علي السباعي
هذا ما قالته شهرزاد . . .
قمرٌ
أحمرُ أدكنُ تأرجحَ بين تربيعٍ أول وتربيعٍ ثانٍ . لا حل ، أُحتجزَ القمر تحت
الجذرِ التربيعيّ ، صافراتُ إنذار متقطعةٍ تلاها دويُّ طائراتٍ قادمةٍ تَسبقُها
التماعاتٌ فضيةٌ . انفجارات. صيحات . ارتعاشات ، دويُّ طائراتٍ مبتعدةٍ أعقبه
صافراتُ إنذار مستمرةٌ ، المدينةُ رادارٌ رماديٌّ كبيرٌ يسترقُ السمعَ وشهرزادُ في
آذانهِا وَقْرٌ سكتتْ عن الكلامِ المباحِ لسمَاعها إذاعة إعلانات متواصلةٍ نقلتها
كافةُ الإذاعات السمعيّةِ والمرئيّةِ :-
إعلان/
مطلوبٌ مُحِّنطٌ ماهرٌ بخبرةٍ لا تَقِلُّ عن عشرِ سنواتٍ / .
♣ ♣ ♣
إعلان/
درجةٌ شاغرةٌ لنجارٍ خبيرٍ بصنعِ التوابيت/ .
♣ ♣ ♣
إعلان / على مَنْ يجد في نفسهِ القدرة على النواحِ الحضور إلى قصرِ الامير شهريار/ .
♣ ♣ ♣
إعلان/
يرجى من: الدفاّنين ، النواّحين ، المّعزين ، قارئو الأدعيةِ حضورُ موكبِ
جنازة /.
♣ ♣ ♣
عَبَرَ
المشيعّونَ شوارعَ المدينة بتابوتٌ خشبيٌّ كبيرٌ
توّجَ مناكبَهم ، ضمَّهم دربٌ طويلٌ مزدحمٌ : دفاّنون ، سماسرةٌ ، متملّقون ،
شحّاذون ، منافقون ، انحدروا برهبةٍ كَسَرتْ مواشيرَ الضوءِ البلّوريةَ يبدون كشناشيلَ
مغروسةٍ في الإسفلت ، تمازجتْ أنفاسهم مندفعة مع ألوان ملابسهمْ المتدفقةِ كمدٍّ
بشريٍّ حركاتُهُ تزفُرُ زَبَداً رَغوياً زَنِجاً حَجَبَ شُقرةَ الشَّمسِ ، ساحَ
نواحُهم في شرايينِ المدينةِ بكاءً عَطِّلَ حواسهم عن التقاطِ لغطِ المشيّعين :-
-
مَنْ المرحوم ؟
-
مَنْ أهله ؟
-
ابنُ مَنْ ؟
-
كيف توفى ؟
-
هل أصابته شظّيةٌ نتيجةُ القصفِ ؟
-
أقُصِفَتْ دارُهم ؟
-
ماذا يشتغلُ ؟
تدافع وَسْطَ المشيّعين سؤالٌ اندفعَ كديكٍ يلاحقُ دجاجةً :-
-اغنيٌ أم فقيرٌ ؟
فاض بكاؤهمُّ مُحِّطماً سواتَر ترقُبهِّم سأل رجلٌ بدين ذو بذلة
أنيقة :-
-
هل المرحومُ موظفٌ كبيرٌ ؟
هتف دفاّنٌ بصوتٍ فيه نبرةُ يأس :-
-
افتحوا التابوتَ لنرَ مَنْ
بداخِلهِ .
بائعُ شموعٍ يضعُ سبّابتهِ على فمِ الدفاّنِ مُصدراً صوتاً
طويلاً :-
-
هُسّ !
كمشروع حلمٍ متسرب في حنايا الذاكرةِ تذكرتْ بطونُ الجياعِ
نواحَ بطونهم ، سأل احدهم ملبياً نداء بطنه:-
-
أَيوزّعون فيها ثواباً ؟!!
رجل دين بوجه مقمر ، قال بصوتٍ مخنوقٍ :-
-
نخسرُ . دائماً . نخسرُ .
النوّاح ماضٍ في ترديدِ موّاله الحزين :-
-
لا الهَ إلا هو 000 لا يدوم
إلا وجهُهُ 000 ذو الجلال و الإكرام 000
شحّاذٌ يحجلُ على عكاّزةٍ خشبيةٍ يدمدم بصوتٍ شاكٍ :-
-
لننتظرْ ! لنْ نخسرَ شيئاً
.
قارئُ أدعية نصحَهَم بصوتٍ مشروخٍ مثلُ قطارٍ سياحيًّ:-
-
اصبروا حتى تصلَ الجنازة
إلى مثواها الأخير .
♣ ♣ ♣
أضاءت
الشَّمسُ بغروبِها هاماتِ النخيلِ بشعلاتٍ لازوردية ، والمشيّعون ينظرون ناحيةَ
ضريحٍ ابيض مهَيبٍ يكسو جدرانَهُ رخامٌ أشهب
، بدا الضريحُ تحت ضوءِ الشَفَق كأنه زَفَرَ ناراً على مجمرةِ الأفق التي
كستْ جدرانَه نُعاساً بلونِ الدم ، تجمّع الدفاّنونَ ، المنافقونَ ، الشحّاذون ،
والسماسرةُ بينَ القبورِ مطوَّقين بأسوار هُلاميّةٍ بنقاطِ التفتيش ، بائعُ أكفان
يُفشي سرّاً :-
-
رجالُ الأمير اشتروا منيّ
كَفَناً يَسَعُ فَرَساً !
هَمَدتْ مجمرةُ الكونِ في كانونِ الأفق ، القمرُ
بتربيِعهِ الأول سجينُ جذرِهِ التربيعيَّ يبكي بدموعٍ من فضةٍ تَقَطِّرَتْ
بألتماعاتٍ معدنيةٍ ، همستُ مُتحّسراً :_
-
يا الهي ! ألتهمَ القمرَ
جياعُ العالمِ الثالث .
فَتَحَ التابوتَ رجالٌ انيقون ذوو بدلاتٍ سودٍ . ذهولٌ . ترقّبٌ
، اظهروا جثمان المرحوم : -
(( أربعة قوائمٍ
بيضٍ رشيقةٍ ، أُذنانِ بيضاوانِ كبيرتانِ ، عينانِ سوداوانِ واسعتانِ ، وجسدٌ ممشوقٌ رياضيُّ العضلاتِ ينتهي بذيلٍ
ابيض طويلِ )) .
♣ ♣ ♣
سكتتْ
شهرزادُ عن الكلامِ المباحِ لسَماعها بياناً مُهّماً نقلته وكالات الإذاعات السمعيّةِ
والمرئّيةِ ، بيان / يتوجَّهُ بالشكرِ الأمير شهريارُ إلى السادةِ مشيّعي
جنازةِ فَرَسِه / .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق