بقلم: عبدالعزيز دياب
.. ولما خرج
من باب البيت، ضحك ضحكة غجرية. نثر فى الفضاء كل ما بحوزته من تراب، تشكل أمامه
فرس من غبار، له جناحان يضرب بهما الفضاء، يسبح، يطوف حول البيت، فتزداد الشروخ
بجدرانه اتساعاً، وتزداد دهشة من حضر المشهد من الجيران وعابرى السبيل.
قال لأخوته:
سيكون خروجى من البيت- دون ذنب أتيته- وبالا عليكم، سيكون طردى- هكذا- دون ظلمة
تسترنى- لعنة تصيبكم، لم يصدقوه، رفضوا أن يمهلوه إلى الليل، رفضوا أن يمهلوه حتى
يلملم أشياءه الصغيرة، وذلك الصوت الخفى الغامض الذى انبعث من أرجاء البيت، لم يوقظهم
من شرورهم، لم يعرفوا أنه نداء الأشياء التى مستها يداه، فلم يسعه إلا أن يطوف
بينها ليربت عليها.
والذين حضروا
مشهد خروجه قالوا هم سبعة هو ثامنهم، وقالوا هم ثمانية هو تاسعهم، شهد هذا البيت
مولدهم جميعاً، وما تلك الخربشات التى اكتنفت الجدران إلا من وحى ألعاب الطفولة
والصبا.
ولما رأى أنه
مطرود لامحالة من فردوس الخربشات: أشجار التين والزيتون. النخيل والأعناب. الطير
السابحات، الكلمات التي علمتهم الجدران كيف ينطقون بها، منبوذ كخرقة نتنة،
استحلفهم بوحى ألعاب الطفولة والصبا أن يمهلوه دقائق معدودة، فحط على رؤوسهم طائر
الصمت، نظر في عيونهم يبحث عن شىء ما، ولما أطال النظر قال الحاضرون مشهد خروجه
ساخرين. شامتين. متفرجين: لقد أضاع دقيقتين، وأخوته السبعة أو الثمانية كانوا فى
غضب وثورة يتساءلون: ماذا سيفعل بهذه الدقائق؟
قال الحاضرون مشهد خروجه: أبله لا يستحق أن يعيش
فى هذا البيت، ولا في هذه البلدة. انفض عن المكان نصفهم قائلين: افعلوا به ما شئتم.
تجول في حجرات
البيت: حجرة الضيوف. حجرات النوم. حجرة الخزين. زريبة البيت. حجرة الطيور، يقبض من
أرضية كل واحدة حفنة تراب، فكان كلما انتقل من حجرة إلى أخرى كان الحاضرون يقعون
تحت وطأة أصوات مبهمة خفية، أشبه بأصوات أغصان تتكسر، أو معاول تهدم، أو رحى تطحن،
ربما كانت كل هذه الأصوات مجتمعة تأتيهم. يباغتهم حضورها القوى، فيما تغازلهم
مشاهد غير يقينية كانفلات الجدران وتباعدها، أو تقازمها، فيتخيلون هبوط السقف
مقترباً من رؤوسهم ، وقبل أن تحملهم الأقدام لتركض بهم إلى خارج البيت، تعاود
الجدران التحامها. تطاولها، حاملة معها السقف لأعلى، مرتدة إلى سيرتها الأولى، لكن
الشىء المؤكد الذى لا يحمل مجالا للشك، تلك الخطوط الرفيعة المتشابكة التى اكتنفت
الجدران كخريطة مشوهة، وتقافز مشاهد سريعة. مبتورة. متداخلة من أيام الطفولة
والصبا أمامهم، وعندما أتم حفنات التراب سبعاً يحملها فى ذيل جلبابه، بلغ بهم
الحنق منتهاه وانفجر غضبهم.
لم ينتظر
الكبير. الغشيم فيهم حتى يخرج بسلام، دفعه دفعة قوية نفضته إلى خارج البيت، فهل
كانت ضحكته القوية الساخرة نتيجة يقينه الراسخ بأن الجدران سوف تمزقها الشقوق إذا
هو أطلق إلى الفضاء فرساً من غبار، والحاضرون مشهد خروجه من الجيران وعابرى السبيل
تهامسوا بأنه ساحر ما كان ينبغى أن يطرد من البيت هكذا، فيما كانت شقوق البيت تتسع
وتنفض الجدران خربشاتها: أشجار التين والزيتون. النخيل والأعناب. الطير السابحات.
الكلمات التي تعلموا كيف ينطقون بها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق