2013/12/04

الشيخ أبوالمجد.. بقلم: محمد رفعت الدومي



الشيخ أبوالمجد*

محمد رفعت الدومي
 
كان أبي يزيِّن ذكري الأجداد بعقدٍ من الليالي الساهرة يمتد بطول أيام شهر رمضان ، وبعرض الواجب الذي يجثم علي مواقدنا العائلية جثوم العادة ، يدور محورها الأساسيُّ حول تلاوة القرآن ، الثرثرة أيضاً ، ومراعاة الشراع العائليِِّّّّ من ضربات الموج المباغت ، أو المضاد ، وتربية المزيد من أواصر النسب .

تتبدل وجوه المقرئين ، وتزداد تجاعيد الجدران ، وتحترق غابة من ذكرياتنا العائلية بموت رجالنا ، ونساءنا ، وتتهيأ غابة من ذكرياتنا العائلية المؤجلة بميلاد أطفالنا ، وتفقد النجوم الأليفة وضوحها ، وذلك الطقس العائليُّ صامدٌ في مكانه تماماً ، كان هذا دليلاً علي أن عبادة الآباء تسير في طريقها الصحيح .

تلك التحولات الحولية في وجوه المقرئين الوافدين ، ولهجاتهم ، جعلتنا نلمس بوضوح بساطة الأشياء ، لقد كانت المسافة الصلبة علي الدوام بين "الدومة" وبلاد المقرئين تقتضي أن يشاركونا موقدنا العائليَّ شهراً كاملاً ، ينفقون النهار في أقبية النوم المؤكد ، ويرفعون في المساء حناجرهم إلي سقف ٍ متواضع من جريد النخل الذي يمكن تفسيره بنوي البلح القديم أيضاً ، وينزحون من بئار يحسبها البالون وأصحاب الحد الأدني بئاراً عميقة ، وكنتهم ، يعودون إلي بلادهم قبل ياردات زمنية من عتبة العيد النظيفة ، ويتركون لنا غابة من الانطباعات الجديدة ، وغابة من الذكريات المشتركة ، نظل نستعيد علي مدار العام حداثتها ، واسم المقرئ ينتشر بمشروعية في لهجاتنا ، ويتسرب وجهه إلي قلب أحلامنا أيضاً ، يأتون لليلة أو ليال في أوقات أخري من العام تزييناً لمناسبة طارئة ، أو معايرة ، فيكون اللقاء حاراً ، الوداع أيضاً ..

مع ذلك ، كان لابدَّ أن يجئ عامٌ ينطوي علي شهر يتسلق فيه غرابٌ حنجرة السهرة برهافة بالغة  ، فينهار بفضله ، فجأة ، وبشكل ٍ مروع ، ذلك التقليد تماماً .

أتذكر أن انخفاض حالة أبي المالية قد بدأ في ذلك العام تحديداً ، وبتصرفات مذعورة ، ومن الذي لا مراء في صحته أنَّ التحاق الشيخ الأخير بأفكارنا السوداء تعقيبٌ ركيك بشكل متعصب علي ذلك الانخفاض المالي الذي حال بين أبي وبين أن يحجز أحد المقرئين المجيدين في الوقت المناسب ، ذهب إليه هو والشيخ " أحمد أبو عبداللاه " ، واختبراه في مسجد بمدينة فرشوط ، واتفقا معه ، برغم عدم ارتياحهما ، لأجراس صوته العشوائية وأصدائها السامة ، كنوع من حماية تقليدنا الرمضانيِّ من الانهيار لا أكثر .

كان عاملاً كالعديد من الدوميين بمصنع الألومنيوم ، فركله لذلك رجالنا خارج تقديرهم ، هم لا يحبون أحداً يهجم علي أطراف مسارات الآخرين دون درع أكيد ، هو خيرٌ من اللامقرئ علي أية حال .

غير أنهم تنبهوا منذ الليالي الأولي إلي عبارة تتردد تحديداً ، وبإسراف ، في أنغام صوته السامة كلَّ ليلة ، بل كلَّ تلاوة في الليلة ، حتي "عبد العاطي" الذي لا يركعها ، راقب تكرارها فاختبأت في ذاكرته ، وربما ازداد بزمالة الشيخ في العمل وعياً بإحساس الندية ، وفي ما بدا أنه اندفاع وراء ذلك الإحساس ، قال للشيخ كأنه يلومه علي هذه السخافة :

- إيه يا شيخ "أبو المج" الحكاية دي ؟ ، كل ليلة فاصفح الصفح الجميل ، فاصفح الصفح الجميل ، يا  راجل عاوزين حتَّة من "يوسف" !

ضحك رجالنا و أطفالنا حتي دمعت أعينهم ، لقد وجدت رغباتهم المحتجزة التعبير عنها في استنكار "عبد العاطي" تماماً ، وانفجر سلام الشيخ ، واضطرب ، وتذمر كالعبيد ودلي رجليه ، حشرهما في حذائه ، ثم خرج غاضباً وهو يقسم علي الرحيل دون أن يحتفظ حذاؤه بخط الرجعة ، واندفع وراءه الكثيرون ليطفئوا عزيمته .

أدهشني أن يواجه أبي تهديده بسكونه ولا مبالاته واتزانه ، ونظراته التي تنمو علي ظهر الشيخ
"أبي المجد" بازدراء مسموع في قلب جزيرة عائمة من الصخب ، وتابع الشيخ تذمره ، وعدم اكتراثه لتوسلات الخائفين من انهيار الطقس :

- أمانة عليك يا شيخ أبوالمج ، صاحبك وعشمان ، عيضحك معاك ، أيام وتتقضي ، واهو رمضان وقع ، باقي سبعة وعشرين يوم ويعدوا ، وصباح الخير يا جاري ، إنتا فـ حالك ، وانا فـ حالي ........ !

لست أدري كم من الوقت ، وكم من الجهد تبدد قبل أن ينزلق المسكين في شرخ العودة ، دون أن يدور بباله أنه كان يعود نحو الأسوأ ..


* بعض من " اسهار بعد اسهار "



ليست هناك تعليقات: