قصة
قصيرة
علي
السباعي
أعمل
مصلّحاً للأجهزة الكهربائية الدقيقة في مدينة أور ، تعلمت من زوربا حب الحياة ،
وكنت كجيفارا متمرداً ، كنت معوزاً للفرح ، لابتسامات الناس ، للربيع يلامس قلبي ، للبياض ،
لرؤية الألوان الفاتنة تطرز حياة الناس ، لأجواء السعادة تشرق على الناس مثلما
أشرقت شمس تموز صباح اليوم الجمعة ، أشرقت فوق هامات النخيل بلون أرجواني مخضر
لتشرق معها على وجهي الأسمر الجنوبي ابتسامة شارلي شابلن ، ابتدئ صباحي بابتسامة لأنهي
غروبي بابتسامة ، أبدأ عملي بابتسامة لأحافظ على مزاجي رائقاً طوال النهار حتى
الغروب ، وكأنني أجامل الصباح والناس والغروب بابتسامة صادقة ترمم القلوب المخدوشة
بالحزن ، أفضل أن يراني الناس بوجه تشرق
فيه ابتسامة دائمة ، أمشي بينهم في الأسواق والأزقة بخطوات شارلي شابلن مرتدياً
ألوان الفرح الفاتنة مرفوع الرأس ، لأنني انفق وقتي كله منحني الرأس عاكفاً على
تصليح أجهزة التلفزيون والستلايات ، أخذت قول شارلي شابلن على محمل الجد : لن تجد
قوس قزح ما دمت تنظر إلى الأسفل ، آمنت برأيه
: يوم من دون سخرية هو يوم ضائع ، نهار يوم الجمعة مشرقٌ ، كنت مثله مشرقاً
بالمسرة ، تذكرت أنه اليوم الذي صلب فيه المسيح "ع" ، صرت أشيع أجواء الفرحة ، أمازح الباعة المتجولين
والكسبة وعمال المسطر والعتالين والصبية بائعي الماء البارد والمتسولين ، أوصي
نفسي بان أكون هادئ البال منشرحاً ، لم أعش حياتي متذمراً ساخطاً ، عشت بقلب أبيض
راضياً ، عشتها هكذا حتى لا أصاب بالحزن ، علقت على الحائط بدل صورة السيد الرئيس
فوق رأسي حكمة قالها شارلي شابلن : لو كنت
نبياً لجعلت رسالتي السعادة لكل البشر ، ووعدت أتباعي بالحرية ، ومعجزتي أن أضع
البسمة والضحكة فوق أفواه الصغار ، ما كنت لأتوعد أحداً بنيران جهنم ولا أعد أحداً
بالجنة ، كنت سأدعوهم فقط إلى أن يكونوا بشراً وأن يفكروا ، ليقرأها كل من يدخل ورشتي
، ينعتني أبناء مدينتي بشارلي شابلن لأنني
أمشي مثل مشيته ، أبتسم ابتسامته ، أدمنت مشاهدة أفلامه إلا أنني أختلف عنه في حبي
للإليكترونيات ، أعيش وحيداً ، ينطبق علي قول رافائيل ألبرتي : أنت في وحدتك بلد
مزدحم ، بلغت درجة الحرارة 54 مئوية ، بمجرد خروجك إلى الشارع تتلظى ، أشاهد
غيوماً سوداً تجمعت وسط الحر القائظ في هذا الصيف المر ، وما صنعته هذه الغيوم من
فيء بارد ، اعلم أنها أجواء الشؤم التي تُذهِب البسمة ، أجواء تقبض القلب ، والمتبضعون
يسيرون غير مبالين بالحر لأنهم اعتادوه ، حرارة أنفاس الناس تتشظى حارة هائجة تصل
حد القسوة المنفرة ، وشمس الضحى القاسية التي تستمد لونها من لون العسل ، ابتسمت
للشمس العسلية ، تمنيت نزول المطر ، مطر مدرار ، بأصوات رنانة تملؤني بهجة لألوان
أكثر ابتساماً ، يمر أمام ورشتي الصغيرة وعلى الرصيف المقابل لورشتي رجال وأولاد
صغار ونسوة يتسوقن ، أسمع أصوات الحياة الصاخبة ، أضحك بفرح طفولي ، يحتسي رواد المقهى
أمامي الشاي رغم ارتفاع درجات الحرارة في هجير أكثر أيام الصيف قيظاً ، دخل شخص
علي لم أرفع رأسي لأراه ، أحسست بدخوله ، كنت منهمكاً في عملي ، رنوت إليه : جارنا
يحيى المنغولي ، كان يحيى نقياً ودوداً بريئاً عذباً بلا حدود ينجذب الناس إليه
كالفراشات ، يرنو لي ، يمسك بيده ستلايت قديماً جداً مع جهاز التحكم عن بعد ، يتلفت
ويبتسم ، يبتسم ويتلفت ، تلفت إليه وابتسمت ، ينظر إلي وانظر إليه ، كان يراوح
بقدميه وهو واقف وكأنه في كردوس عسكري أمر بمحلك قف ، مكانك قف ، وبشفتين يابستين أخبرني
بصوت فيه أشراقة رجاء ممزوجة بخجل مرت بقلبي ونشرت المسرة : إنه عاطل ، وعليّ إصلاحه ، شعر قلبي بالسعادة ،
راح قلبي يضرب بسعادة أضلاع قفصي الصدري ، ابتسمت ، ابتسم ، ضحكت ملء روحي ، ضحك
ملء روحه ، وما زحته : أنت عاطل عن العمل
أم الجهاز ؟ ضحك ، سافرت مع ضحكته بمزاج جديد داخل نفسي ، ضحك ملأ روحه الطاهرة ، كنت
انظر طوال حديثنا في عينيه المنغوليتين ، أخبرته بعد أن فحصت الستلايت أن الجهاز
صالح للعمل وبحالة جيدة ، وجهاز التحكم عن بعد كان عاطلاً ، طلبت منه شراء واحد
آخر من المحل المقابل لمحلي ، قال : ما عندي فلوس ، ضحكت بشدة ، أعطيته ثمن جهاز
التحكم عن بعد ، خرج فرحاً مطمئناً مبتسماً ، بيمناه جهاز التحكم عن بعد ، بعد
خروجه بلحظات رج المكان انفجار عنيف ، سبقه سطوع ضوء لهب أزرق مبهر ، غليان أحمر ،
موجة رعب ، صراخ ، وعويل ، خرجت من ورشتي بعد انتهاء الانفجار أركض مثل شارلي
شابلن لكن دونما عصا في جو ملؤه الفوضى والصراخ والدم والقتلى والجرحى والأشلاء
تملأ السوق ، صار المكان بشعاً ، ريح حمراء عصفت بالسوق والناس وكل شيء ، جعلت أرض
أور أرض دم ، أرى الدمار طال كل شيء ،هشم موجودات
السوق وجعل الناس أشلاء ، وكل شيء منقلب رأساً على عقب ، بقع الدم تملأ أسفلت
الشارع والجدران وهامات النخيل اكتوت بدماء القتلى والجرحى ، حفرة كبيرة ملئت
بجثثهم ودمائهم وبضاعتهم وبضاعة المحال التجارية وزجاج واجهات المحلات محطم ، البضائع
اختلطت بدماء الأبرياء ، صار شائعاً رؤية الأجساد الممزقة بعد كل انفجار ، خرجت
وسط الدمار مرعوباً منهك القوى والروح ،
هرعت من محلي هلعاً خائفاً ، هنالك حشد من الناجين ملطخ بالدم والوحل يحتشدون فوق
شيء ما ، يضربونه بشده ، ظننته لأول وهلة إرهابياً ثانياً يحاول تفجير نفسه ،
فعادة ما يعمد الإرهابيون إلى تفجير مزدوج ، بعد إن ينتهي التفجير الأول ، يتجمع
الناس لإنقاذ الجرحى يفجر إرهابي ثان نفسه ، كل من في السوق يضرب شخصاً ما ،
يصرخون أمسكنا الإرهابي الذي فجر العبوة الناسفة ، صدق حدسي ، تدافعت بين المحتشدين
شاقاً لنفسي طريقاً وسطهم ، بصعوبة بالغة
أبعدتهم ، أزحتهم ، تدافعت معهم حتى وصلت إلى الإرهابي ، رأيته ، انه : يحيى
المنغولي ! قد فارق الحياة لكثرة ما تلقى
من ضربات مميتة ، جسده مدمى ، يمسك بيده اليمنى جهاز التحكم عن بعد خاصته ، مات هادئ
البال مطمئناً ، تلقى موته ببسالة ورباطة جأش ، مبتسماً رغم أنف الموت وقد ارتسمت
ابتسامة عذبة فوق شفتيه الشبيهتين بفم السمكة ، عيناه المنغوليتان تطالعاني بحسرة
فيها لوعة ، فيها تعبير طفل مرعوب عوقب عقاباً قاسياً ، جثوت عليه غير مصدق ، راحت
دموعي تتساقط عليه ، تمطره . إذ أن الناجين يعتقدون انه من فجر العبوة الناسفة وسط
السوق ، رحت أصرخ في وجوههم المرعوبة مزيلاً اللبس الحاصل ، أخبرتهم الحقيقة ،
مقتله أشعل قلبي بالحزن ، شعرت بنفسي
وحيداً واحتضنته ، شعرت بقلبي حزيناً على مقتله في تلك اللحظات غربت شمسه ، ألقت غبارها
على قلبي ، انطفأت شمسه ، سرقت منه حياته ، سرقوها ، رحت أبكي بحرقة عليه ، حلمه
أصلاح جهاز التحكم والستلايت ليرى العالم ، كان طائراً مكسور الجناح ، كيف يستطيع
الخروج من أور ، مر موته صاخباً وبألم كبير ، مرقت فوقنا سحابة بيضاء قريبة غطت عالمنا القاسي
، نظرت صوبها وهي تحجب الشمس الحمراء المتوهجة المستديرة العمودية وسط سماء رصاصية
داكنة ، دوى صوت انفجار ثان .
الناصرية
فجر يوم الأحد 10/6/2018 م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق