2018/08/07

تشييعُ القمر قصة بقلم: علي السباعي



تشييعُ القمر
علي السباعي

هذا ما قالته شهرزاد . . .
قمرٌ أحمرُ أدكنُ تأرجحَ بين تربيعٍ أول وتربيعٍ ثانٍ . لا حل ، أُحتجزَ القمر تحت الجذرِ التربيعيّ ، صافراتُ إنذار متقطعةٍ تلاها دويُّ طائراتٍ قادمةٍ تَسبقُها التماعاتٌ فضيةٌ . انفجارات. صيحات . ارتعاشات ، دويُّ طائراتٍ مبتعدةٍ أعقبه صافراتُ إنذار مستمرةٌ ، المدينةُ رادارٌ رماديٌّ كبيرٌ يسترقُ السمعَ وشهرزادُ في آذانهِا وَقْرٌ سكتتْ عن الكلامِ المباحِ لسمَاعها إذاعة إعلانات متواصلةٍ نقلتها كافةُ الإذاعات السمعيّةِ والمرئيّةِ :-
إعلان/ مطلوبٌ مُحِّنطٌ ماهرٌ بخبرةٍ لا تَقِلُّ عن عشرِ سنواتٍ / .

                                                          

إعلان/ درجةٌ شاغرةٌ لنجارٍ خبيرٍ بصنعِ التوابيت/ .

                                                          

إعلان / على مَنْ يجد في نفسهِ القدرة على النواحِ الحضور إلى قصرِ الامير شهريار/ .


                 
                                                          

إعلان/ يرجى من: الدفاّنين ، النواّحين ، المّعزين ، قارئو الأدعيةِ حضورُ موكبِ جنازة /.
           
                                                          

عَبَرَ المشيعّونَ شوارعَ المدينة بتابوتٌ خشبيٌّ كبيرٌ توّجَ مناكبَهم ، ضمَّهم دربٌ طويلٌ مزدحمٌ : دفاّنون ، سماسرةٌ ، متملّقون ، شحّاذون ، منافقون ، انحدروا برهبةٍ كَسَرتْ مواشيرَ الضوءِ البلّوريةَ يبدون كشناشيلَ مغروسةٍ في الإسفلت ، تمازجتْ أنفاسهم مندفعة مع ألوان ملابسهمْ المتدفقةِ كمدٍّ بشريٍّ حركاتُهُ تزفُرُ زَبَداً رَغوياً زَنِجاً حَجَبَ شُقرةَ الشَّمسِ ، ساحَ نواحُهم في شرايينِ المدينةِ بكاءً عَطِّلَ حواسهم عن التقاطِ لغطِ المشيّعين :-
-        مَنْ المرحوم ؟
-        مَنْ أهله ؟
-        ابنُ مَنْ ؟
-         كيف توفى ؟
-         هل أصابته شظّيةٌ نتيجةُ القصفِ ؟
-         أقُصِفَتْ دارُهم ؟
-         ماذا يشتغلُ ؟
تدافع وَسْطَ المشيّعين سؤالٌ اندفعَ كديكٍ يلاحقُ دجاجةً :-
-اغنيٌ أم فقيرٌ ؟
فاض بكاؤهمُّ مُحِّطماً سواتَر ترقُبهِّم سأل رجلٌ بدين ذو بذلة أنيقة :-
-        هل المرحومُ موظفٌ كبيرٌ ؟
هتف دفاّنٌ بصوتٍ فيه نبرةُ يأس :-
-        افتحوا التابوتَ لنرَ مَنْ بداخِلهِ .
بائعُ شموعٍ يضعُ سبّابتهِ على فمِ الدفاّنِ مُصدراً صوتاً طويلاً :-
-        هُسّ !
كمشروع حلمٍ متسرب في حنايا الذاكرةِ تذكرتْ بطونُ الجياعِ نواحَ بطونهم ، سأل احدهم ملبياً نداء بطنه:-
-        أَيوزّعون فيها ثواباً ؟!!
رجل دين بوجه مقمر ، قال بصوتٍ مخنوقٍ :-
-        نخسرُ . دائماً . نخسرُ .
النوّاح ماضٍ في ترديدِ موّاله الحزين :-
-        لا الهَ إلا هو 000 لا يدوم إلا وجهُهُ 000 ذو الجلال و الإكرام 000
شحّاذٌ يحجلُ على عكاّزةٍ خشبيةٍ يدمدم بصوتٍ شاكٍ :-
-        لننتظرْ ! لنْ نخسرَ شيئاً .
قارئُ أدعية نصحَهَم بصوتٍ مشروخٍ مثلُ قطارٍ سياحيًّ:-
-        اصبروا حتى تصلَ الجنازة إلى مثواها الأخير .

                                                        

    أضاءت الشَّمسُ بغروبِها هاماتِ النخيلِ بشعلاتٍ لازوردية ، والمشيّعون ينظرون ناحيةَ ضريحٍ ابيض مهَيبٍ يكسو جدرانَهُ رخامٌ أشهب  ، بدا الضريحُ تحت ضوءِ الشَفَق كأنه زَفَرَ ناراً على مجمرةِ الأفق التي كستْ جدرانَه نُعاساً بلونِ الدم ، تجمّع الدفاّنونَ ، المنافقونَ ، الشحّاذون ، والسماسرةُ بينَ القبورِ مطوَّقين بأسوار هُلاميّةٍ بنقاطِ التفتيش ، بائعُ أكفان يُفشي سرّاً :-
-        رجالُ الأمير اشتروا منيّ كَفَناً يَسَعُ فَرَساً !
هَمَدتْ مجمرةُ الكونِ في كانونِ الأفق ، القمرُ بتربيِعهِ الأول سجينُ جذرِهِ التربيعيَّ يبكي بدموعٍ من فضةٍ تَقَطِّرَتْ بألتماعاتٍ معدنيةٍ ، همستُ مُتحّسراً :_
-        يا الهي ! ألتهمَ القمرَ جياعُ العالمِ الثالث .
فَتَحَ التابوتَ رجالٌ انيقون ذوو بدلاتٍ سودٍ . ذهولٌ . ترقّبٌ ، اظهروا جثمان المرحوم : -
 (( أربعة قوائمٍ بيضٍ  رشيقةٍ ، أُذنانِ بيضاوانِ  كبيرتانِ ، عينانِ سوداوانِ واسعتانِ ،  وجسدٌ ممشوقٌ رياضيُّ العضلاتِ ينتهي بذيلٍ ابيض طويلِ )) .

                                                             

سكتتْ شهرزادُ عن الكلامِ المباحِ لسَماعها بياناً مُهّماً نقلته وكالات الإذاعات السمعيّةِ والمرئّيةِ ، بيان / يتوجَّهُ بالشكرِ الأمير شهريارُ إلى السادةِ مشيّعي جنازةِ فَرَسِه / .

ليست هناك تعليقات: