علي السباعي
أصوات قرع نواقيس كنيسة الأرمن
الواقعة بداية شارع النضال، تطرق سمعي بعدما خلّفتُها وراء ظهري ماشياً. خطوتي
بحجم مساحة بغداد في اتجاه ساحة الطيران، كأني فلاّح أحرث ابتسامتي في وجوه المارة. انعقد
الصبح وأنا وحيد، وضائع مثل ضوء في الضوء. صباح بغداد يفتح كل نوافذ البغداديين. أسمع أصوات ضرب النواقيس التي أعطيتها ظهري، لتصيبني أصداء
أجراسها الحزينة القديمة المنحدرة إليَّ بالحنين، محمّلةً ذكريات زمن جميل، وعواطف
صادقة، يوم كنت طالباً في عاصمة الدهشة، قادماً إليها من أور، مرتدياً قميصي
الأبيض الناصع، وذكريات حبّ منسية إبان الدراسة الجامعية تعصف بروحي، لتملأني
بسلام جديد؛ سلام بغدادي يشبه صباحاتها الربيعية الجميلة. أسمع صوتها هذا الصباح فينتابني شعورٌ باليقظة لأنني فيها،
وأنا أمرّ ماشياً على رصيف الشارع، من ساحة التحرير حتى جسر الجمهورية. نهاية محلة البتاويين، لازمني شعورٌ بأن أكون يقظاً لأنني في
بغداد. أمشي
مشرقاً صوب سوق هرج الباب الشرقي، ماراً بفرح كبير أمام واجهات استوديوهات
التصوير، وإلى جانبي الأيمن حديقة الأمة، قاصداً ساحة التحرير. ما دمت في بغداد، تستبد بي مثل هذه الحال. شمس دار السلام تكاد تأخذ وضعها
العمودي فوقنا. باحمرار خفيف يشع ضوؤها شاسعاً وسط سماء زرقاء واسعة مدهشة. يلفت نظري رجلٌ حلو القوام، رشيق، طويل، مرفوع الرأس، يرتدي
بذلة أنيقة فاخرة جداً. الرجل واقف، يتصل متحدثاً بصوتٍ عالٍ عبر هاتفه النقّال
الثمين، قرب قدمه اليسرى حقيبة ديبلوماسية سوداء. تستوي الشمس عمودية ساخنة. رجل البذلة لا ينحني للشمس الغاضبة، وأنا الذي ينحني لكل شروق
شمس، لا أعرف السبب الذي يجعلني أنظر إلى ذلك الرجل ممسكاً هاتفه الجوّال الفاخر
بيده اليمنى، واضعاً إياه على صيوان أذنه اليمنى البيضاء الكبيرة. تحيط بي عيون
عراقية تعكس الضوء بلونها الداكن. ذلك
كلّه، والرجل يتكلم بصوتٍ عالٍ، مخاطباً الرجل الآخر الذي يقيم الاتصال معه، وثمة
وجوهٌ مشرقة، مسفرة، ضاحكة، مستبشرة، ووجوه مغبرة، ووجوه صامتة منتظرة:
- كيف آتي إليك وحقيبتي مكتظة بالدولارات؟!
تطلّ شمس الزوراء مزهوة مطمئّنة، ترسم
تفاصيل خطوط ثوب عرسها الأبيض الواسع، تحوكه من غزل ضوئها الأبيض الوافر. بنظرة جانبية من عيني، أرى ملامح شخص
شاب يمشي بخطوات سريعة أقرب إلى الجري في ممرٍّ ضيّق محاطٍ بأشجار الرازقي، قادماً
من قلب حديقة الأمة، صاعداً بلاطات نصب الحرية البيض. أسمع صوت الشاب واضحاً يتحدث عبر
هاتفه:
- أخاف أن أسرق!
حرارة ثقيلة تبعثها محرّكات السيارات
السريعة داخل ساحة التحرير. حرارة الجو وموجاتها الحارة المتغيرة تجعل عرقي يتصبب بغزارة
فيتساقط على قميصي الأبيض الناصع. يصل
من أقصى حديقة الأمة، الشاب الذي يمشي سريعاً. الرجل ذو البذلة الأنيقة الفاخرة واقفٌ بثباتٍ في مكانه تحت
نصب جدارية الحرية، مستمراً في إدارة حديثه مع محدّثه بصوت عال. قبل أن يكمل رجل البذلة الأنيقة مكالمته الهاتفية، شابُّ حديقة
الأمة الذي يرتدي ملابس رياضية وينتعل حذاءً رياضياً، ينهب حقيبة الثري، الذي لم
تصدر عنه أية استغاثة أو صيحة لطلب النجدة. أقطب حاجبيَّ مستغرباً. رجال شرطة ساحة التحرير، يرابطون في
مكانهم لاهين مطرقي الرؤوس في تصفح هواتفهم الذكية. عينا الرجل الثري تضحكان وهو ينظر إلى اللص الذي يجري مبتعداً
بسرعة شديدة ناحية سوق هرج الباب الشرقي. بعد أن يعبر الشارع من ساحة الطيران الذاهب صوب شارعي
الجمهورية والرشيد أو جسر الجمهورية، يزوغ داخلاً حشد الناس شاقاً لنفسه طريقاً
بينهم، فرحاً بسرقته. وسط حشد
المتبضعين في هرج الباب الشرقي، يتناول الثري ذو البذلة الفاخرة هاتفه الخليوي
الثمين فتضغط أصابعه الطويلة القاسية بغيظٍ هائلٍ على أرقام لوحة مفاتيحه متصلاً،
ضاحكاً بمكر وكأنه يلعب لعبة ماكرة. تمر
لحظة قصيرة، أعيشها، ولا أتجاوزها. أرى من قريب الوهج البرتقالي يبرق صاعداً بلهيب أحمر، حازّاً
رقاب الناس إلى السماء، محتشداً بشعلة زرقاء محمرة، محمّلة أشلاء المتبضّعين. قبل قليل كنت روحاً مشرقة كالضوء. بعد لحظة صرت ضائعاً مثل ضوء
شمعة في مهبّ الانفجار. لم
أمت بسبب الانفجار الهائل الذي أشعل السماء بنيران خضر. الانفجار فانوس أضاء الوجوه الصامتة، وألحق الخراب بساحة
الحرية، وأزهق أرواح الناس بسبب القنبلة المزروعة في حقيبة الإرهابي الذي لم يغادر
ضحكته، وهو يرى الفخ الذي أوقع فيه سارقَها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق