بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بوفـلاقــة
الحديث عن الحوار يقتضي تحديد مفهومه،ومدلوله اللغوي والاصطلاحي،فهو ينصرف في دلالته اللغوية إلى الفعل حاور(حاوره) محاورة، جاوبه وجادله، والمحاورة : المجاوبة، أو مراجعة النطق، والكلام في المخاطبة. والتحاور : التجاوب. لذلك كان لا بد في الحوار من وجود متكلم ومخاطب، ولا بد فيه كذلك من تبادل الكلام، ومراجعته. وغاية الحوار توليد الأفكار الجديدة في ذهن المتكلم، لا الاقتصار على عرض الأفكار القديمة، وفي هذا التجاوب توضيح للمعاني، وإغناء للمفاهيم، يُفضيان إلى تقدّم الفكر، وإذا كان الحوار تجاوبًا بين الأضداد، كالمجرد والمشخص، والمعقول والمحسوس، والحُبّ والواجب، سمي جدالاً )1(. وقد ورد لفظ الحوار في القرآن الكريم في ثلاث آيات فقط ، وهي :
أ- قوله تعالى : فَقَال لِصـَاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَـرُ مِنْكَ مَالاً وأَعـَزُّ نَفَرًا
ب- قوله تعالى : قَالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ من نُطْفَةٍ ثُمَ سَوَّاكَ رَجُلاً
ج- قوله تعالى : قَدْ سَمِعَ اللهُ قَولَ التي تُجادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكي إلى الله واللهُ يَسمَعُ تَحاَوُرَكُمَا إنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصيرٌ
ويذهب القرطبي (تـ671 هـ) في تفسيره للآية الأخيرة إلى أنَّ المحاورة هي المجادلة، والتحاور هو التّجاوب ، أمَّا التي تجادل في زوجها فهي (خولة بنت ثعلبة) وهي تشكو زوجها (أوس بن الصامت) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد شاهدها زوجُها وهي ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها، فلما انصرفت أرادها، فأبت، فغضب عليها، فقال لها : » أنت عليّ كظهر أُمّي « فسألت النبي فـقـال لها : حُرّمت عليه ، فقالت : والله ما ذكر طلاقًا، ثم قالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، وفراق زوجي وابن عمي، وقد نفضتُ له بطني، فقال : حُرّمت عليه ، فما زالت تراجعه حتّى نزلت هذه الآية. ويذهب القرطبي : قُرِئ » تُحاوِرُكَ « (وهي قراءة ابن مسعود) أي : تراجعك الكلام و» تُجَادِلُكَ « أي : » تُسائِلُكَ «
إن الحوار في اللغة هو حديث يجري بين شخصين أو أكثر،وتحاور القوم تراجعوا بينهم وتجادلوا،وجاء في التهذيب للأزهري عن الليث«أن المحاورة مراجعة الكلام في المخاطبة تقول حاورته في المنطق وأحرت له جواباً وما أحار بكلمة،والاسم من المحاورة الحوير تقول:سمعت حويرهما وحوارهما.
والحاصل من هذا التعريف اللغوي أن من شروط الحوار توفر المُحاوِر والمُحاوَر على الأقل،و يجري بينهما كلام حول موضوع ما،أو مسألة ذات طابع إشكالي بغاية العبور بهما من رأي إلى آخر أو من وضع جدالي إلى ما هو أفضل منه...
أما اصطلاحاً، فالحوار يعني احترام الآخر في ما هو عليه وما يريد أن يكون على حد عبارة موريس بورمانس،وهو قبل كل شيء ضد الصدامات سواء كانت لفظية أو اتخذت أي شكل من الأشكال العدائية الفعلية،وهو محادثة بين شخصين فأكثر حول موضوع محدد اختلفت حوله الآراء بهدف الوصول إلى الحقيقة أو الاقتراب منها بعيداً عن التعصب وحب الغلبة مع توفر الرغبة في قبول الحقيقة،وإن كانت مع الآخر.
وقد استعمل تايلور مفهوم الحوارية ليبين كيفية تكون هوية الفرد من خلال الاتصال بالآخر والتبادل المستمر،وبذلك يصبح الاختلاف قيمة في ذاته،إنه يساعد الفرد على خلق مسافة إزاء هويته فيدفعها إلى النمو من خلال مقارنتها بأنماط هوية أخرى») 2(.
ويكتسب الحوار في تراثنا الثقافي الإسلامي والحضاري جملة من المعاني التي تدل على قيم«ومبادئ هي جزء أساس في الثقافة والحضارة الإسلاميتين،فمن حيث الدلالة اللغوية نلفي أن جذر(ح،و،ر)مثقل بالمعاني التي تؤكد على مفاهيم أصيلة في تراثنا الثقافي و الحضاري،ففي لسان العرب الحوار هو الرجوع،وهم يتحاورون،أي يتراجعون الكلام،والتحاور هو التجاوب والمجاوبة،والحور هو الرجوع عن الشيء وإلى الشيء،والمحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة،بل إنه ليدهشنا حقاً أن يكون من أسماء العقل في اللغة العربية الأحور،فللحوار في لغتنا وتراثنا جملة من المعاني الرفيعة ،والسامية التي تكسوها مسحة حضارية راقية،فتكسبها دلالة عميقة تعبر عن روح الأمة...،فالحوار في الثقافة العربية الإسلامية هو المراجعة في الكلام،وهو التجاوب بما يقتضي ذلك من رحابة الصدر،وسماحة النفس،ورجاحة العقل،وبما يتطلبه من ثقة ويقين وثبات،وبما يرمز إليه من القدرة على التكيف،والتجاوب،والتفاعل،والتعامل المتحضر الراقي مع الأفكار والآراء جميعاً،وبهذا المعنى يتأكد لدينا،بما لا يرقى إليه الشك،أن الحوار أصل من الأصول الثابتة للحضارة العربية الإسلامية،ينبع من رسالة الإسلام وهديه،ومن طبيعة ثقافته وجوهر حضارته،هو بهذا الاعتبار ضرب من التجديد،تجديد الذات،وتجديد الحياة بصورة عامة والمحيط الاجتماعي والمناخ السياسي.
واقتران الحوار بالعقل،يؤكد أيضاً على معنى سام في سياق تحديد مدلول اللفظ؛ذلك أن الحوار العاقل هو الذي يقوم على أساس راسخ،ويعتمد وسيلة سليمة،ويهدف إلى غاية نبيلة.وارتباط الحوار بمعنى الرجوع عن الشيء وإلى الشيء،يثبت في الضمير الإنساني فضيلة الاعتراف بالخطأ،ويركز على قيمة عظمى من قيم الحياة الإنسانية،وهي القبول بمبدأ المراجعة،بالمفهوم الحضاري الواسع الذي يتجاوز الرجوع عن الخطأ إلى مراجعة الموقف برمته،إذا اقتضت لوازم الحقيقة وشروطها هذه المراجعة،واستدعى الأمر إعادة النظر في المسألة المطروحة للحوار على أي نحو من الأنحاء،وصولاً إلى جلاء الحق.
فالحوار قيمة من قيم الحضارة الإسلامية،المستندة أساساً إلى مبادئ الدين الحنيف وتعاليمه السمحة،وهو موقف فكري وحالة وجدانية،وهو تعبير عن أبرز سمات الشخصية الإسلامية السوية،وهي سمة التسامح،لا بمعنى التخاذل والضعف بوازع من الهزيمة النفسية،ولكن بمعنى الترفع عن الصغائر،والتسامي على الضغائن،و التجافي عن الهوى والباطل») 3(.
إن الحوار يعني وجود طرف وآخر،أو ذات وآخر،والآخر قد يكون متعدداً،«ومع افتراض ذات محاورة،فهذا يعني أنها متقومة بالآخر المحاور،أي ذات تنتج اختلافها باستمرار،أو ذات تتبادل الأدوار والحقيقة مع الآخر بهذا المعنى،فإن الحوار حالة اتساع للمعنى وتكرار مختلف للتفسير،أي تأسيس لحق الاختلاف،وحق التفرد.الحوار هو هذا السقف الذي يهب الحياة كحق لا كمنة،إنه الخروج من شبكية السلطة أو القوى المسلطنة عبر المفاهيم إلى القوى المباشرة التي لا تنتمي إلا إلى ذاتها،إلى مملكة القوة القووية بتعبير نيتشه.وكما يقول مطاع صفدي: (إنه تأسيس لمعنى الاختلاف الذي ينتج معنى خارج المعنى المعهود ومن دون كل المواريث المذهبية والمنهجية والمفهومية).
الحوار يعني اكتشاف الآخر داخل الذات،ويعني أيضاً وبالمرتبة نفسها،اكتشاف الذات في نظر الآخر،أي التعرف على الأنا الموضوعية التي يراها الآخرون مقابل الأنا الذاتية التي نراها نحن ») 4(.
إن الحوار لا يعني عدم وجود اختلاف بين الأطراف،ولكن من شأنه أن يُفضي إلى رؤى مشتركة،من شأنها أن تؤدي إلى الانسجام والتوافق وتخفف من حدة التعصب للفكرة،وللحوار قواعده وآدابه وشروطه،حيث يذكر الدكتور عمار جيدل في هذا الصدد أنه لا يمكن للحوار أن يؤتي الثمار المرجوة اجتماعياً وحضارياً إلا إذا كان ممثلاً من قبل أشخاص يتوفرون على مجموعة من المواصفات من بينها:
-أن يعلم الفكرة التي يدافع عنها من حيث النظرية والتطبيق.
-أن يكون من الذين يعيشون الفكرة في واقعهم الاجتماعي والفكري.
-أن يكون من الذين يظهر عليهم عيش آلام الفكرة وآمالها التي يدافعون عنها.
-أن يتوفر على مصداقية في الوسط الذي يدافع عنه.
والحوار بالتي هي أحسن شرط أساسي في تجسيد حوار واضح المقاصد رغبة في الفهم المتبادل من أجل صياغة مشروع تفاهم بهدف تشجيع التضامن الإنساني العام ذلك أن الحوار بغير هذه السبيل مفض إلى تمكين التعصب وإعجاب كل صاحب رأي برأيه،والذي قد يفضي إلى أشنع من ذلك خاصة في حال الاستفزاز المعرفي أو الحضاري)5(.
ولا شك في أن قوام الحوار قوى متكافئة،أو على الأقل قوتين متكافئتين،فالحوار كما يصفه الكثير من الدارسين هو حق مشاع للجميع،وعنصر حيوي لحياة الأشخاص فضلاً عن الأفكار.
إن الحوار كما يفهمه الكثير من المفكرين هو مطلب إنساني تتوخاه جميع المجتمعات،إلى حد أن هناك من يعده أعلى مراتب التفاهم بين الأمم والشعوب،لذلك فهو من القيم الأخلاقية الراقية في مختلف المجالات(السياسية،والإنسانية،و الثقافية) ،إنه صورة متقدمة من التعارف،وبما أن الحضارة تشمل كل مظاهر وميادين الحياة،فإن الحوار انطلاقاً من هذه الرؤية هو محاولة للتعمق في هوية مختلف الثقافات وفهمها بعمق،والغرض من ذلك هو تجنب سوء التفاهم،الذي يؤدي إلى خلق عداوات بين الأمم والشعوب،ذلك أن أصل العداوة هو الجهل بالآخر، وسوء فهمه؛ومن هنا فإن حوار الحضارات البناء المؤثر،هو ذلك الذي يرتقي بالبشرية من عنف الهيمنة إلى عنفوان التعايش السلمي،ومن هنا يكون الهدف من الحوار هو العيش على رقعة واحدة يسود فيها التعاون والتآزر من أجل تحقيق سعادة الإنسانية؛وهذا لا يكون إلا بفهم الآخرين،من أجل تسهيل التواصل والتفاهم،ومنه التعاون والتضامن من أجل التصدي للمخاطر التي تُحدق بالإنسانية جمعاء)6(.
الهوامش:
(1) لسان العرب، المجلد الرابع، ص : 264، ود. صاليبا : المعجم الفلسفي، ج1، ص : 51 .
(2)شكري بوشغالة:حوار الأديان،مجلة الحياة الثقافية ،العدد:199 ،ص:50.
(3)د.عبد العزيز بن عثمان التويجري:العولمة وحوار الحضارات ،ص:34-35.
( 4 )د.وجيه قانصوه:حوار الحضارات والتأسيس للمختلف ،ص:185.
(5)د.عمار جيدل:متطلبات الحوار الحضاري ، ص:145.
(6)فوزية شراد:الحوار والتواصل عند يورغن هابرماس، مجلة عالم التربية ، العدد:17 ،ص:117.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق