جياد
طليقة
بقلم: د. نجوى
غنيم
لم
أكن أمتلك شريط تسجيل اجتماعيّ لائق فانسحبت ببساطه إلى كهفي كأيّ كائن جريح في
الغاب واشهرت صمتي. وبعد تفكير طويل قلت للمدير: سأقدم للتقاعد...
قال
المدير بسرعة: أنا موافق.
شعرت كأنّ
يدًا قاسية تعتصر قلبي، بعد أربعين عامًا من الخدمة بعد كلّ هذا العطاء والعمل
الدؤوب، بعد كلّ هذا الحب وتلك الجهود..."موافق" ...
لكلّ شيء
نهاية، ولا بدّ للأجيال الجديدة أن تأخذ مواقعها لكن ليس بهذا الأسلوب، منذ فترة وأنا
أغوص في الهم كما يغوص الغريق في اللجة، فابني أنهى تعليمه ويسعى لبناء مستقبله،
ولا شكّأنّ خروجي إلى التقاعد الآن والحصول على مستحقاتي سيساهم في دعمه، ولكنّ
المدرسة كانت جزءًا مهمًا في حياتي، لقد أسستها مع مديرها السابق، وها أنا اليوم كسمكة
كبيرة تبتعد عن البحيرة، لكنّ البحيرة لم تعد بحيرتي، فالبحيرة فيها أسماك جديدة بعضها
ملون يحمل شعار المنفعة، وبعضها متلون لا يرى إلاّ نفسه، وبعضها أشبه بسمك قرش
عنيف يأخذ ما ليس له، وبعضها سردين لا يكاد يرى أو يسمع صوته، وبعضها "اللهم
نجنا منهم" ...
صوت وقع
حذائها الحاد يملأ الممر، عيناها الملونتان تسيطران على المكان، الكبرياء يتسم في
قامتها الطويلة، معطفها الأسود يزيد في أناقتها، ومنديل أبيض يعانق الرقبة، ولفافة
سيجار بين أصابعها تتكسر بتأوه، شفتاها تبتسمان بسخرية، شيء ما يصيح في جسدها
المتثني ... تمط كلامها: أستاذأريدأن تشرح لي الفرق بين المفعول لأجله والمفعول
المطلق...
-أنت
معلمة للغة العربيّة ولا تعرفين الفرق؟!
ويعلو
صوتها: لا هذا غير مقبول، هذه إهانة أستاذ! أنا نسيت وبما أنّك مركز اللغة
العربيّة عليك أن تشرح لي...
وابتسمت
وناولتها كتابًا فلوت شفتيها وتوجهت نحو غرفة المدير...
مرارة في
الفم وطعنة في القلب، ربما مكاني ليس هنا...
خرجتإلى
غرفة المعلمين نظرتإليهم، حقًا لم يعد مكاني هنا، لم يسألني أحد عمّ يعتمل في داخلي
من مشاعر، كلّ واحد منهم منشغل بنفسه، لا يسمع إلاّ صدى صوته، واحد يصحح الدفاتر،
وآخر يطبع ورقة اختبار، وآخر يملأ استمارة واثنان علا صوتهما في نقاش حاد، ومجموعة
من المعلمات يتحدثن عن آخر صيحات الموضة، واثنتان تتحدثان عن إحدى الماركات
العالميّة، وبعضهن يتصورن "سلفي"...
بعد أشهر
سيكرمونني كغيري من المعلمين، يجمعون مبلغًا من المال يسلمونه لي في احتفال في إحدى
مطاعم البلدة، وسيلقون ربما ...كلمة يلخصون بها مشوار عمري الطويل وسأقدّم لهم
تذكارًا كما هي العادة، وسينتهي كلّ شيء خسارة... أهذا هو التكريم؟! أربعة عقود
تختزل في كلمة موجزة، عمري الذي أفنيته في أروقة هذا الصرح التعليميّ، فعالياتي،
كلماتي، الأيام والأسابيع اللغويّة التي أقمتها ستنسى كأن لم تكن...
نظرت إلى
الأفق نظرة تائهة، أحسست بقلبي ينقبض وغمام أسود يملأ عينيّ، وكأنّ السماء ستتجمع
لتسقط فوق رأسي صاعقة، استندت على مقعد قريب، شعرت بأنفاسي تتلاحق وصدري يرتفع
وينخفض.
تقترب إحدى
المعلمات: مالك أستاذ؟
-لا شيء
الحمد لله أنا بخير.
-أتريد
مساعدة؟
نظرت إلى
صورة زميلي المعلقة على الحائط، أستاذ هاشم الذي توفي في المدرسة وهو في ريعان
شبابه، أزحت وجهي ونظرت إلى الصورة المقابلة " صورة جياد طليقة في مرعى
خصيب"...فكرت واتخذت قرارًا، ومن نظراتي الشاردة اضطرم شعاع غريب.
أغلقت
درج مكتبي وأخذت حقيبتي وخرجت إلى الشارع مسرعًا، كانت السماء ملآى بالغيوم، وهواء
الشتاء يهب باردًا فيصيب جسمي برعدة، وسرت أنظر إلى السيارات التي تجري في داخلهانساء
ورجال لا يشعرون بالبرد، ينظرون من وراء زجاج محكم إلى المارة. ومرّت سيارتها
الفاخرة بسرعة وسط الغيث المنهمر لتخرج ماء ممزوجًا بالأوساخ تناثر في المكان.
سأنسحب إلى
شاطئ أداوي جراحي بصمت ولكنّني سأعود للسباحة ضد التيار...
خطواتي ترتعش
تئن وتختنق ولكنّها تحلم بالجياد في مكان طليق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق