علي هلال
مَثلُ مِشيته كمثل مُحاربٍ ينزفُ الكبرياءُ
منه دون الجسد : خَسرَ آخرَ جَولاتهِ ورجالاتهِ في معركةِ تحديد المصير ، مُنَكس
الرأس كأعلام مَملكته المسلوبة ، تَدور عَيناه في كل مكان كعَاشِقين يبحثانِ عن
ملاذٍ لِقبلتهما الأولي بعيداً عن ازدحام المدينة ، لَمْ يَسلمْ مِنْ تِلك الأفاعي
التي تجولُ بذهنهْ ، ولا تِلك المَلمات التي تكالبتْ علي قلبه فأضحي كَأُمٍ ثَكْلي
فقدتْ وحيدها ،إذا رأيتَه حسبتَه مُومياءَ قَدْ خَرجَتْ للتو مِنْ مَقْبَرتها .
وظل يَمشي حتي ضَلتْ قَدماه الطريق .
دَقاتُ ساعته "الرولكس " أفَاقتهُ
قَليلاً ، أعَادتْ إليهِ بعض آدميته ،نظر إليها فإذا بهِ قَدْ أطَال المسيرْ .
كَيفْ لا ! وهُو الذي قَدْ تَرك الحَفلَ قَبل نهايتهِ بقَليل ، عِند الثالثة
تَقريباً .إلتفتْ حَولهُ فإذا البيداءُ تَحْتَضنُه احْتِضانا . كانتْ الرمالَ
وقتها تسبحُ في هدوء وقد اكتسبتْ لوناً ذهبياً بفضل أشعة الشمسْ ، ونسائمَ الصباح
تَتَراقصُ في رَشاقةٍ تُذهِبُ الْلُبْ ، تَتَمايل لِتُداعِبَ الجِبَال التي
مَازالتْ نَائمة كطفلٍ وليدْ . وَثبتْ الأرانبُ هُنا وهُناك فَرحَةٍ بِقدوم يومٍ
جديدْ ، وقَدْ شَكَلتْ الطيورُ في السماءِ صُفوف دَبْكة "رقصة من بلاد الشام
" وراحتْ تُغردُ لِتُضيفَ إلي المَشهدِ جَمالاً فوق الجمالْ .
كان المشهدُ كفيلاً بإزالة بَعض الْهَمِ
المُقيمِ في قلبهْ ، أسعدهُ قليلاً ذلك الحُسن الذي ارتَدته الطبيعة ، وبدأ قلبهُ يعودُ إلي النبضِ رويداً رويداً
كُلما وَقعتْ عَيناهُ علي برآةِ الأشياءِ ونقاءِ الكائناتِ من حولهْ . لَكنْ مَا
تَزَال هُناكَ غُصَة بينْ حَناياهُ . كبَاحثٍ
عَنْ ضَالتهِ جَلسْ ، اتخذَ من بَعض الصُخور مُتَكأ وأخذْ يُفَكر و يُراقبْ .
أسْنَدَ رأسهُ علي صخرةٍ مَلْسَاءْ ، مَدد
جَسدهُ المُنْهك علي الرمالِ الناعمةْ .
وأرتحلَ بذَاكِرتهِ إلي لَيلةِ البَارحةْ ، إلي جُرح البَارحةْ ، إلي حَبِيبةْ
البَارحة . تِلكْ التي مَا كَان القَلبُ يَنبضُ إلا بِها ، ولا تَري عَيناهُ
سِواها . كَمْ كَان الفِراقُ قَاسياً عَليهْ ، أخذ يَتْخَيلُها بِيَدَيَ عَاشِقُها
الْجَديدْ صَديقُه القَديمْ .لَمْ يَكُن هو في حياتها سِوي مُجَرد لُعبةً بِيَديها : شَكلتهُ عَلي
هَواها ، طَمَستْ شَخْصِيَتهُ ، بَدلتْ أخْلاقَه ، لَمْ تَترُك فِيهِ صِفةً جيدةْ
إلا قَتَلتها ، مَلابِسهُ كَانتْ مِنْ اختيارها وكَذلك الأصْدقاء ، المشْاعر ، و
الأفْكار . كُل شيء كَان وِفْقَ هَواهَا . لَقَدْ جَعَلتْ مِنهُ تَابعاً ، كَان
يَتْبَعُها كأعمى مُقَادْ . والاسمُ حُبْ ، لَكنها قَدْ مَلتْ مِنهُ فَطعنتهُ في
القلبْ .
ظَلتْ الأفكار تَغوصُ وتَسبحُ برأسهِ
كالدلافين . حتي سَمعتْ أُذناهُ وَقْعَ أقدامٍ قادمةٍ من نَاحية الشَرقْ ، من نَفسُ
المَكان الذي قَدم هُو مِنهُ "نَاحيةَ المدينةِ "فَتَوجسَ في نَفسهِ خِيفةْ
، فَتح فَاه دهشةً ، وصُعقتْ عيناهُ مِنْ هَول ما رأي : لَبُؤةٌ قادمةٌ تَسيرُ
بخطواتٍ واثقةٍ ، يَتبعُها أسدٌ في الخلفْ يوازيهِ ذِئبْ . كَانت الأنثي تسيرُ بِكلِ غُرورٍ، والذكرانِ في غيظٍ وحنقٍ يَنظُران
إلي بَعضهما . " يَبدو أَنْ العِراك سَيكونُ وشيكاً ومحتدماً " . هذا مَا
جَال بِخاطرِ ذلك البَائس المُختبيءْ عِند الصَخرةِ الملسَاءْ .
أخذتْ
الأنثي مَكانها فَوق صَخرةٍ مرتفعهْ، وزأرت بقوةْ ، فَهجمَ الذكران بقوةٍ وشراسةْ
علي بَعضهما . اسْتفاقتْ الجبالُ النَائمة في المكَان علي عواء الذئب ، وأخذتْ تُتابع
ما يحدث ، الغبارُ قَدْ ارتفع إلي السماءِ
مِمَا حَجبْ الرؤية عَنْ بعض الطيور المُتطفلة
التي نَزلتْ إلى الأسفل بَعد نُشوبِ الصراع بين الذكران ، والأنثي تَنظُر
وتَنتظرُ في شغفْ ، في قلقٍ بالغٍ تَابعَ المُختبيء عند الصخرة ما يَحدث، ولم يَلبث
الذئب أن دَحر الأسد ، وتَخضبَ جسدُ الثاني بالدماءِ وسطَ ذُهولٍ من الموجودين في
المكان .
ذُهل المُختبيء عند الصخرةِ مما آل إليهِ
الأسد ، لِماذا لمْ يَكُن في قوتهِ المعهودة ؟ لمَاذا لم يَفتح فَمه طول العراكِ
ويَقضي بِها علي الذئبْ ؟ قَاطعتْ أفكارهُ قَفزةَ الأنثي مِنْ مَكانها ، و انْطلاقتها
نَحو عَشيقها الجَديد ، وأنْطلقَ الاثنان سويةً نَاحيةَ الشَرق مِنْ مَكان قُدوم
ثلاثتهم .
تَحامَل على نَفسهِ ، و أنْتفضْ مِنْ مكانهِ
عند تلك الصخرة ،غَيرُ مُهتمٍ بِمَا قَدْ يَحدُث ، ذَهبَ تِلقاء الأسد الجَريح . مَا إنْ وَصل إليهِ حتي
وَجَد الدماء تَسيلُ مِنْ جَسدهِ المُزخْرفُ بالطعناتِ والجروحْ ، حاول الجريح قَول
شئٍ لذلكَ الإنسان الذي شَعُر بِأوجَاعهْ ، لكنه كان في حالة احْتضارْ .كُل مَا فَعله
الجَريح هُو فَتحُ فَمهْ ، وبِصعوبةٍ بالغةٍ أخْرج من فَمِه وردةَ حمراءْ . يَبدو
أنهُ يَحملها لأُنْثاهْ ، تلك الحبيبةٌ التي لَمْ يَقبل الجريحُ أنْ يُنافسهُ غَيرهُ
في حُبها ،أو أنْ يَراها تَقبلُ صِراعاً عَلي قَلبها ، فَضلَ الأسد الرحيلُ ، ومَاتْ
.
بصعوبةٍ بالغةٍ استطَاع أنْ يُدرك بعضَ مَا يَدور
حَوله مِنْ أحداث ومَعاني .إنْ مَا رآهُ مُنذ قليلٍ يُشبهُ كَثيراً مَا حَدث مَعهُ
في ليلةِ البارحة ، نفسُ الصِراع الذي دَار بينهُ وبينْ حَبيبته و صَديقه ، ونَفس
النِهاية . غَير أنهُ مَا يَزال علي قَيدِ الحَياة ، بَيْنَما الأسد قَدْ ذَهبَ في رحْلةٍ جَديدةٍ نَاحيةَ الغربْ .
لَمْ يَسْتَطعْ أن يُفَكرَ أكْثر مِنْ ذَلك
،فَخَلَعَ عَنْ جَسده المُنهك تِلك المَلابس المُعطرة بِجسدِ حَبيبتهِ الرَاحلةْ ،
وألقَاها علي الأرضْ ، كَذلك أَلْقيَ سَاعتهُ التي تُذَكِرَهُ بِأوقَاتهِ السعيدةِ
مَعها فَهشمتها الصُخور ، قَذف حِذائهُ بعيداً ، أنا لا أنْتَمي إلي ذلك المكان :
هَكذا صَرخ في أعماقهِ .أمسَك الوردة الحَمراء بِيَمينِه ، علي الرمالِ تَمَدد ، و إلي جِوارِ الأسدِ القتيلِ اسْتَلقي عَارياً ، وأنْتَظرَ
القَادمُون مِنْ أعْلي ، لِيُمنَحَ تَذْكَرَةَ نَحْوَ الْغَرْبِ
هناك تعليق واحد:
شكرا لك استاذ احمد ؛ لنشرك قصتى المتواضعة
إرسال تعليق