جواب عن رسالة وفاء مليح[1]
يوسف الزدكي
عزيزتي المثقفة
قرأتُ رسالتك بعناية واخترق صداها حُجُب خيالي ومزَّق
ستائر فؤادي، راعني فيها حسكِ الأدبي المرهف وهو يشع في ثنايا الأحرف والكلمات،
كما راعتني غيرة مبدعة على الأدب والثقافة، كنتِ شديدة اللوم إلى درجة التأنيب،
شديدة اللُّطفِ إلى درجة الرقة والحنان.
لا أدري كيف أفسر لكِ هذا الشعور الذي انتابني وأنا أقرأ
ما بين السطور والكلمات الرنانة الشفيفة، حقا إن خطابك الحامل لتوقيعك ليس وجبة
سريعة تأكل على عجل وتُنْسَى، لأنه صادرٍ عن مبدعة غيورة واعية تمام الوعي بماهية
الثقافة ومدركة تمام الإدراك لوظيفة المثقف داخل المجتمع.
في رسالتك، أومأتِ بصدقٍ وحبٍّ إلى هنات المثقف وكشفتِ
بجرأة أدبية نادرة عن مشاعر أنثى مبدعة،أحلامها، تطلعاتها الأفلاطونية
المثالية الممزوجة بالأسى والأسف، فأدركتُ
عزيزتي المثقفة أن كل لوم أو عتاب يعنيني بالدرجة الأولى لأنني مثلكِ غيور، وأخشى
على المثقف من لعبة الأقنعة حين ترمي به في أثون الانفصام والازدواجية والحربائية،
ولعلك أومأتِ بما مضمونه أن المثقف يعاني
من الإقصاء والنسيان والعزلة، كما أشرتِ إلى كونه تابعا للسياسي منفعلا به.
أرى اليوم
مجتمعنا يعيش حالة انفصام وصراع هوية، والمثقف ليس بمنأى عن هذا الصراع الدائر بين
القوى السياسية والفكرية ببلادنا، وقبل عقود، لامس المفكر الجزائري مالك بن نبي
أزمة الفكر العربي وأقر بأن "أخطائنا تكمن في
نفسيتنا: ففكرنا خاضع لطغيان الشيء والشخص، وهذا السبب سيختفي عندما تستعيد
الأفكار سلطانها في عالمنا الثقافي"[2]
الأسوأ أن يحوِّلَ المثقف أنظاره عن الأفكار
ويركز على الأشياء والأشخاص، فيتحول إلى كائن شيئي ينتصر لكل ما هو كمي وحسي على
حساب النوعي المجرد، لذلك فأنا لا أحب أن يشيئكِ
ويخلع ثوب ثقافته، ويرميه أرضا، فأنت كما تقولين لا تجدين ثقافة المثقف على
سريرك، ولا في بيتك، ولا في طريقك ولا في فضاء عملك، وهذا شعور طبيعي لأنثى مبدعة
غيورة مثلك، تنغمس في الأدب حتى النخاع.
عزيزتي المثقفة
الأجمل في رسالتك التي ضَمَّنْتِها في مؤلفك الشيق: "أنا الأنثى، الأنا المبدعة..."[3] ما تحمله من إشارات قوية
لكل المثقفين في هذا البلد العزيز، فقد نسجتِ معانيك بخيوط الحب والجمال والإلهام،
وحين يحفزنا الحب أو الجمال أو الإلهام أو هم جميعا على كتابة رسالة، نبلغ أعلى
درجات التميز والنجاح، ونرتقي سلم المجد والخلود، أنتِ إذن مبدعة مُحبة لكل جميل
في الحياة، والأدب من أرقى الفنون وأجملها على الإطلاق، لأنه يسمو بنا فيجعلنا
أسعد الناس في الدنيا، فنشرك الآخرين في السعادة، قلتُ أنكِ المثقفة المحبة لأنكِ
تؤمنين في قرارة نفسكِ بأن الثقافة هي جوهر الوجود، والإبداع هو الحياة، فأنتِ مثلا
تبدعين ليس لمجرد تحقيق الذات، والبوح بمكنونات النفس فقط، بل تبدعين لأنكِ
تتمثلين المثقف جزءا منكِ، فتشركينهُ معكِ في لعبة الإبداع، تضعينهُ نُصبَ عينيكِ
في نومكِ ويقظتِكِ، في أفراحك وأتراحكِ، بين النجوم ومع القمر، في هدأة الليل
وجلبة النهار، في الرخاء والشدة، لأنه ظلك الذي يلازمكِ على الدوام.
أنتِ نصفه الثاني، لا يجده في غيابكِ عنهُ،
لا يجده في تقهقرك، في إدباركِ، في انسحابكِ طوعا أو كرها، لذلك أتمنى مثلكِ أن
يكون هذا المثقف فاعلا في الحياة، ولكنكِ لم تُذَكِّرِيهِ بشروط الفاعلية المتمثلة
في التوقد الفكري والثقة في النفس والقدرة على التواصل والتفاعل وتقبل الآخر بغض
النظر عن لونه أو جنسه أو انتمائه السياسي والإديولوجي، حينئذ يحقق المثقف كينونته
ووجوده الفعلي بعد أن يحبِّب الثقافة للناس، آنذاك ينتصر على ذاته المنكمشة وينتصر
للحياة.
عزيزتي المثقفة
كثيرا ما يبحثُ هذا المثقف عن ظلك بين ظلال
كثيرةٍ، فلا يجدك حتى في الحلم، لا يدري لماذا ؟ أنتِ الوردة المحتجبة في
الخُمُرِ، ودّ لو يعثر عليك في ركن من أركان هذا الوطن العزيز، لكنه لا يجد سوى
طيفك المتلاشي.
وَدَّ لو يستظل بظلال روحك الوارفة، لو يسمع صدى صوتك الرقراق المنساب وسط
حقول الشعر والقصة، فلا يجدك.
في الجامعة، كنتِ تحلقين بأجنحة شفيفة، صوتك
يمتزج بأصوات الرفاق، يخترق حجب الصمت، ويحلق في سماء ذهبية مزركشة زاهية بألوان
الثورة والتمرد والحرية والعدالة الاجتماعية .
وفجأة، تخمد شعلتك، وتنسحبين في صمت.
طالما سمع هذا المثقف عنكِ في مجالس الأدب
والفنون، قالوا عنكِ بأنكِ مبدعة مشاكسة، بأنكِ تقفين الند للند، لكنك سرعان ما
تتوارين خلف الشمس حتى لا تحرقك مثل الفراشات التي تهاب النار، ورغم الغياب، فأنتِ
ما زلتِ النور الذي يرى به المثقف العالم، والمرآة التي يرى فيها هناته، فأنت
المقيلة لعثراته، ملاذه من برد الشتاء وحر الصيف، وربيعه الدائم، من أجلك أحبَّ
الحياة، لأنكِ أنتِ الحياة، لكنه قلما يجدك أمام ناظريه كما يحب وكما يتمنى.
لقد ذكرتِ في رسالتكِ أنكِ بحثتِ عنه في
ربوع الوطن، فلم تجدينه كما تشتهين، هو أيضا بحث عنكِ طويلا، فلم يجدكِ لكنه
يمنِّي النفسَ بأن يجدكِ قمرا عاشقا، شريكا مخلصا، حبيبا ملتزما، رفيق حب وإبداع
وحياة، تضحي لأجله كما يضحي هو بسخاءٍ
وبلا حدود، فهذه يده ممدودة، فمُدِّي يَدَكْ....
توقيع: يوسف الزدكي
مثقف
غيور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق