2018/01/17

اللسانيات التقابلية وتعليمية اللغات بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بوفـلاقــة

اللسانيات التقابلية وتعليمية اللغات
 بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بوفـلاقــة
 يُعرف الكثير من الدارسين تعليمية اللغات،بأنها ذلك المجال الذي يركز على القضايا العلمية المرتبطة بطرائق تعليم، وتعلم اللغات،ومع ظهور اللسانيات وتعدد فروعها تركز الاهتمام بشكل بارز على تعليمية اللغات،وتم توظيف اللسانيات التقابلية بشكل كبير لترقية طرائق تعليم اللغات ومن ثمة تعليم الترجمة، ويمكن أن نستشهد في هذا الصدد بقول الدكتور أحمد حساني:« تضطلع اللسانيات التقابلية بمهمة لسانية تطبيقية وتعليمية إجرائية هادفة في مؤسسات تعليم اللغات،إذ لها حضور فعلي في تحضير المحتويات التعليمية،وتكوين التمارين والاختبارات ذات التصحيح المسبق التي لها علاقة مباشرة بالاختلافات،أو ما يسمى بنقاط الارتكاز بين اللغات.
         تقر اللسانيات التقابلية منذ البدء بأن اللغات مختلفة بالضرورة،وأن اللسانيات بوصفها العلم الذي يعكف على دراسة اللغات متجانسة،فهي إذ ذاك ليست مطالبة فقط بوصف هذه اللغات،وإنما هي مطالبة أيضاً بالمقارنة بين هذه اللغات لمعرفة نقاط التلاقي ونقاط التباين...
        أضحت اللسانيات التقابلية مرتبطة بفرضيات محددة ودقيقة تفيد من علم النفس التربوي حول طبيعة الأخطاء ودورها في تعليم اللغات،ومن ثمة فإن موضوع اللسانيات التقابلية الغالب هو التنبؤ بالأخطاء والتهيؤ إلى وصفها وشرحها وتذليل الصعوبات المختلفة الناتجة عن تأثير اللغة الأم،ولذلك فإن الحلول العلمية التي توفرها اللسانيات التقابلية هي موجهة لواضعي البرامج العلمية وأساتذة اللغات أكثر من المتعلم ،فهي تتوخى تطوراً نوعياً من أجل مقاربة اللغة الثانية انطلاقاً من وظيفة اللغة الأم»)1(.  
          ولا ريب في أن المقاربة المعرفية تُسهم«إسهاماً واضحاً في تطوير الاستراتيجيات البيداغوجية لتعليم اللغات،بل تعد أساساً لكثير من طرائق تعليم اللغات في العصر الحالي.
       إن اكتساب اللغة الأجنبية وتعلمها في ضوء هذه المقاربة اكتساب لمهارات معرفية معقدة،تتطلب عمليات داخلية معرفية وعقلية تأخذ بعين الاعتبار طبيعة تعلم اللغة الذي يكون أكثر تعقيداً من تعلم العلوم الأخرى،وخاصة مراحل إنتاج الكلام الذي يمر فيه المتحدث بعدد من الخطوات كاختيار المفردات والتراكيب المناسبة للسياق والمقام،وتنظيمها ومراقبة الكلام،و في ضوء هذه المقاربة يتم تعلم اللغة الأجنبية من خلال عدد من الخطوات والعمليات العقلية المعقدة التي يمكن تصنيفها إلى ثلاث عمليات رئيسة هي:العمليات المضبوطة،والعمليات التلقائية،وعمليات إعادة البناء،وهي عمليات مرتبطة بكل من الذاكرة قصيرة المدى،والذاكرة طويلة المدى»)2(.    
          ومن بين الأسئلة التي تُطرح في مجال تعليمية اللغات،وتنصب في إطار اهتمامات اللسانيات التطبيقية:
«-ما دور اللغة الأولى في اكتساب وتعلم اللغة الثانية؟
-إلى أي مدى يُسهم النحو الكلي في اكتساب وتعلم اللغة الثانية؟
- ما الذي يمكن لمتعلم اللغة الثانية اقتباسه من مبادئه الكلية والفطرية؟
            لقد أدت هذه التساؤلات وغيرها إلى ظهور مجموعة من الفرضيات أسهمت في تطوير البحث المرتبط باللسانيات التطبيقية بصفة عامة،مثل:فرضية تأثير اللغة الأم في تعلم اللغة الثانية،وفرضية النحو الكلي وتعلم اللغة الثانية،وفرضية الاكتساب والتعلم،وفرضية النسق الطبيعي في اكتساب اللغة الثانية.
        ومن منظور اللسانيات التوليدية،فعملية تعلم اللغة الثانية هي إجراء يسهم المتعلم بحيوية في إنجازه تسانده في ذلك المعارف التي اكتسبها من النحو الكلي،فتشابه اللغتين الأولى والثانية في بنياتهما مثلا يعد عاملاً يساعد متعلم اللغة الثانية على التقدم السريع في إطار النحو الكلي،وبذلك تسهل اللغة الأولى عملية تعلم اللغة الثانية...
         إن الإفادة من نتائج الدراسات التوليدية وتطبيقها في مجال تعليم اللغة الثانية أو الأجنبية خصوصاً في السنوات الأخيرة من القرن الماضي،نتج عنه ظهور نظرية من أهم النظريات في اكتساب اللغة الثانية عرفت بالنظرية الفطرية في اكتساب اللغة الثانية،وقد أثرت أسسها ومفاهيمها تأثيراً قوياً على طرائق تدريس اللغات الأجنبية،حيث أصبح ينظر إلى التعلم باعتباره إجراء حيوياً بالنسبة للمتعلم يرتبط بتكوينه العقلي والمعرفي ويكمل معرفته الضمنية بالبنيات اللغوية المراد تعلمها،كما أصبح ينظر إلى المتعلم باعتباره يساهم بشكل فعال وحيوي في عملية تعلم اللغة الهدف،وفي بناء كفايته اللغوية الشبيهة بكفاية الناطق الأصلي باللغة»)3(.     
             وأهم ما يجب تمييزه في تعليمية اللغات هي مراتب المعرفة النحوية،حيث يجمع الدارسون على تقسيمها إلى أربع طبقات تتعلق بالمعرفة اللغوية:
« أ-المعرفة اللغوية العلمية:وهي الهيئة المتسامية للقواعد،أو صورتها كما تتداول في الكتب المتخصصة،وما تتناوله من تعليل للأحكام،وتفريع للمسائل،بغية الإحاطة بموضوع العلم،ولهذه المعرفة منطقها الخاص،ونسقها المعرفي-المنطلقات الإبستيمولوجية-الذي يميزها عن غيرها من طبقات المعرفة،لأن هذا النوع من المعرفة قصده الوصف العام لأنظمة اشتغال اللغة،والآلية التي تقوم بها،من خلال بناء شبكات من العلاقات المفاهيمية بين عناصر الاشتغال تلك،بصورة تجريدية،دون أن يكون هدفها الأول والأساس هو التعليم،الذي قد يبدو كالعرض. 
ب-المعرفة اللغوية المعدة للتعليم،أو الواجب تعليمها:والمقصود بها المعرفة النحوية كما تتبناها مناهج التدريس في مقرراتها،وكما ترشد إليه الجهات الوصية،بناء على دراسات سابقة تراعي مستوى العينات التي تتعلق بالمادة اللغوية،وتفاوت مستوياتها تحت اليافطة الشهيرة والعنوان الكبير:الفروق الفردية.
        لكن ما يطبع قواعد اللغة كما تنطق به الكتب المدرسية عادة هو الثبات أو الوصف المعمم،الذي ينبغي أن يدرج في السياق،وهي المهمة التي يتكفل بها المعلم والأستاذ.
ج-المعرفة النحوية المدرسة بالفعل:وهي العملية الأهم في مسار تعليم قواعد اللغة،لأنها تتسم بالتحيين أو التسييق،بأن ينتقي المدرس الأهم مما تمت برمجته،وما يتسع له الوعاء الزمني المخصص للحصة،آخذاً في الحسبان مناسبة ما ينتقيه لمستوى متوسط الفهم والاستيعاب لدى التلاميذ،أو ما يعرف بالتمثلات،التي تعد مقدمة ضرورية أثناء التخطيط والتحضير للحصص،مستفيداً في كل ذلك من تجاربه وخبراته التدريسية السابقة،ودورات التكوين التي يتلقاها،وإرشادات المفتشين والمتابعين التربويين،وكل ذلك يكون له أثره في تبني المدرس للطريقة المناسبة لكل تلك المتغيرات المسكوت عنها في معرفة المقرر في المنهاج.
         إنها سيرورة لتحول مجال ما من كونه موضوعاً للتعليم،استجابة لحاجات العملية التعليمية ذاتها،كما يرى شوفلار...
د-المعرفة النحوية المكتسبة بالفعل:بما أن التعلم عملية معقدة،تتدخل فيها عوامل نفسية واجتماعية وعضوية وغيرها،فإن المعارف التي يجري تعليمها في القسم من قبل المدرس بالفعل، لا يمكن أن تنتج تعلماً مماثلاً لدى التلاميذ بالقدر نفسه الذي جرى به تقديمها(الكم المعرفي)،كما أن ردود فعل التلاميذ داخل حجرة الصف سوف تتباين بالطبع،بحكم اختلاف تمثلاتهم(معارفهم المسبقة)من جهة،ومستوى استعدادهم للتلقي،والفروق الفردية البادية بينهم من خلال ردات الفعل تلك،من جهة ثانية،فمنهم سريع الفهم والتحصيل،والبطيء والمتردد،والمنتبه واللاهي،فلا بد من العناية أثناء النقل بطريقة العرض،والتركيز على المهم من المعرفة،والوظيفي،على أن يكون ذلك داخل وضعيات،لأن النحو وسيلة لا غاية»)4(.
         إن البحث العلمي في حقل التعليمية بعامة،و تعليمية اللغات على وجه الخصوص،يفرض على الباحث أن يكون وعيه عميقاً«بالأهداف العلمية والبيداغوجية التي ترمي التعليمية إلى تحقيقها في الوسط البيداغوجي،وقد يعسر على الدارس امتلاك هذا الوعي العلمي العميق،بمعزل عن المخاض المعرفي الذي نشأت في رحابه تعليمية اللغات منذ اكتسابها الشرعية المنهجية في الفكر الإنساني المعاصر،ومن ثمة فإن تعليمية اللغات،بوصفها وسيلة إجرائية لتنمية قدرات المتعلم قصد اكتساب المهارات اللغوية واستعمالها بكيفية وظيفية،تقتضي الإفادة المتواصلة من التجارب والخبرات العلمية التي لها صلة مباشرة وملازمة في ذاتها بالجوانب الفكرية والعضوية والنفسية والاجتماعية للأداء الفعلي للكلام عند الإنسان.
           وما كان ذلك إلا لأن الخبرات الإنسانية في أي حقل من حقول المعرفة،بشكليها النظري والتطبيقي،تقدم الأدوات المنهجية التي تفي في مجملها بمتطلبات العمليتين البيداغوجية والتعليمية على حد سواء،وقد تظهر الفاعلية العلمية لهذه الخبرة في تذليل العوائق والصعوبات التي تعترض سبيل العملية التواصلية بين المعلم والمتعلم،وإيجاد التفسير العلمي اللازم لكثير من الإشكال الذي يعيق عملية اكتساب النظام القواعدي للغة المدروسة لدى المتعلم.
             ولهذا فإن أقل الناس معرفة بحقيقة تعلم اللغة وتعليمها يدرك لا محالة أن أقرب العلوم الإنسانية إلى تعليمية اللغات هي اللسانيات، من حيث إنها المنوال العلمي الوحيد الذي يعكف على دراسة الظاهرة اللغوية،فيتخذها موضوعاً للدرس،ووسيلة إجرائية في الوقت نفسه.
        ومن هنا،فإن تعليمية اللغات لا يستقيم لها أمر إلا إذا انبنت على الرصيد المعرفي للفكر اللساني المعاصر،و ما يوفره هذا الفكر من نظريات وإجراءات تطبيقية مؤهلة سلفاً لإيجاد التفكير الكافي لكل القضايا التي تتعلق بكل جوانب الظاهرة اللغوية،من هذه الجوانب ما هو صوتي،ومنها ما هو دلالي،ومنها ما يقع بين ذلك من حيث التركيب والتأليف بين العناصر اللسانية في سياقها المألوف.
           انطلاقاً من هذا التوجه،يمكن لنا القول:إن منهجية البحث العلمي في هذا الحقل الخصب من حقول المعرفة الإنسانية،تقتضي بالضرورة إلزامية استثمار التجربة اللسانية العالمية لتنمية الحصيلة المنهجية والعلمية لتعليمية اللغات بوصفها ممارسة بيداغوجية،غايتها تأهيل المتعلم لاكتساب المهارات اللغوية،وما كان ذلك إلا لأن النظرية اللسانية من اهتماماتها الجوهرية ضبط العملية التلفظية وحصر العوائق العضوية والنفسية والاجتماعية التي تعوق سبيلها لدى المتكلم»)5(.  
            وإذا تحدثنا عن لغتنا العربية على سبيل المثال،  فلا ريب في أن الممارسات التعليمية المتعلقة باللغة العربية السائدة في المؤسسات التربوية تغدو ممارسات آلية عشوائية،في ظل غياب تحديد خطط تدريسية واضحة،ومناهج تربوية سليمة،فطرائق التدريس هي حجر الزاوية في تعليم اللغة العربية،ولاسيما إذا علمنا أن تعليم اللغة العربية أمر صعب  وخصب في الآن ذاته،فهو صعب من حيث إن هناك الكثير من التضارب، والتباين في طرائق تدريس اللغة العربية،وكذلك من حيث دقة تحديد المضامين التي يتوجب تعليمها، والاقتصار عليها...
           وهي ميدان خصب كونها لم تلق الكثير من  البحث، والتنقيب،ولم تحظ باهتمام كبير من لدن مختلف الدارسين والباحثين،ومن جانب آخر فهي قضية لا يمكن الحسم فيها ،لأنها قابلة للتجدد، ولاسيما في عصرنا هذا، عصر الانفجار العلمي، والتكنولوجي، والتقني،فقضايا تعليم اللغة العربية وتعلمها هي في حاجة إلى المزيد من الدراسة، والبحث،بغرض الارتقاء، والنهوض بالعملية التعليمية،وبهدف تقويم الجهود المبذولة،والوقوف على أسباب نجاحها،والإفادة من أخطائها،وتحويلها إلى نجاحات،وكذلك لاستكشاف بعض المجالات المجهولة التي لم يتم التطرق إليها،وإيجاد الحلول الناجعة للكثير من القضايا المتصلة بموضوع تعليم اللغة العربية وتعلمها.
           لذا يتوجب على الدارسين والباحثين تلمس شتى السبل التي من شأنها النهوض والارتقاء بلغتنا العربية،وجعلها منسجمة مع متطلبات العصر، من خلال تشخيص الوضعية بدقة«ودراسة ظاهرة انخفاض المستوى من شتى الجوانب النفسية، والاجتماعية، والبيئية، والحضارية قصد الوقوف على مسبباتها الكثيرة، وانعكاساتها الخطيرة قبل تقديم الوصفة العلاجية»)6(،فلا جدال في أن تعليم اللغة العربية تعترضه مجموعة من العوائق،مما يحول دون انتشارها في أنظمة التواصل العالمية،من بينها:
1-عوائق ذاتية خاصة بنظام اللغة العربية نفسه(النظام القواعدي)،فهو يبرز مجموعة من الإشكالات،تنجم عنها مشاكل تعليمية حقيقية،منها ما نراه في ضوابط اللغة ونظام قواعدها،وذلك بغرض تيسير تعليمها.
2-عوائق خارجية، وهي تتصل بقضايا خارجية ترجع إلى واقع الأمة العربية،التي تتخبط في مجموعة من الأزمات الصعبة،وهذا ما يكون له جملة من الانعكاسات،فعندما تعاني الأمة غربة حضارية وثقافية،فهذا سينعكس على اللغة،وتظهر معه غربة ثقافية للذات العربية نفسها)7( .
            إن الحديث عن بنيات اللغة العربية المعاصرة،يدفع الباحث إلى طرح جملة من الأسئلة تتصل بالإضافات التي قدمها البحث اللساني العربي الحديث.  
           يقول أحمد المتوكل مشخصاً أبعاد هذه الإشكالية: (إذا ما تناولنا بالبحث اللغة الفصيحة المعاصرة،أي اللغة التي يتقاسمها أبناء العالم العربي  التي تتجلى في كتاباتهم الأدبية و الصحفية وغيرها)،تجدنا أمام نسق لغوي يختلف اختلافاً ملحوظاً عن نسق اللغة العربية الفصحى على جميع المستويات اللغوية-الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية-،فتطور اللغة العربية الفصحى جعلها كسائر اللغات:
أ-تفقد ألفاظاً وأصواتاً وبنيات كثيرة كصيغة التعجب وصيغة الندبة وصيغة الاستغاثة إلى غير ذلك.
ب- وتكتسب بالاحتكاك الدائم والتفاعل المستمر مع اللغات الدارجة من  جهة ومع اللغات الأجنبية من جهة أخرى ألفاظاً وبنيات جديدة.
        وهنا نتساءل-يقول المتوكل- هل من الممكن أن ندرس وأن ندرس اللغة العربية الفصيحة المعاصرة بقواعد اللغة العربية الفصحى؟ هل من المقبول علمياً أن نصف نسقاً لغوياً بقواعد وضعت لنسق يختلف عنه اختلافاً واضحاً رغم ما بينها من تآلف سلالي؟

الهوامش:
(1)د.أحمد حساني:تعليميات اللغات والترجمة،بحث في المفاهيم والإجراءات  ،ص:108 وما بعدها.
(2)د.حسن مالك:المرجع السابق،ص:22.    
(3)د.حسن مالك:المرجع نفسه،ص: 44 وما بعدها.
(4)د.نواري سعودي أبو زيد:المرجع السابق،ص:100 وما بعدها.
(5)د.أحمد حساني:دراسات في اللسانيات التطبيقية-حقل تعليمية اللغات-، ،ص:1-2.
 (6)د.عثمان حشلاف: التمكن اللغوي أساس تحصيل العلوم الإنسانية  ،ص:43.  
(7) د.أحمد حساني:المرتكزات اللسانية لتعليمية اللغة العربية في وسط تعدد الثقافات واللغات  ،ص:75.

ليست هناك تعليقات: