2018/08/07

القصة القصيرة بيضاء تسحر الناظرين بقلم: علي السباعي



القصة القصيرة بيضاء تسحر الناظرين
علي السباعي

يمشي الكرام على آثار بعضهم . . .  وأنت تخلق ما يأتي وتبتدع
المتنبي

القصة القصيرة : تميمتي ، القصة القصيرة : سنبلتي ، وسنبلة القصة : دموعي ، ودموعي : قصص الناس ، وأنا لا أخجل من دموعي أبداً ، لأن قصتي بيضاء تسحر الناظرين ، ودموعي تضيء روحي ، وروحي تضيؤها القصة عندما أجد نفسي في عتمة وحزن أعيش لعنة دسائس تحاصر الإنسان المخذول داخل مجتمع قامع يهيمن عليه ضجر الموت ، وبؤس اللصوصية ، ليخلو من حركة تدفع به إلى التغيير ، كان ولازال الحزن الأول في حياتي ، رغم ذلك كان لي أمل  ، أن أرى هناك نوراً رغم كل العتمة التي نعيش ، أيقنت أن حزني لم يجعلني استثنائياً ، ما جعلني استثنائياً دفاعي عن معنى حياتنا ، ومعنى حياتنا نمّى  موهبتي في كتابة القصة القصيرة مذ كنت يافعاً ، تطورت متنامية قدرتي في صياغة الحكايات مع التناقضات التي عصفت بالعراق الجميل حيث عشت وعايشت نيرانها التي أكلت جذع نخلته المشرقة بالرطب الجني ، كنت أقرأ تحت ظلال نخلة العراق ، بيئتي ، وبين ما أقرأ وبين بيئتي ، قادتني القراءة لأن أرى العراق بكل أساه وروعته يدفعني بقوة على تأمل حياتنا ، وكان الاستغراق عميقاً في التفكير بحجم البؤس والظلم والحيف الذي يقع على ناسه الذين يعيشون حياتهم بلا أقنعة إبان سبعينيات القرن المنصرم حتى تخضبت ذاكرتي بقصص خالدة ، وتخصبت بالذكريات ، أعود بذاكرتي إلى مشاهداتي ، صورهم ، صور رمادية كالحة متلٍّبسة بتراب الانهيار الذي نعيشه ، فأعيش وجع صورهم الحية بينما يمضي قطار عمري سارداً في عز صيهود العراق القاسي حكاياتهم ، قطاري القصصي مثل قطار الموت محملاً بهموم راكبيه أصدقائي وحكاياتهم ، لكل واحد منهم قصة وذكرى ، عاصرتهم حتى امتزجت بأيامهم وأحلامهم بالكتابة عنهم ، يمكنني كتابة حكاياتهم فوق مساحات بيض زرعت خرائط أوطانهم المشتهاة ومدنهم الفاضلة التي يحلمون بالقصص ، قصة قصة ،  حبة حبة ، سنبلة سنبلة ، بيدر بيدر  ، قصصهم تشبه بطاقات بريدية ملونة بذكرياتهم الحية ، بينما هم ذاهبون صوب الفناء ، تقود قطار العمر ذكريات مرة وحلوة عند ساعات الفجر الأولى في مدينتي الناصرية ، وديك بيت الجيران يصيح بالجيران لبدء يوم كدح مشرق بالعناء والحر والابتسام المر ، وزقزقة عصافير سدرة مدرستي تخص الناس بالبهجة والفرح ، كنت أتأمل الكادحين الذاهبين إلى أعمالهم بوجوه ملفوحة بالقيظ والضيم والعسر وهم يرفعون لي أيديهم محيين ومعلنين احتفاءهم بغلبتهم على حياتهم وانتصارهم عليها ، أكتشف حياتهم في سوق مدينتي   الذي يعج بالنسوة اللائي يبعن القيمر والحليب واللبن ، ونساء محلتنا الكبيرات اللائي يخرجن باكراً لجلب الفطور الصباحي لأولادهن كنت أرقبهن بفرح طفولي مكتشفاً بائعي وبائعات الخضروات والخبازين والقصابين والحمالين وسائسي عربات الحمل التي تجرها بحزم خيول رشيقة مثل صباحات الناصرية الجميلة آنذاك ، وأبتسم فرحاً وعيناي تطوفان بين عربات حمل خشبية صغيرة محملة بالبضائع تجرها الحمير ، بينما أقراني الصبية من أبناء محلة الجامع الكبير يتشبثون خلفها بفرح صبياني  يلعبون في غفلة من حوذيي العربات المتعبين العصبيين المتصببين عرقاً ، تعلمت منهم الصبر الجميل النافذ والعنيد على وطء أشواك الحياة والمشي على جمر الواقع ،  أرقب هذه المشاهد التي لا تتكرر بفرح وصدق ويسر ومحبة واكتشاف ، كنت أحلق مثل طائر السنونو صوب ضفة الفرات الصادحة بالخير أكتشف حياتي التي تحيط بي  كانت ببساطتها جميلة ، كنت أقف عن يساري سينما الأندلس وعن يميني المكتبة العامة التي يديرها الراحل صبري حامد أول من كتب قصة في مدينة الناصرية ، وفي القلب ، أمامي بوابة " الأورزدي باك "  متأملاً صيادي السمك ، وزوارقهم الصغيرة المحملة بخير الفرات ، أعود مرتدياً ثوب الفرح إلى محلتنا ، وبيدي غرين الضفة أدهن به جدران بيوت محلتنا ، لأكون قريباً من أهلي وناسه ، قريباً إليهم مكتفياً بمراقبتهم ، مشاهدتهم ، كنت أرصدهم بفرح واكتشاف جميل ، أرصد موثقاً ما يجري في ذاكرتي . سقطت القصة على رأسي بيضاء تسحر الناظرين ، ولدت قصتي بيضاء تسحر القارئين حياتهم بين سطورها ، كتبت قصصي بمتعة وحزن ، قصص جديدة لأبناء وطني ، القصة القصيرة لي : كنسمة هواء عليلة في حر صيف العراق الجاف ، القصة : وحدها التي تؤلمني أينما حللت ، القصة القصيرة التي ضيعتني ، أنا أحب القصة القصيرة ، حبها الحقيقة ، القصة هي الحقيقة ، وهي حب حياتي كلها ، وأنت يا حبي ، يا قصتي أذوب بحبك ، ضيعني قلبي ، ضيعني حبك ، حبي للقصة القصيرة  جعلني أعيش أحداثاً لن ولم تمح ، يا ترى أيمحى الرصاص ، الخوف ، الحزن ، واللافتات السود التي حرثت بستان أرض قلبي بأظافرها الحادة القاسية التي حفرت ذكرياتها على جدار قلبي مثلما يكتب العشاق أسماءهم بقلوبهم التي ضربها سهم الحب على جذوع أشجار متنزه الناصرية ؟
أدون مثلهم دهشتي ، فرحتي ، عذابي ، ألمي ، وحزني الأول فوق جذع نخلتي بدموعي ، ولأول مرة أفضح هذا الألم العذب الحزين بقصصي التي تضيء روحي ، روحي التي فيها سنوات من الدموع لن تمسحها سنيّ العراق العجاف ، وأنا أهمس لمحبوبتي القصة القصيرة :
-       أنا لن أنساك أبداً .

ليست هناك تعليقات: