإذا داومت على الاتصال به وتوثقت علاقتكما ، فإنه ما يلبث أن يكشف لك عن أسرار لا يبوح بها إلا لمستحقها . وهكذا تخلق صداقتى للعمل الأدبى - ولشخصياتى القصصية أيضًا - ما يمكن تسميته بالرؤية الإبداعية ، وهى رؤية لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق هذا الاندماج الوجدانى - تدعمه دربة سابقة - والذى يكشف عما لا يمكن كشفه بأية وسيلة أخرى .
* ولقد وُلِد جيلنا فى العشرينات من هذا القرن وبرز أديبًّا فى الخمسينيات ، واستمر بقوة الدفع الذاتى سنوات المحنة العربية يسبح ضد التيار ، تنوشه سلطات من فوق وسلطات من تحت وتنافسه وسائل لا قبل له بمقاومتها ، كالإذاعة والتليفزيون ، إما أن يلبى إغراءاتها أو تزيحه جانبًا ليصبح صوتًا صارخًا فى البرية  .
كنا نكتب بحماس معتقدين أننا بأقلامنا سنغير العالم ، سنطوره إلى الأفضل ، سنضع أطراف أقلامنا على نقاط الضعف فى مجتمعنا ، سيجد المطحونون أنفسهم فى سطورنا ، وأن القصة وسيلة جماهيرية ، والابنة الشرعية لعصر المطبعة . لهذا كنا حريصين على أن نكتب فنًّا وليس خطبًا ولا وعظًا .. بعضنا كان فنه تلقائيًّا ، وبعضنا كان فنه  محسوبًا ، لكن معظمنا اتفق - ودون اتفاق - على ألا يتصارع فنه ورسالته ، بل يتلاحمان بحيث يختفى كل منهما فى الآخر . 
وهكذا بدأنا نكتب لكى نغير العالم ، فانتهينا لأن نجد العالم هو الذى يغيرنا .

   


الكاتب الكبير
يوسف الشارونى
أكتوبر 1924 - يناير 2017
يوسف الشارونى من أكبر المبدعين المصريين والعرب للقصة القصيرة فى تاريخنا الأدبى المعاصر ، قدم للمكتبة العربية مشروعة الفنى المتكامل ، الذى بدأ إنجازه منذ صدور مجموعته القصصية الأولى " العشاق الخمسة " عام 1954 .
فى إبداعه القصصى ، تبدو شخصيات قصصه ، بكل ما يعترض سبيلها ، كأنها رحلة البشرية فى تاريخها الطويل ، تسعى بغير عون من أحد ، وأحيانًا بلا أمل فى الخلاص .
جمع يوسف الشارونى بين الواقعية والتعبيرية ، بين الوصف الخارجى للعالم ورؤاه من داخل النفس . استخدم الفن ليغوص داخل النفس البشرية فى صراعها مع الواقع الاجتماعى الخارجى ، ومع الضغوط النفسية الداخلية، ليقدم أكثر الأعمال الفنية تأثيرًا فى مجال الاحتجاج على الواقع ، والحفز على التغيير . جمع بين المتعة الفنية للعمل الأدبى ، والرسالة الإنسانية التى يحملها .
قال كاتبنا الكبير نجيب محفوظ ، إنه انتهى فى قصصه القصيرة من حيث بدأ الشارونى ، وبذلك جمع يوسف الشارونى بين الريادة الفنية الأدبية والمعايشة المعاصرة .

ليست هناك تعليقات: