2012/09/02

"الخجل المميت" قصة بقلم: محمد نجيب مطر

الخجل المميت
محمد نجيب مطر
لقد تربى في بيئة ريفية تعتبر أن مجرد النظر إلى فتاة عيب وحرام، وأن الفتاة هي الفتنة الكبيرة للرجل والتي يجب الهرب منها للنجاة بنفسه، بالإضافة أنه من النوع الخجول الذي يمنعه خجله من الاسترسال في الكلام مع أي فتاة، ولهذا كان يخرج حديثه إلى أي بنت متقطعاً وسريعاً وكأنه يؤدي واجباً ثقيلاً يود أن ينتهي منه في أسرع وقت، ذات يوم أخبره زميل له في الكلية أن هناك فتاة في الصف الأول ترمقه بإعجاب، فظن أنها دعابة ليس لها أساس من الصحة، وبدأ يهتم بمراقبة تلك الفتاة من بعيد فوجدها بالفعل تراقبه وتتعمد النظر إليه وتشجعه بابتسامتها على التعرف عليها، ونجح بعد جهد جهيد ان يلقي عليها تحية الصباح وبعد أن ردت عليه التحية شجعته على مد حبل الحوار معها فسألته عن اسمه وسنة دراسته وأحواله و في أثناء حديثهما أخبرها أنه يذهب إلى حديقة الأورمان أمام الجامعة بعد صلاة العصر ويأخذ معه بعض المحاضرات ليذاكرها هناك كما تعود أن يفعل في قريته الصغيرة، فابتسمت وكأنها فهمت شيئاً لم يكن يقصده، استمرت العلاقة بينهما على النظرات والابتسامات فقط وبعض الأحاديث العابرة، كانت ترى فيه رجولة وشهامة وبعد عن التظاهر والاستظراف أمام البنات كما يحلو لزملائه أن يفعلوا، فهمته وفهمت مشكلته وأحبت أن تظل هذه المشكلة فيه، ولم تحاول أن تخرجه من عزلته عن الجنس الآخر بل شجعته على ذلك حتى لا يستأثر به أحد غيرها ، كانت تسمع نبضات قلبه وهي تدق بعنف أثناء الحديث وكلما نظرت إلى عينيه، وحين يراها تتبدل أحواله وتتغير ملامحه ويتهدج صوته، كانت حينما تنظر إليه وتبتسم ترى حاله وكأنه تلقى صفعة شديدة على وجهه من الخجل، ولو قالت له صباح الخير خرجت جملة صباح النور من داخله وكأن روحه تخرج معها، أحب فيها بساطتها وتبسطها معه في الكلام وأحس معها لأول مرة أن هناك من تقدر شخصيته وأنه مرغوب فيه وأنه ليس أقل من زملائه وبأن شكله وطريقته في التعامل مع الآخرين ممتازة، أحس بأنه وجد ضالته وتخيل الدنيا معها جنة، إنه لا يريد من الدنيا سواها، هي وحدها القادرة على معالجته وتقبله.
وبعد عدة أيام وبينما يهم بدخول الحديقة وجدها تقف بالقرب من الباب فتوجه إليها وسألها : هل تنتظرين أحداً ؟ فهزت رأسها بالإيجاب، فهم بالانصراف بعد أن أحس ببعض الضيق، ولكنها أكملت في سرعة أنتظرك أنت، فسألها : وكيف عرفت أنني سأحضر هنا اليوم، فقالت وهي تنظر في عينيه : إحساس، فتلعثم وتوردت خدوده بالدم المتدفق بسبب الحياء الفطري الذي جبل عليه ثم سارا معاً.
لأول مرة يسير مع أنثى تخصه بنظراتها وتلمح له بشئ يخاف التعويل عليه، كان مثقفاً وقارئاُ ومرناً إلا في هذا الشأن، كانت المرأة بالنسبة له عالماً آخر لا يعرفه، بل و لا يود أن يعرفه، والإنسان يخاف ما لا يعرف، وأخيراً وجد الإنسانة التي فهمته وقبلته كما هو ، أخيراً وجد التي تصبر عليه ولا تلومه ولا تنظر إليه بسخرية وجبينه يتصبب من العرق وهو يحدثها بصوت متهدج وكأنه صعد لتوه سلماً عالياً، ، لم تفلح كل قراءاته المتعمقة في علم النفس أن تخرجه من هذه الحالة، قرأ الكثير عن العقد النفسية وعن فرويد وعلم البرمجة العصبية فلم تفلح معه، وأخيراً اقتنع أن الله خلقه هكذا ولن تفلح محاولاته وعليه أن يتعايش مع حالته وهي ليست بالمشكلة الكبيرة فهو طالب بالهندسة والبنات أصلاً فيها قليل وعند تخرجه سيدخل الجيش وحمد الله كثيراً على أن الجيش ليس به بنات، وسيتخرج ليعمل مهندساً في مصنع ستكون البنات فيه أقلية، وسيتزوج بواحدة فقط ويتعود عليها وهذا كاف جداً بالنسبة له، إن البعد عنهم غنيمة كما كان يقول له والده، وبالتالي فدنيا بلا نساء أفضل ألف مرة من دنيا بها نساء.
كانت النظرات فقط هي التي بينهما ولكنها اليوم تخبره بأن له مكاناً في قلبها، ازدادت دقات قلبه وصعد الدم في رأسه وكاد أن يقع من هول المفاجأة، أحست بارتباكه فقالت له ألا نتمشى قليلاً فقال لها نعم .. نعم .
سار إلى جانبها يكاد لا يقوى على التنفس ساكناً ومثبتاً نظره على الأرض وكأنه يخشى النظر إليها حتى لا تضبطه وهو ينظر إلى عينيها الخضراوتان الجميلتان، وتمنى أن ينتهي الموقف بأي شكل، سارا حتى حديقة زهور وبجانبها أرض خضراء امتلأت بالعشب الأخضر الجميل وكانت رائحة الأزهار في بداية شهر الربيع ممتعة، وكانت نفسه ترى كل ما حوله جميلاً، نظر إليها ووقف فوقفت تنظر إليه في إعجاب، قال لها انظري إلى تلك النحلة، سألته ماذا فيها، فقال لها إنها تتنقل بين الأزهار، فسألته وماذا يعني هذا بالنسبة له، فقال إن الله خلق الزهور جميلة لتجذب النحل والفراشات فتأتي إليها لتمتص رحيقها فتلتصق بها حبيبات اللقاح وتنقلها إلى زهرة أخرى، فتتم عملية التكاثر، ولو كانت هذه الزهور غير جميلة لما ذهبت إليها الفراشات ولانتهت الحياة لهذه الزهرة، فقالت له : أتعني أنها مسألة تبادل مصالح فقط، قال نعم النحلة تأخذ الرحيق وتظن أنها أخذت ما تريد دون أن تعطي وفي المقابل فإنها دون أن تدري قدمت خدمة جليلة للزهرة الخبيثة، فقالت له : وهل ينطبق ذلك على البشر قال نعم: الله يجمل كل بنت في نظر الولد، ويجمل الولد في نظر البنت لغاية أساسية هي أن تستمر الحياة، لا يوجد مشاعر بل هي لعبة الحياة، لكي تستمر الحياة لابد من الولد والبنت، فتقوم الحياة بتجميل البنت وتفصيلها بشكل يجذب الذكور إليها فتختار واحداً لتستكمل الحياة مسيرتها.
أحبت أن تغير دفة الحديث، سألته : هل نجلس؟ فقال لها : نعم نجلس على الأرض، نظرت إلى فستانها وكأنها تقول كيف أجلس بهذا الثوب القصير؟  فقال لها : نعم نحن من الأرض وإليها، نظرت إليه متعجبة فأكمل في حماس غريب : جميعنا سيموت وسيدفن في الأرض وسنصبح جميعاً جثثاً بالية وسنتحول إلى تراب، نظرت إليه بضيق شديد، وقالت له ألا يوجد كلام ألطف من هذا ، قال لها : لماذا نهرب من الحقيقة ولأول مرة ينطلق صوته في وجود فتاة بلا ارتباك، الميلاد و الموت هما الحقيقتان الوحيدتان في هذا العالم، نولد من رحم أمهاتنا ونحن لا ندري و لا نتذكر، ولكننا نموت ونحن في أقصى درجات الوعي، منذ ولادتنا كل يوم يمر علينا هو انتصار للموت وهزيمة للحياة، لأننا نفقد من الحياة المقدار الذي نعيشه، كل دقيقة تمر تقربنا أكثر من الموت وتبعدنا عن الحياة، نفذ صبرها فقالت له ألا يوجد شئ آخر نتحدث فيه، فقال لها يمكن أن نتحدث عن الإنسان ذلك المخلوق الذي خلق من ماء وطين ثم يتباهى وينسى أنه يوما سيعود كما كان، تنهدت وسددت إليه نظرة ثاقبة، أكمل دون خجل ولا عرق إذا أردنا في علم الهندسة أن نعرف دالة الانتقال أو لنقل خاصية الدائرة الكهربائية فإننا نقيس المدخلات والمخرجات، ونقوم بقسمة المخرجات على المدخلات فتعطينا دالة الانتقال لهذه الدائرة، قالت له نعم درسنا ذلك في أكثر من مادة، فقال لها دعينا ننظر إلى المدخلات للإنسان وإلى مخرجاته، فسألته وما هي مدخلات الإنسان أيها الفيلسوف فقال لها انظري مثلاً إلى شكل التفاحة عند دخولها أي قبل أكلها منظرها دائري لامع ملسمها ناعم شكلها جميل ثم انظري إليها وهي خارجة من بطنه ما شكلها ما لونها، إنها مخرجات بذيئة ومتعفنة، من أين جاءت هذه النتيجة إنها من دالة الانتقال الخاصة بالإنسان، إذن يمكننا القول بأن دالة الانتقال في الإنسان هي الحصول على المميزات الخاصة بالمادة واستنزافها لخرج البقايا في صورة من العفونة، نظرت إليه في حدة وقامت قائلة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال لها : إلى أين؟ قالت : في أي داهية، وانطلقت وهو مازال جالساً يسأل نفسه لماذا غضبت؟ هل فعل ما يضايقها، لم يقل لها إلا ما يعتقد والمفروض أنها حتى لو خالفته في الرأي فإنها لا تغضب هكذا علمتنا الديمقراطية أن أخالفك في الرأي دون أن أكرهك أو أغضب منك. 
وبينما هو على هذه الحالة وجد زميله في الكلية آتياً من بعيد، ومعه بعض الكتب، فسلم عليه وسأله : هل كانت ليلى معك، فاضطرب وقال له نعم ولماذا تسأل قال وجدتها خارجة من الحديقة والدموع في عينيها فسألتها ماذا بها قالت زميلك هذا ليس إنساناُ، أتحدث معه عن الحب فيحدثني عن الأرض والموت والدود الذي سيأكلني، هل قلت لها ذلك قال نعم وماذا في هذا ؟ إنني أحكي لها عما أعتقده ، أخبره صديقة أن البنات لا يمكن أن يتحدث معهن عن تلك النظريات العويصة إنه يجب أن يتحدث عن الحب عن العواطف أو إن كان خجولاً فليتحدث عن الأفلام والمسلسلات التي تعرض أو الموضة أو الفنانين والفنانات، ولكن تلك القضايا الفكرية لا يجب أن يتحدث بها إلا مع الرجال من أصدقائه فقط، وإلا تعرض لمواقف عصيبة، لم يعد يفهم ماذا يريدون منه أيتكلم فيما لا يعتقد أو لا يتكلم ، أيتكلم ما يحب الناس أن يسمعوه أم يتكلم ما يحب أن يقول.
في صباح اليوم التالي رآها ووجدها إنسانة أخرى كأنها لم تكن تعرفه حاول التقرب إليها وألقى عليها تحية الصباح فردتها في جفاء ثم تركته وانطلقت إلى حيث لا يدري، لقد تغيرت، لقد حاول أكثر من مرة حتى شك أنها كانت يوماً ما تعرفه، النظرات الكلمات التعبيرات كلها عادية لا تميزه عن أي زميل وعرف أنها النهاية، وعاد إلى خجله المميت مرة أخرى.


ليست هناك تعليقات: