ماذا لو عاد عبد الناصر؟
فؤاد قنديل
السؤال
في حد ذاته مرفوض من الناحية الدينية لأن " لو " تفتح عمل الشيطان ، ومرفوض
من الناحية العقلية لأن الميت لا يعود مطلقا ، ومع ذلك فالسؤال مرغوب جدا من
الناحية الجدلية والافتراضية من أجل الحوار المثمر والفوائد التي يمكن أن تعود على
أطراف النقاش أيا كانت توجهاتها بسبب خصوبة التجربة وثراءها خاصة أن صاحبها خلال
سنوات قليلة نسبيا لم يتوقف لحظة من ليل أو نهار عن التفكير والعمل والحركة النشطة
والدفع بعجلة الإنتاج واالدخول في معارك ومواجهة تحديات صعبة ، واستطاع أن يحدث
تغييرا هائلا في كل مناحي الحياة في مصر والعالم العربي وأفريقيا .
للإجابة على هذا السؤال يتعين البدء بالتركيز
على الثوابت التي كان الرجل يحرص عليها ولا يقبل اختصارها أو تخفيضها أو التغاضي
عن بعض جوانبها ، فليست العدالة الإجتماعية محل نقاش ، ولا الكرامة ولا الانحياز
لكل أفراد الشعب خاصة الفقراء ، وليس لديه أي استعداد للتخلى عن التعليم الجيد جدا
، وجزء أساسي منه إرسال البعثات إلى الدول الغربية حسب التخصصات المطلوبة ، ولن
يسمح بأن يكون الجيش المصري أقل من أي دولة في الشرق الأوسط ، ولأنه مولع باكتشاف
النابغين في كل المجالات فسوف ينشر رجاله في كل ركن من أركان الجمهورية للبحث عن
الموهوبين ورعايتهم وتوفير كل ما يستنفر عبقريتهم ، وهو بالطبع لن يتراجع عن
إيمانه بالدوائر الثلاث : الدائرة العربية والإسلامية والأفريقية ، ولا يمنع هذا
من تعاونه مع الدائرة الأوروبية دون التحام شديد أو محاولة الاندماج تحت أي مسمي
نظرا لرفضه للأحلاف والتكتلات المشبوهة كما أنه سيظل رافضا للتبعية والوصاية ومن
هنا لن يقبل المعونة الأمريكية حتى لو تضاعفت لأن المعونة ببساطة تعنى الغطرسة
واليد العليا وهو لا يقبل البتة أن تكون مصر صاحبة اليد السفلي فتجاربنا مع أمريكا
تكشف كم هم مغرمون بامتلاك العبيد ، وهو يؤمن بأن حمارتك العرجا تغنيك عن سؤال
اللئيم.
سيظل
عبد الناصر حريصا على بناء المصانع لأنها المدارس الحقيقية للعمالة الفنية ، ولتشغيل
أكبر عدد من الخريجين العاطلين ، ولتوفير كل السلع الاستهلاكية وتطوير صناعتها عن
طريق توفير الخامات الجيدة والاستعانة بالفنيين الأجانب وفتح الأسواق في كل دولة والاحترام
الشديد لمبدأ التنافسية ، ومن المتوقع أن يتعاون تعاونا وثيقا ومتوازنا مع الصين .
وسوف يظل كما كان ضد الاستيراد إلا في حدود ضيقة سواء للمواد التي لا يوفرها السوق
المصري أو للآلات التي لا نستطيع تصنيعها أو
الأسلحة المتقدمة . وسوف تتغير بالقطع نظرته للوضع الاقتصادي القائم على
امتلاك الدولة لكل أدوات الإنتاج ، لأن الاشتراكية انتهت من العالم تقريبا ، ويمكن
بناء على ذلك تحديد مجالات القطاع العام وقصرها على صناعات وشركات قليلة بحيث تكون
مختصة بما لا يمكن للقطاع الخاص العمل فيه ، مثل عربات السكك الحديدية أو بناء
المشروعات الكبري ، حتى تلك المشروعات ستكون تعاونا بين القطاع العام والخاص ،
ومسموح تماما لكل رجال الأعمال بالعمل والاستثمار فيما يشاؤون من مشروعات شريطة
احترام العما ل ، والانتظام في دفع الضرائب المقررة وعدم تلويث البيئة ، كما أن
بالإمكان تشجيعالأفراد على تأسيس التعاونيات لخدمة الخطط الزراعية أو الصناعية بما
يستهدف تطوير الإنتاج والتوسع في التصدير.
عبد الناصر الجديد العائد لن يكون حادا ولا
متعنتا مع الغرب ، ولكنه بعد التجارب الكثيرة والمتغيرات الدولية نتوقع أن يكون
أكثر استعدادا للحوار و التعاون والاستماع للأفكار الجديدة ويمكنه بعد الدرس
تقبلها إذا كانت في صالح الأمة ، المهم ألا يكون ذلك على حساب كرامة الشعب المصري
وكرامته، وألا تكون هناك شبهة استغلال .
أما عن الديمقراطية فسيكون ميالا لها جدا لأنه
لابد قد عرف أن غيابها عمل ضده في أحيان كثيرة ، منها حرب 67 ، وقبلها في مساندته
المبالغ فيها لثورة اليمن، ومن المؤكد أنها كان يمكن أن تخلص الوطن من القائد
العام للقوات المسلحة الذي لا يتمتع بأية معرفة عسكرية حديثة وما لديه لا يعدو
تراثا متكلسا أقل من مستوي محاربي الحرب العالمية الثانية ،
وقد هيمن تماما على الجيش وامتلك بالإغراءات
قيادات جميع الأسلحة ، بحيث تعذر أن يستجيب أحدها للقائد الأعلى ، ومنها
تشكيل الفكرة الشهيرة عنه بوصفه ديكتاتورا و التي لم تكن دقيقة في كل الأحوال .
وسوف تعينه الديمقراطية على أن يشيع مناخا واسعا من الحرية يتم فيه تبادل الأفكار
والسماح للجميع بالتعبير ، ولن تثيره الأفكار المختلفة ولا المنحرفة التي كان قد
بالغ في الخوف منها على الثورة ، لكنه
بالقطع سوف يقلق بسبب تدني الأخلاقيات. أظن أنه لن يرحب بالديمقراطية التي تسمح
للجميع بمهاجمة الجميع على النحو الجاري الآن . يتعذر عليه أن تتعطل الحياة بحجة
الديمقراطية التي أوقفت تقريبا كل شيء ، وتحولت عشرات الألوف من الدعاوي للمحاكم
بسبب عبارات متجاوزة تخوض في الأعراض لأتفه الأسباب ، وأتوقع أن تشكل لجنة رفيعة
المستوي لوضع أسس الحوار وأطره كي يتحرك الجميع بمنتهي الحرية وفقا لها دون أن
نبدد أعمارنا وطاقاتنا في النزاعات وحشد المؤيدين وتأجيج العداوات .
لم يكن عبد الناصر
ليقبل المراهنة على رجال الأعمال بالصورة التي نهبت معظم ثروات مصر ، وأشاعت فيها
الفساد والرشوة والمحسوبية ، ولكنه طبقا
لمبادئ ثورة يوليو سوف يساند الرأسمالية الوطنية
التي تبني لصالح الجماهير ولصالح نفسها طبقا لأصول وقواعد العمل الشريف
الذي يخضع للرقابة والتوجيه دون فرض قيوديمكن أن تكبح محاولات التطوير والتجديد .
وسوف يظل حريصا على أن كل ما تملكه مصر سوف يكون دائما للمصريين .
سوف يحافظ عبد الناصر
على دعم الرغيف والخدمات الأساسية التي تيسر معيشة البسطاء ، لكنه سيرفع بالتأكيد
الدعم عن المصانع وعن الموسرين ، فالدعم
فقط لأصحاب الدخل المحدود ، وسوف يشجع بناء المحطات النووية ومولدات الطاقة
الشمسية ، مع استخدام كل الأساليب الحديثة
في الزراعة والصناعة والإدارة . وما كان يسمح ببقاء ثلاثة أرباع البلاد مثل سيناء
والصحراء الغربية والشرقية دون تعمير
وتنمية حتى يخف الضغط على القاهرة التي تستنزف أكثر من ربع موارد الدولة .
لن يجلس جمال على أي
كرسي قبل أن يطلب تعديل معاهدة كامب ديفيد
بحيث تستطيع مصر حماية كامل التراب الوطني وتنمية سيناء بأسرع وقت ، ولابد
أنه سيشعر بأهمية الحاجة إلى تكتل دولي مثل حركة عدم الانحياز، فيعمل على تأسيسه
على أن تكون من بين أعضائه الفاعلين روسيا والصين وإيران وتركيا وعدد من الدول ذات
الثقل حتى يقلل من هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم ، أما فيما يخص
القضية الفلسطينية فلن يتركها كما هي الآن للتآكل، لابد أنه سيبحث عن سبيل كي يستعيد الشعب الفلسطيني حقوقه
، سواء بالحوارأو بممارسة ضغوط من جانب التكتل الدولي الجديد أو فتح طريق مشترك
بين مصر وفلسطين للتفاوض مع الصهاينة من أجل إعلان فلسطين دولة متماسكة الأطراف
وغير ممزقة أومهددة بالاستيطان .
سيقول البعض ليس من
الواجب أن تخلع على عبد الناصر صفات ليست من الأصل فيه ،و إنك تتوقع أن يتصرف على
نحو مثالي يندر أن يأتيه هو أو غيره ، فأقول : لقد بنيت رأيي السابق كله على
معطيات ناصرية ولم أنسب إليه أمرا ترفضه شخصيته ، وسندي في ذلك ما يلي :
1 – كل ما ذكرته على
أنه ثوابت ليس من عندي فهي أمور كانت سمات أساسية وأفكار راسخة يؤمن بها دون أي
تحويل مهما كانت المغريات مثل الكرامة والعدالة الإجتماعية والانحياز للفقراء
وحرصه على العلم واستقلال القرار .
2 – حديثي عن توجهه
إذا عاد نحو الديمقراطية ليس جديدا عليه وإن لم ينفذه ، بدليل أن كثيرا من أعضاء
مجلس قيادة الثورة ومنهم السادات ذكروا فيما دونوه في مذكراتهم وتصريحاتهم أن أكثر
من كان يرفض العنف هو عبد الناصر والوحيد الذي طالب بتطبيق الديمقراطية هو جمال .
كما أن بيان 30 مارس سنة 68 فيه اعتراف واضح بأنه قصّر في حق الديمقراطية ، وأن الظروف
التي تسببت في تأجيل ترسيخها وبناء مؤسساتها سوف تنتهي بعد إزالة آثار العدوان ، وأول
ما يجب عمله بعدها مباشرة هو تحقيق الديمقراطية ، كما أن الكثيرين لا يعلمون أن
جمال كان ديمقراطيا في كثير من الاجتماعات الخاصة بمجلس قيادة الثورة ومجلس
الوزراء ، وكان يجيد الاستماع للآخرين لكنه كان يستثار بسرعة إذا أحس بأن هناك نية
للانقضاض على مكاسب الثورة أو إلغاء حق من حقوق العمال .
3 - كان عبد الناصر يؤمن بالحداثة والتحديث بدليل
البعثات ، كما كان يؤمن بالحرية ومعها الأخلاق التي تحمي من الشطط ، ويكفي أن من
عاش أيامه كان يري البنات والسيدات في الشارع المصري يلبسن ما يريدن دون أن يمسهن
أحد أو يتحرش بهن رجل ، ولم يطالبهن مسئول في المصانع أو المؤسسات المختلفة أو
الإعلام بلبس الحجاب أو النقاب أو القعود في البيت .
لا ننسي أن ثورة 25
يناير لم تجد مطالب لها غير ما سعي إليه ناصر وحققه بالفعل وأضاعه من جاءوا بعده
خاصة مبارك الذي ارتمي بطريقة مذلة تحت خيمة أمريكا ، وهذا يعني أن ما دعا إليه
جمال قبل خمسين عاما وزيادة يصلح لكل زمان ومكان .. صالح لنا ولغيرنا مع إضافة
واحدة مهمة وضرورية هي الديمقراطية المضبوطة بمعايير موضوعية تعتمد وتحترم أدبيات
الاختلاف.