2018/08/01

سيميائيات النص الأدبي بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفلاقــة



سيميائيات النص الأدبي
بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفلاقــة

             تحيل السيميائيات على جملة من الدلالات المعرفية،وكثيراً ما يقع الخلط،والاضطراب في تحديد مفهومها،إلى درجة الاضطراب بين السيميائية،والسيميائيات،والسيميولوجيا،والسيميوتيكا،أو(السيميوتيقا)،والسيمائية،وقد اتفق أغلب المهتمين بقضايا السيميائيات،على تعريفها بأنها   العلم الذي يدرس الدلائل،وقد ظهر هذا العلم بصورة مستقلة عن غيره من العلوم مع نهاية القرن التاسع عشر،بيد أن التفكير السيميائي اقترن دائماً بالتفكير المتصل بالدليل اللغوي،ولهذا فهناك من يُرجعه إلى التراث الإغريقي،وبمفهومها العام، فالسيميائيات هي «علم الإشارة أو علم العلامات،وقال بعضهم:إنها علم يدرس العلامات ليتفاهم الناس فيما بينهم معتمدين في هذا التعريف على أمرين هما:أن النص عبارة عن شفرة مختصرة بين القارئ، والكاتب،وأن على السيميائية أن توجد العلامات التي تربط بين عناصر هذا النص، حتى يستطيع الناس التفاهم فيما بينهم عن طريقها.
             كما تعتمد على أن النص كعمل أدبي لا يشكل سوى10% من العمل الأدبي كاملاً والمتبقي هو ما يسمى ب(لا وعي الأديب)،الذي يفرغه في عمله الأدبي،فعناصر السيميائية التي يهتم بها الناقد هي:
1-العلامة:وهي(علاقة الدال وهو الصورة من النص،بالمدلول وهو فكرة النص لما في عمل المبدع وتكون في عقل المبدع).
2-المِثل:وهو فكرة علاقة المشابهة.
3-الإشارة:وهي الرمز الذي يحيلك إلى موضوع ما، يكون هو الركيزة التي يشير إليها النص»)1(.
           وفي الاتجاه نفسه تسير أغلب التعريفات التي قُدمت من قبل عدد كبير من النقاد المعاصرين، فالسيميائية تشكل«موضوعاً للدراسة من خلاله تستنبط الدلائل التي تنحصر في العلامات التالية:
      الإيقون:علامة تدل بنفسها على نفسها، حتى وإن لم يوجد موضوعها.
      الرمز:علامة تدل بنفسها على شيء من جنسها، أو ما يمكن أن يفهم منها.
     الإشارة: علامة تحيل إلى موضوع يدل على موضوع آخر.
     الخط:علامة كتابية متموضعة على شكل خطي.
     العدد:علامة واصفة لقيمة عددية تحيل إلى قيمة أخرى تنتجها.
     الكلمة المفردة:علامة دالة على نفسها وتحيل إلى شيء آخر باقترانها بمفردة مجاورة لها،أي بعد أن تتجسد كدليل.
               هذه العلامات تشتغل بالتداول، ولا يمكن أن تكون العلامة مكتفية بنفسها، بل يتطلب أن ينتج هناك سياق خاص لتنتظم العلامة ضمنه وتطرح دلالتها بحسب خصوصية  الموضوع المعين لها،وتطرح السيميائية نفسها على أنها نظرية متكاملة لا تتصل بموضوع أحادي، و لا بقيمة جمالية أحادية،ولكنها تتخذ من النص، وصاحبه، ومقصديته، والشروط الاجتماعية، والثقافية التي أوجدت النص خاصة لازبة في قراءة واعية ومنتجة تتعدى حدود الدرس الأحادي لتقدم قراءة لوضع وظرف خاص،إنها بحث عن الدلائل التي تحيل إلى مقاصدها الحقيقية وماذا يتوخى القارئ منها،في ظل وضع سياسي وثقافي، واجتماعي خاص»)2(.
                ويذهب الناقد الدكتور عبد الملك مرتاض لدى مناقشته لمعضلة الازدواجية في السيميائيات إلى أن«السيمائيات و-بالقياس إلى السيمائية- وبما هي متمحضة لمعالجة خصوصيات الحقل-بمثابة اللّغة من اللّسان.
-ترتبط السيمائيات،أساساً،بالثقافة الأنجلو/أمريكية(لوك،وبيرس خصوصاً)،في حين يرتبط مفهوم السيمائية «السّميولوجيا»بالثقافة الفرنسية (قريماس،بارط،كرستيفا)،على الرغم من أن قريماس عنون معجمه السيمائي بمصطلح «السيموتيكا».
-يبدو أن مصطلح السيموتيكا أقدم وجوداً، وأعرق ميلاداً-1555-في الثقافة الأوربية من مصطلح«السيمائية» أو«السيميولوجيا».الذي لم يتداوله دو صوسير إلا زهاء سنة:1910م.
-إنّ مفهوم السيمائية يرتبط أساساً بعلم اللغة،باللسانيات،في حين يرتبط مفهوم«السيمائيات» بالفلسفة، والمنطق في حال، والتطبيقات الأدبية، والسردية ،والثقافية في حال أخرى.
           وكذلك ابتدأت السيمائية طيبة فلسفية،ثم لغوية ولسانياتية،ثم لم تلبث أن تشعبت إلى أجناس أدبية، وأشكال ثقافية،مع احتفاظها بوضعها اللسانياتي،حيث الآن توجد عناية شديدة تسم سلوك المحللين والمتعاملين مع النصوص الأدبية من المعاصرين الذين تلقفوا مفهوم السيمائية فجاءوا به إلى النص الأدبي ليقرؤوه في ضوئه،بشيء كثير من القدرة الفكرية، والبراعة المنهجية فاقت كلّ الاهتمامات الأُخر التي يُبديها أصحاب الحقول الأخر من العلوم»)3(.
       سيميائيات النص الأدبي للدكتور أنور المرتجي
                 يحدد الدكتور أنور المرتجي في دراسته الجادة الموسومة ب: «سيميائيات النص الأدبي»،الصادرة عن منشورات كتاب الرافد في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة،جملة من القضايا التي تكتسي أهمية بالغة،ويجيب بسخاء عن كثير من الأسئلة، والإشكاليات العلمية التي ترتبط بقضايا سيميائيات النص الأدبي.
                يُرجع الباحث الدكتور أنور المرتجي في مدخله المعنون ب:«مدخل إلى السيميائيات العامة»،نشأة علم السيميائيات الذي يدرس الدلائل إلى بداية القرن العشرين،وينبه إلى أن التفكير السيميائي اقترن دائماً بالتفكير القديم حول الدليل اللغوي،ولهذا يُمكن إرجاع مصطلح السيميولوجيا إلى التراث الإغريقي،الذي يعتبر أن«السيميوطيقا بمثابة جزء من علم عام هو علم الطب،وكان موضوعها هو دراسة عملية فحص الأمراض اعتماداً على أعراضها.أما أفلاطون فقد جعل من لفظ السيميوطيقي مرادفاً لفن الإقناع،فالسيميوطيقا بهذا المفهوم قريبة من المنطق الصوري،لكن في القرون الوسطى سيعاد نفس النقاش الذي عرفه الفكر الإغريقي حول طبيعة الدليل اللغوي...» )4(.
               في مقاربته للمشروع السيميائي عند بورس وسوسير،يذهب الدكتور أنور المرتجي إلى أن كل واحد منهما طبع صيرورة التفكير السيميائي المعاصر،وعلى الرغم من عدم اتصالهما الشخصي،وعدم اطلاع كل واحد منهما على أفكار الآخر،فقد التقيا في نفس الهموم النظرية،وقد تجلى مجال الاتفاق بينهما بشكل رئيس في تأكيدهما على البعد الاجتماعي للدليل،الذي نلفيه صريحاً عند سوسور،ونجده غير صريح عند بورس،وقد ظهر الخلاف في تأكيد سوسور على أن الدلائل تعبر عن أفكار،بينما نجد بورس لا يبحث عن القصدية،أو إرادة الإبلاغ بين المرسل والمتلقي،بقدر ما يتضمن مجال التعريف السيميائي عند بورس،ظواهر تقوم بإقصائها سيميائيات سوسور،فمفهوم الدليل عند بورس يظل قريباً من مفهوم المؤشر،لأن سوسور كمفكر يمثل عصره،حسب تعبير جورج مونان.
            يشير الدكتور أنور المرتجي إلى أن سوسور اعتمد على آراء الفيلسوف دوركهايم في فهمه للبعد الاجتماعي،ليس كمجال لصراع الطبقات،بل عن طريق فهم المجتمع بطريقة مثالية بصفته وحدة متناسقة تجمع بين شتى الأفراد،ولهذا ليس من الغريب أن نلفي سيميائيات أتباع سوسور يغيب فيها البعد الاجتماعي،ويرى المؤلف أن الخلاف بين سوسور وبيرس يعتبر«خلافاً مركزياً،فقد انعكس على أتباعهما وتلامذتهما،لقد لخص طبيعة هذا الصراع جورج مونان كمواجهة بين أنصار سيميائيات التواصل،وسيميائيات المعنى،أو ما يمكن أن نسميه أتباع السوسورية،أمثال(تروبتسكوي،بريتو،بويصنص) الذين أكدوا جميعاً على طابع اللغة كنظام للتواصل،الذي لم يكن إلا ضمنياً في الدروس التي ألقاها سوسور،لقد أسسوا خصوصاً مع بويصنص وبريتو الأسس السيميائية التي سوف تتحول إلى وصف لعملية توظيف لجميع أنظمة التواصل غير اللغوية:من المنشور الإعلامي إلى نظام المرور،ومن أرقام الأوتوبيس إلى غرف الفنادق إلى النظام البحري الدولي.أما سيميائيات اللغويين التي تهتم بوصف أنظمة التواصل،فنجد جورج مونان ينتقدها باعتبارها سيميائيات لكي تكون حقيقية،يجب أن تقوم على مبدأ التعارض بين الإشارة والدليل،لأن الإشارة هي شيء آخر يميزها عن الدليل الرغبة الإرادية والمقصدية في التواصل...» )5(.
                وبالنسبة إلى المشروع السيميائي عند رولان بارث،فقد أشار الدكتور أنور المرتجي إلى أنه بدأ يتبلور منذ ظهور كتابه(علم الأساطير)،و(مبادئ السيميولوجيا)،والمنعطف النظري الذي اتجه نحوه هذا المفكر السيميائي تجلى في مراجعته للمسلمة السوسورية التي تعتبر أن اللسانيات ليست سوى تابعة للسيميائيات،وهي فرع منها،وقد اعتمد على آراء العالم هلمسليف،وليفي ستراوس،وحاول بارث أن يطابق بين اللغة والأنظمة غير اللغوية،وطالب بدراسة كل الأنظمة التواصلية(الموضة،المصارعة،نظام الأكل،الإشهار)،معتمداً على المنهج اللساني،الذي أوصله إلى نتيجة خالفت النبوءة السوسورية.
              لقد سعى الدكتور أنور المرتجي في مدخله المتميز إلى إبراز خصائص النظام السيميولوجي،ولعل أبرز ما جاء في محاولته هذه:
أ-يتميز النظام السيميولوجي«بالطريقة التي يؤدي بها الوظيفة،أي بالكيفية التي يصل بها النظام،ولاسيما الحاسة(السمع البصر).
ب-مجال الصلاحية وهو المجال الذي يفرض النظام نفسه داخله،حيث يمكن التعرف إليه واتباعه(نظام السلوك مثلاً).
ج-طبيعة الدليل وعددها،وهي مرتبطة بكيفية تأدية الوظيفة،ومجال صلاحيتها.
د-نوعية التوظيف،وترجع إلى العلاقة التي تربط بين الدلائل،وتمنح كل دليل وظيفة متميزة...» )6(.
         سيميائية القيمة المهيمنة و استراتيجية التناص
                    لدى حديثه عن سيميائية القيمة المهيمنة،تطرق الدكتور أنور المرتجي إلى الجهود التي قام بها جاكبسون عندما ميز بين اللغة الطبيعية،واللغة الشعرية(التي يقصد بها الشعر والنثر)،فهو عندما ميز بينهما،ميز ضمنياً بين موضوع علم اللسانيات،وموضوع البويطيقا،فمن أجل تعريف البويطيقا،قام جاكبسون بتقسيم العملية التواصلية إلى ستة عناصر،كل عنصر تقابله وظيفة محددة:السياق(الوظيفة المرجعية)،المرسل(الوظيفة الانفعالية)،الإرسالية(الوظيفة الشعرية)،المتلقي(الوظيفة المعرفية)،الاتصال(الوظيفة اللغوية)،السنن(الوظيفة الميتا لغوية).
                 إن كل عنصر من هذه العناصر المختلفة يرتبطـ،ويتعلق بوظيفة محددة،لكنها ليست دائماً واحدة،لأن هيمنة وظيفة ما على أخرى،هو ما يميز أنواع اللغات(اللغة العلمية،اللغة الفنية،اللغة الطبيعية).فالتركيز على السياق يحيل إلى الوظيفة المرجعية،في حين أن الوظيفة التعبيرية ترمي إلى التعبير المباشر عن موقف المتكلم نحو الموضوع الذي هو بصدد الكلام عنه(كالتعجب،والنداء،والتنغيم)،أما الوظيفة المعرفية فهي تحدث عندما يتم التأكيد على المتلقي،فتظهر من خلال الأمر والطلب،وتقوم الوظيفة اللغوية بتمتين التواصل بين المرسل والمتلقي،أم الغاية من«الوظيفة الميتا لغوية فهي أن تسمح للمتكلمين أن يتأكدوا من استعمالهم لنفس السنن،أو المعجم.
             إن الإضافة النظرية التي قدمها جاكبسون بالنسبة لسيميائيات النص الأدبي،وخاصة لمن أتوا بعده من الباحثين،تتمثل في إثارة انتباههم إلى الوظيفة الشعرية،وتحليله لعناصر ووظائف اللغة،كما أنه عرّف الفكر الغربي بكتابات الشكلانيين(خصوصاً فلاديمير بروب وآخرين)،مما دفع بالخطاب السيميائي،لأن يجد أمام طريق تأسيسه الأدوات المنهجية التي سوف يعتمد عليها» )7(.
                      نبه الدكتور أنور المرتجي إلى منظور الشكلانية الروسية التي وضعت جملة من المبادئ،ومن أهم هذه المبادئ قانون اقتصاد القوات الحية،الذي يعني أن خاصية الأسلوب الفني هو أن يقدم أقصى قدر من الأفكار بوساطة كلمات قليلة،حيث اعتبر خلوفسكي هذا المبدأ قاعدة كونية من أجل تمييز الأدب عن باقي الممارسات الدلالية الأخرى،لأن الأدب يمثل نوعاً من إزالة التعاطف،وإسقاط الغرابة عن الأشياء،وتجديد إدراكها،وهذه المبادئ تندرج في إطار الاتجاه الذي سعت إلى أن تبحث فيه الشكلانية الروسية عند تعريفها للأدب،حيث انطلق من وظائف اللغة كما حددها بوهلر،والتي قسمها إلى ثلاثة أقسام،وقد نبه جاكبسون أن موضوع الأدب ليس هو الأدب،وإنما الأدبية، أي ما يجعل من عمل ما عملاً أدبياً،فالوظيفة الأدبية،هي إسقاط مبدأ التوازي في محور الاختيار على محور الربط،فالتأكيد على قضية استقلالية العمل الأدبي عندما يقتصر على التحليل الداخلي للأدبية،هو إقصاء لمختلف النزعات النفسية،أو السوسيولوجية.
                  يرى المؤلف أن البحث في الخصوصية الأدبية،أو الخاصية المهيمنة عند الشكلانيين الروس،لم يكن مبحثاً أحادياً،أو ساذجاً،بل إنه يشكل مقاربة علمية جادة تسعى إلى تحديد خصوصية الأدب،لذلك فقد فضلوا تسمية أنفسهم بالمخصصين،بدل صفة الشكلانيين التي ألصقت بهم،كونهم يدرسون القيمة المهيمنة في العمل الأدبي،فجاكبسون يذهب إلى أن الأثر الأدبي لا يغدو ممكناً تعريفه كأثر يشتغل على وظائف أخرى،بل يجب أن يعرف في الواقع كإبلاغ لغوي تكون فيه الوظيفة الجمالية مهيمنة،لقد اعتبر الشكلانيون الروس القيمة المهيمنة دينامية،ومتغيرة،ومتحركة،فهي-وفق منظورهم-تتسم بالحركية،وليست ثابتة،فهم يرون أن الأثر الأدبي لا ينحصر فقط في الوظيفة الجمالية،بل إنه يحوي جملة من الوظائف الأخرى.
                 وينبه المؤلف الدكتور أنور المرتجي إلى أنه  يجب«ألا يفهم معنى القيمة المهيمنة عند الشكلانيين الروس كمقابل لنظرية الفن،التي حاربوها عند مناقشتهم لمفهوم التزامن السنكروني،والتطوري الدياكروني،ودراستهم لمشاكل الدراسات الأدبية واللسانية،ففي المقال الشهير الذي نشره جاكبسون عن الواقعية في الفن،يرى أن التوجس النظري الذي اتخذه الشكلانيون الروس،يعود إلى رفضهم اختزال العمل الأدبي،ومطابقة المستوى الجمالي بالمكون السياسي ،والإيديولوجي،الذي يعتبر موقفاً غير مقبول حتى من قبل الماركسيين(ماركس-أنجلس-لينين-وماو)،لأنه لا يراعي خصوصية العمل الأدبي باعتباره فضاءً مستقلاً،وبالتالي يؤدي إلى نفي إمكانية وجود خطاب نظري يحترم استقلالية الفن باعتباره ممارسة إنسانية واجتماعية متميزة.لقد حارب الماركسيون(خصوصاً ماركس)،الدعوة إلى المطابقة بين السياسي والأدبي،وأشاروا إلى ضرورة امتلاك القيمة المهيمنة...
              وفي أحد المقالات التي نشرها موكاروفسكي تساءل حول القيمة المهيمنة،وطبيعتها الكونية،حيث اعتبر أن البحث في هذا الموضوع قد مكن تاريخ الآداب من جني أخصب الثمار،وذلك عندما وقع البحث عن التغيرات المتعاقبة في الأعمال الفنية،ذلك لأن القيمة التي ظهرت في زمن ما،وكأن الزمن قد عفا عنها،هي ظاهرة ثابته وحيوية،تطالب مؤرخي الفن بأن يجدوا لها حلاً...» )8(.
                       عالج الباحث الدكتور أنور المرتجي جملة من القضايا الفكرية،والمعرفية التي تتصل بإستراتيجية التناص،فهو يذهب في مستهل مناقشته لإستراتيجية التناص،أن هذا المصطلح(التناص)،لا يمكن تعريفه إلا في تعارضه مع مفهوم النص،وهو لا يفترض دائماً تحويلاً لنصوص غريبة عن النص المعارض،فقد يحدث أن يكون التناص داخل النصوص الواحدة للمؤلف نفسه،كما هو الشأن-على سبيل المثال-عند الشاعر أراغون ،وقد نبه ميكائيل ريفاتير إلى دور القارئ في تلقيه للعملية التناصية،حيث يمثل التناص الإدراك من طرف القارئ للعلاقة التي توجد بين عمل أدبي وغيره من النصوص التي سبقته،أو لحقت به،وهذه الأعمال الأخرى تكون تناص العمل الأدبي الأول،كما أن إدراك هذه العلاقات هي أحد المكونات الرئيسة التي تحدد أدبية العمل الأدبي،كون هذه الخاصية(الأدبية)ترجع إلى الوظيفة المزدوجة المعرفية،والجمالية للنص الأدبي،حيث إن الوظيفة الجمالية تعود في مجملها إلى إمكانية وضع العمل الأدبي داخل تقليد أدبي،أو جنس أدبي،وإمكانية التعرف إلى أشكال سبق الكشف عنها في غير هذا النص،أما الوظيفة المعرفية،فهي«رهينة بدون شك في الإحالة الواقعية،أو الخيالية للكلمات على واقع خارجي كما هو الشأن عند إرسالية لغوية،ولكن في نفس الوقت هي إحالة إلى شيء قيل من قبل،أو بعبارة أصح إلى قول صار ذاكرة.
               تعتبر وظيفة التناص،سواء بالنسبة للقارئ أو الكاتب،مجرد تأكيد على حضور الخاصية الأدبية،لأن الأدب لا يصنعه إلا الأدب،كما أن دور التناص يتمثل في خلقه لمرجع ثابت،وفي إيجاد نوع من الشفافية بين النصوص وأصحابها تلغي الحواجز التاريخية.إن هذه الشفافية الوهمية للتناص التي تجعلنا نصدقها كنوع من التضامن الإيديولوجي،الذي ينسينا قيمة التاريخ الذي يخترق أصحابها،ويميز فيما بينهم» )9(.
         نظرية الكتابة والتفكيك
                  توقف الدكتور أنور المرتجي في مبحث مستقل مع نظرية الكتابة والتفكيك،فنظرية الكتابة تعتبر عند جاك دريدا استنطاقاً للمسكوت عنه داخل الممارسة البنيوية،كونها اقترحت موضوعات جديدة،وفتحت بذلك آفاقاً لم يكشف عنها من قبل،وذلك من خلال نقدها للميتافيزيقا التي تكمن داخل الفكر البنيوي(الشكلانيون الروس-مدرسة باريس السيميائية)من أجل بناء مشروع عقلاني،ومتماسك.
                    وفق منظور الباحث الدكتور أنور المرتجي،فنظرية الكتابة قامت بتفكيك المفاهيم المركزية داخل النسق البنيوي،واستبدال صرامة البنية ونظامها بالعرضي،واللا متوقع،أي أنها تسعى إلى البحث عن إمكانية الخروج من هيمنة اللوغوس والعقلاني،الذي يعتبر خاصية محددة للفكر الغربي منذ أفلاطون إلى الفلسفة الحديثة،وهذه الاستراتيجيات لا يمكن أن تتحقق إلا بإعادة النظر في مصطلح الكتابة،ودراسة الإستراتيجية العامة للتفكيك،من خلال رصد الهجرة التي عرفها مصطلح الكتابة على امتداد تاريخ الفلسفة الغربية،ولذلك نجد دريدا يفتح برنامجه بطرح السؤال التالي:لماذا اللسانيات؟أو لماذا وقع تفضيل وتقديس ما هو صوتي على حساب ما هو مكتوب،حتى صارت الكتابة مجرد صورة مكررة،أو إعادة إنتاج لما هو منطوق،أو كما قال سوسور عند تعريفه للكتابة(إن اللغة والكتابة تمثلان أنظمة مختلفة من الدلائل،والسبب في وجود النظام الثاني هو أن يمثل النظام الأول)،لأن موضوع اللسانيات لا يعرف إلا من خلال عملية التأليف بين الكلمة المكتوبة والمنطوقة،وهذه الأخيرة تمثل وحدها موضوع اللسانيات.
                في رصده لنظرية الكتابة وعلاقتها بالسيميائيات،يشير المؤلف الدكتور أنور المرتجي إلى الجهود التي بذلها جاك دريدا،الذي عمل من خلال كتبه العديدة على البرهنة بطريقة نقدية على حضور الميتافيزيقا داخل مفهوم الدليل،ولذلك تعتبر نظرية الكتابة مشروعاً تنظيرياً يسعى إلى تجاوز الرؤية البنيوية للدليل،وكذلك لعلم السيميولوجيا الذي تأسس اعتماداً على نظرية التواصل،ورغم إقرار دريدا بحدود المنظور البنيوي إلى الدليل،بيد أنه يرى أنه لا مفر من مواجهة المفاهيم البنيوية باعتبارها علاجاً،فهو يرى أن«سيميائيات سوسور قامت بدور مزدوج بالمقارنة مع التراث اللغوي السابق على ظهورها،لأنها عملت على الفصل بين الدال والمدلول،واعتبرتهما عملة واحدة،كما أن سيميائيات سوسور رفضت منذ ذلك مقارنة الدليل اللغوي كوحدة ذات وجهين بالمنظور المثالي الذي يشبههما بعلاقة الجسد بالروح،في هذا الصدد يقول سوسور في كتابه: (دروس من علم اللغة العام):لقد وقعت مقارنة الدليل اللغوي كوحدة ذات وجهين مع عنصر الشخصية الإنسانية التي تتكون من جسد وروح،إن مثل هذه المقارنة تعتبر ضعيفة، وغير مقنعة،برغم تأكيد دريدا على الوعي النظري المتقدم عند سوسور من خلال تعريفه للدليل اللغوي،فإنه بذلك يخالفه الرأي عندما يعطي أهمية للدليل،ويستحيل آنذاك تعميم مفهومه للدليل على مجالات أخرى تنتمي إلى أنظمة غير لغوية،وتتمثل الحدود المعرفية في تعريف سوسور للدليل اللغوي من خلال الخلاصات والنتائج الميتافيزيقية التي تترتب عن هذا التعريف.ما دام الأمر لا يتعلق بمفهوم معزول،وإنما بنسق فكري يرتبط بالمشروع السيميائي في شموليته،والدليل على ذلك نجده في مفهوم التواصل الذي يقوم على نقل الإرسالية من المرسل إلى المتلقي،أي على وجود ذات تتصف بالحضور السابق عن كل عملية دلالية أو تواصلية مما يربط المشروع السيميائي(حسب الأفق السوسوري)بدائرة ميتافيزيقا الحضور،أي أن الدليل و الألوهية لهما نفس مكان وتاريخ الازدياد،كما أن مفهوم البنية أو النظام بالمعنى السوسوري،والذي عرف في السنوات الأخيرة سلطة علمية تصل إلى حدود التبني،والمعتقد الإيديولوجي،يعتبر حسب دريدا مفهوماً يتسم بطابع غائي،أي أن البنية  تتحدد حسب البنويين أنصار نظرية التواصل عبر وجود أصل،أو مركز له هدف أو مقصد...» )10(.
                 و في سياق آخر ينبه المؤلف إلى أن نظرية الكتابة التي تتسلح بالتفكيك كأداة للعمل يجب ألا تفهم كمقابل للقراءة التفسيرية التي لا تجد أمامها سوى التأويل المجاني،والتي أحياناً يمكن أن تتحول عند البعض إلى تمارين بيداغوجية،فالتفكيك النصي يتضمن بالضرورة الربط بين النظرية والتطبيق.
                   وقد قدم المؤلف رؤيته عن الاقتصاد السياسي للدليل،وتابع بعض تجليات الخطاب السيميائي في المغرب،الذي يعتبره متميزاً بتجاوزه لحدود التمارين التعليمية،فقد تجاوز هذه المرحلة إلى استيعاب ناضج للمفاهيم،والنظريات، والمدارس النقدية.
  الهوامش:
(1) د.عماد علي سليم الخطيب:مرجع الطلاب في النقد التطبيقي،منشورات دار الكتب العلمية،بيروت،لبنان،2007م،ص:18-19.
(2)د.عقاب بلخير:نسقية المصطلح وبدائله المعرفية-دراسة نقدية-،منشورات دار الأوطان للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة،الجزائر،2011م،ص:23-24.
(3) د.عبد الملك مرتاض:نظرية النص الأدبي،منشورات دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع،الجزائر،2007م،ص:165.
 (4) د.أنور المرتجي:سيميائيات النص الأدبي،منشورات دائرة الثقافة والإعلام،الشارقة،دولة الإمارات العربية المتحدة،كتاب الرافد،العدد:91،أبريل،2015م،ص:7 وما بعدها.
(5) د.أنور المرتجي:سيميائيات النص الأدبي،ص:19 وما بعدها.
(6) د.أنور المرتجي:المرجع نفسه،ص:27.
(7) المرجع نفسه،ص:38.
(8) المرجع نفسه،ص:40 وما بعدها.
(9) المرجع نفسه،ص:66.
(10) المرجع نفسه،ص:90 وما بعدها.




ليست هناك تعليقات: