سلاماً.. فلاحنا الفصيح د.حسين علي محمد
بقلم: شريف صالح
"أقم العدل لرب العدل" هكذا خاطب الفلاح الفصيح الوزير الأول.
فلاحنا الفصيح كان ويكون وسيكون مضطراً إلى الخروج.. الخروج من القرية إلى المدينة.. من الجهل إلى العلم.. من الوطن إلى الغربة.
فلاحنا الفصيح كان ويكون وسيكون محنياً قليلاً لثقل الأمانة التي يحملها على ظهره: الإيمان الفطري، طلب العدل، والتمسك بالأرض.
وعندما يتعرض لمظلمة من مدير بيت الفرعون ووزيره الأول وصاحب الضيعة لن يكون مشغولاً بهاجس الذات ماذا ربحت ماذا خسرت.. لأن جده الأول لم يطرح قضيته قط كخلاف شخصي يحله التراضي، بل كفلسفة بِكر حول العدالة معنى وقيمة:
"أقم العدل لرب العدل"
نعم هو فلاح لكنه صاحب كلمة يقولها بالتي هي أحسن في وجه أي كان.. بأقصى درجات الاحترام وضبط النفس وليس بالبذاءة ورفع السلاح، فغايته النبيلة تبرر وسيلته النبيلة.
فلاحنا الفصيح لا يعرف إلا أن يزرع ثم يصبر على الثمار مهما طال الزمن. حتى وإن هلك الحصاد ألف مرة يعاود الزرع بعزيمة أشد.
قد يتهكمون عليه في صورهم السينمائية والتلفزيونية هزلاً ومبالغة، و سأضحك مثل غيري على صورته وهو يتفل على إبهامه كي يبصم في ورقة السلطة، ثم لن أبالي. لأنني أدرك أن للفلاح المصري وجهاً آخر، فهو وريث هذا الفلاح الفصيح الذي عاش قبل أكثر من أربعة آلاف عام. هو الجندي المجهول الذي ينتصر بنبالة ويخسر بشرف، مع وعيه التام أن النياشين والأوسمة ستمنح لغيره.
رحالة كثر مروا به فرأوا النحافة والأنيميا والكد والشقاء، لكنهم لم يلتقطوا أمارات النجابة في وجهه ونكاته وحسه السياسي الساخر وصبره على جار السوء إلى أن يرحل أو تأتيه مصيبة تشيله.
فلاحنا الفصيح مجهول رغم أنه علم.. فقير لكنه أغلى من الذهب.. حكيم وإن لم يعرف أبجدية القراءة والكتابة.. يصلي لله بجوار زرعه وضرعه دون وساطة كاهن.
وعلى خطى فلاحنا الخالد، خرج د.حسين علي محمد من عمق الدلتا الخضراء.. من إحدى قرى الشرقية إلى قاهرة العلم والثقافة.. إلى دار العلوم أيقونة علي باشا مبارك. ثم واصل رحلة الخروج من الوطن إلى الغربة.
كأن الخروج قدره، كي يبقى مشدوداً بكل عنف الحنين إلى بقعته الأولى.. إلى النيل وشجرة التوت والجذور، إلى دورة النماء والحياة.
ومثلما بث الجد الأول كلمته في خطابات بليغة، قال د.حسين كلمته عدلاً وإبداعاً وعفة نفس. لم يمل من قولها ولم يبتذل الوسيلة.
حتماً أخفى آلاماً كثيرة، فلم يتوجع لأحد شاكياً غربة واغتراباً، ولا إنكار حقه في جوائز وأوسمة ونياشين.. فهكذا هم الفلاحون صامدون حتى آخر نفس قرب تراب الوطن.. رائحته وروحه.. ولا وقت لديهم لصعود منصات التتويج.
ثم أين يذهبون بطيبة قلوبهم إزاء مكر ابن المدينة والمتنكرين في جلود أبناء المدن؟ أولئك الذين يبتدعون الأوسمة كي يمنحوها لأنفسهم.. لتكريس جدارتهم على جدران مقابرهم.
فلاحنا الفصيح ليس منذوراً للضوء والشهرة، بل للفرح بنبتة القمح وشق النهر. وما بين غياب في الحروب ونضال صامت ضد الأمراض، لا يذهب فلاحونا الفصحاء إلى المستشفى للعلاج، فليس لديهم هذا الترف، بل يطلبون الراحة الأبدية على أسرة بيضاء. يستسلمون في لحظتهم السرية التي يختارونها بدقة، وهم بكامل عنفوانهم قبل أن يصيبهم عته الشيخوخة وآفة الاحتياج إلى مُعين.
بهذه الطريقة تقريباً ودعنا د.حسين علي محمد. فما بين مرضه الأخير ورحيله ليس سوى أيام معدودة! كأنه رأى في بلوغ الستين زمناً كافياً لتسليم راية النبل والكفاح إلى فلاح آخر. ما المبرر كي يستلقي طويلاً على فراش المرض ونحن نواسيه بثرثرات فارغة؟!
لقد زرع ما فيه الكفاية في أراض بكر.. أضاء على آخرين، وغرس مقالات وأشاع ثقافة وانتقى أخباراً وحصد محبة.. الآن يحق له أن يمضي هانئاً إلى قيلولته السعيدة، راضياً مرضياً.
ذهب مثالاً سامياً في إنكار الذات وطيبة القلب وعفة النفس. ومن تجاوز ذاته كان قادراً على أن يتجاوز علامات مرضه، فلم ينشغل أو يشغلنا بها.
مأساة فلاحنا الفصيح، إذا جاز أنها مأساة، أن روح النيل الدافق تتلبسه فيفيض إلى ما لا نهاية.. يعطي من يستحق ومن لا يستحق، دون أن ينتظر ثمناً من أحد.
لا يجف النيل ولا ينهزم أمام الزمن. وهكذا كان فلاحنا الفصيح يفعل الخير ويلقيه في النهر، ليقينه أن بذرة واحدة تكفي كي تزهر شجرة تفاح. وقد فعل د.حسين علي محمد خيراً كثيراً ألقاه في أنهار حياتنا.
فنم هادئاً يا أستاذي الجليل تحت ظلال ما غرست وما زرعت وما بذرت. ولا أقول لك وداعاً
بل سلاماً سلاماً
سلاماً فلاحنا الفصيح
نقلا عن منتدى القصة العربية