2018/05/31

"بهلول العالم" في قصة الكاتب "علي حسن" بقلم: إيمان الزيات

   "بهلول العالم"  في قصة الكاتب "علي حسن"
إيمان الزيات
يمارس القاص "علي حسن" لعبة الانزياح والإحالة في نصه القصصي "الشيخ عطية" على مستوى الموضوع، والشخوص، والفضاءات الزمنية، والمكانية، وحتى الأسماء، ليصل بالقارئ إلى غرضه الرئيس من ذلك الطرح الممتع والواعي، حيث تنبني الفكرة برمتها على موتيفة "عبيط القرية"، أو "البهلول"، أو من عرف باسم "واحد من أهل الله"، إنه الشيخ "عطية" الذي يصفه الكاتب وصفاً جسمانياً دقيقاً في غير موضع فيقول: "كالطورِ الهائج، جسده يَبلُغُ المترين، ووَجهَه مُمتلئ، أبيض مشُوبٌ بحمرةٍ...، ... سمانةِ قدمٍ غليظةٍ وركَائز جسدٍ لا تنهارَ بسهولةٍ...".
أما عن البطلة فهي الست "فايزة" أرملة أربعينية عقيمة، تسكن وحيدةً، لذلك تمنَحُ الشيخ عطية قدرًا كبيرًا من الرعاية والحنان.
يعرف "عطية" وجهته إلى بيتها كل "خميس" حيث يجلس منتظراً إياها كي تأتي وتأخذه للداخل، فيبدو الأمر كأنها تهتم به وتطعمه وتكسيه، إلا أن لدى السارد حقيقة أخرى تظهر في صوته السردي عن مشاهدات الجار "عبد الستار" لهذا الطقس الأسبوعي بين "فايزة"، "وعطية" حيث يقول:
"لا أعرِف كم مرَ من الزمنِ، ساعةً أم أكثر، المُهم أن الشيخ عطية ظَهر كالبدرِ يوم تمامِه، عليه جلبابٌ جديدٌ ناصِعُ البياضِ، ...وجهَه كأنه نصف ثمرة بطيخ ضخمة، تَغشَاهُ حُمرة البال الخَالي والشبع والارتواء من كل شئ، الشفاه وردية اللون رطَبها لُعابُ مازال يسيلُ على جانبي الفَمِ."
".... هي الأخرى، وجهُها أشد حُمرةً من وَجهِ عَطية، نِصفُ البطيخة الآخر، تَميلُ بذراعَيها إلى البابِ المفتوح على مصراعيه..."
ومن وصف الراوي لمشاهدات "عبد الستار" يتكشف للقارئ حقيقة العلاقة التي تجمع بين "فايزة"، و"عطية" وأنها علاقة غير سوية، مستترة تحت غطاء التكافل الإنساني. ولا تقف المفارقة عند هذا الحد بل يذهب الكاتب بقارئ النص إلى أبعد من ذلك مطوعاً أداة (الجريدة اليومية) ليعكس مقصده الأساسي من خلال أخبارها التي يطالعها "عبد الستار" فيقول:
" كانت الأخبارُ في الجريدةِ مُعادةً، لا يوجد غير حديثٍ واحدٍ عن مُسانَدة الغَرب للاجئِ سُوريا، والإعلان عن فتح الحدود لهُم وتقديم الطعام والماء والخيام، أنباءٌ عن إحتواءً أوروبي لأكبر عددٍ مِن هؤلاء المساكين والمُشردين!".
ويظهر هذا التماهي السافر بين حال الست "فايزة" مع الشيخ "عطية" مع حال الغرب وموقفهم من لاجئي العرب حيث يروجون في الظاهر لممارسات إنسانية سطحية من ايواء وتقديم طعام وشراب ومعونة، ولكن ما خفي من أمر استغلالهم لأجساد هؤلاء، واستخفافهم بإنسانيتهم وعقولهم كان أعظم.
وهنا يدرك القارئ أن "فايزة"، و"عطية"، و"عبد الستار" ليست مجرد أسماء عفوية خطرت على ذهن كاتبها، ولكن هناك قصد خفي جعل من الأسماء دلالات جلية تعبر عن فوز الغرب الذي تمثله "فايزة" بما يريده ظاهراً وباطناً، بالارتواء الخفي وبالسمعة الطيبة الظاهرة، وعن كون الشرق "عطية" وهبة قدمت للغرب على طبق من ذهب من خلال اللاجئين والمهجّرين، فضلاً عن أن استمرار اعتماد الشرق والدول النامية والمنكوبة على عطايا الغرب ومنحه، الأمر الذي جعل منه فريسة سهلة، ولقمة سائغة في فم الغرب، يقول السارد عن "عطية":
"كان يأكلُ بغير حسابٍ، فطعامِه كُله مِنحٌ وعطايا..."
لا سيما بقي ضمير العالم ومراقب الإنسانية الذي يمثله "عبد الستار" صامتاً عن الحق، ومهدداً كما وصفه الكاتب في قصته قائلاً:
" ...استقامت ثم أطَاحت بقدمِها حجرًا صغيرًا كان قريبًا منها، فارتطم الحجرُ بحافة نافذتي، بل كاد أن يَعبُرها إلى داخل حُجرتي!
ثم قالت لي:
- لا مؤاخذة يا سي عبستار!
- ولا يهِمِك.. خُدِي راحتك يا ست فايزة!".
ومن اللافت أيضاً أن يكون الحكي من خلال "الراوي العليم"، وبضمير "المتكلم" على لسان هذا المراقب الصامت عن الحق، كأنه نوع من أنواع المناجاة أو حديث الذات التي تتسم بالتكتم والسرية، دون الإشهار، وهذا حال مؤسسات الرقابة العالمية عموماً.
فهل يريد "علي حسن" أن يقول من خلال نصه أن العالم ما هو إلا قرية صغيرة تتشابه فيها الشخوص مع الدول والممارسات اليومية ماهي إلا مجموعة من الأحداث العالمية المكرورة؟!
أعتقد أنه نجح في تجسيد ذلك بعمق وسلاسة، وبلغة رشيقة، أعانه على ذلك الرمزية، والمعادلات الموضوعية التي فعلها بامتياز لتخدم فكرته وتوصل غرضه، كالجريدة، وعادة "عطية" على شق ثوبه مهما كان جميلاً ونظيفاً، صدره العاري دوماً، وتبوله في ملابسه، سبّه بأمه، وسخرية أطفال العالم منه ورميه بالأحجار، كلها إحالات على وضع الشرق المتردي الذي لا يعرف قيمة نفسه، ولا يستطيع استيعاب أن جميع مقوماته وبنائه أشياء تؤهله ليكون متفرداً ومميزاً، وأن حمقه في عدم استيعاب ذلك جعل من "الشيخ" "بهلول" العالم.

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

كم أنا سعيد بتلك القراءة المنصفة الراقية والذكية، كعادتي بك دائمَا أستاذة إيمان منصفة في النقد وذكية في القراءة.. أديبة أريبة تعرف قيمة النقد وناقدة كبيرة لبيبة تعطي للأدب والإبداع مكانته التي يستحقها
شكرا جزيلا لكل هذا العطاء الوارف السمح بغير من أو جور.... مجبتي ومودتي أستاذة إيمان الزيات

علي حسن