بقلم: عبد الله لالي
هذا الكتاب ( المرآة
) لحمدان خوجة لي معه قصّة غريبة نوعا ما، فإنّي أذكر عندما دخلت الامتحان الشفوي
في مسابقة المعهد التكنولوجي للتربية عام 1987م سألني الأستاذ الممتحِن ستة أسئلة،
وكان أحدَ هذه الأسئلة:
-
من هو مؤلّف كتاب ( المرآة ) ..؟
ولم يكن عنوان الكتاب غريبا عليّ
لكنّني لم أتذكّر صاحبه، وقلت له آسفا: لا أعرف، فأخبرني أنّ مؤلّفه هو ( حمدان
خوجة )[1]
وتذكّرت المؤّلف حينذاك، فقد كان اسمه مخبّأً في حنايا الذّاكرة في إحدى
المنعطفات، ذلك أنّ هذا الكتاب ظلّ معروضا في إحدى واجهات فرع المكتبة الوطنيّة
للنشر والتوزيع ( لاسْناد ) لعدّة سنوات، وكنت أطالع عنوانه واسم مؤلفه بشكل يومي
تقريبا، وهممت بشرائه مرّة لكنّ غرابةَ العنوان وغرابةَ اسم المؤلّف جعلاني أحجم
عن ذلك.
ويبدو أنّ الأستاذ الممتحِن قدّر
ذلك الجواب بشكل إيجابي لاسيما أنّني أجبت عن بقيّة الأسئلة الأخرى بشكل صحيح
وكانت بسيطة بالنّسبة لي، لأنّها تدور حول محور الأدب وذلك مجالي المفضّل، وعلمتُ
فيما بعد بطريقة ما أنّي حصلت على علامة 16 من عشرين في المقابلة الشفويّة، ونجحت بحمد
الله..
وقد مضى على ذلك اليوم ما يقارب
السّبع وعشرين عاما، وكنت حينًا بعد حين أهمّ بقراءة الكتاب فيمنعني مانع ما، إلى
أن توفّرت الهمّة اليوم فأقبلت على الكتاب غير متردد ولا متوانٍ..
الكتاب من تأليف حمدان خوجة وهو
شخصيّة بارزة ومعروفة في دولة الجزائر قبيل الاحتلال الفرنسي وبعده ببضع سنوات،
وقد كان له دور بارز في السّعي للصّلح بين الأمير عبد القادر وأحمد باي، وكذلك في
إجراء مفاوضات مع أحمد باي والاحتلال..وفقا لما جاء في مقدّمة الكتاب.
الكتاب نشر بالفرنسيّة عام 1833 م وقام بتحقيقه وترجمته
والتعليق عليه المؤرّخ المعروف الأستاذ العربي الزبيري، ما شدّني في الكتاب أكثر
هو حجم المعلومات التي وردت فيه عن أوضاع الشعب الجزائري وعاداته وتقاليده قبل
وأثناء الاحتلال الفرنسي، ومن المعلومات المميّزة التي ذكرها المؤلّف نورد جملة
منها ونعلّق عليها:
- ذكر حمدان خوجة متحدّثا عن سكان
الجزائر في تلك الفترة فقال أنّ تعدداهم كان حوالي 10 ملايين نسمة وقال أنّ أغلب
السّكان بالأرياف، بينما سكان المدن يشكّلون الأقليّة، وقد انعكس الأمر في أيّامنا
هذه فصار سكّان المدن هم الأغلبيّة السّاحقة ..... ثمّ شرع في الحديث عن التركيبة
السّكانيّة التي يتألّف منها سكّان الجزائر منذ مئات السّنين وهم العرب والبربر،
ثمّ قسّمهم إلى سكّان المدن وسكّان والبدو وقال عن البدو أنّهم نوعان أيضا وهما
سكّان الجبال وهم أمازيغ وسكّان السهول وهم عرب خالصون..( وكأنّي بابن خالدون
يتكلّم ) ولعلّ الكاتب متأثر، به أو أنّ ثقافة تلك الحقبة كانت تنهج هذا النّهج في
الحديث عن الأمم وحضراتها وعن الشّعوب وأوضاعها الاجتماعيّة وتاريخها العرقي.
- وتحدّث الكاتب بإسهاب عن الجزائر
واصفا كثيرا من مدنها وطبائع سكّانها بشكل دقيق ومفصّل، ويبدو أنّ الطبائع والخلال
لم تتغيّر في الشّعب الجزائري منذ تلك الفترة إلى يومنا هذا، رغم مرور ما يقارب
القرنين من الزّمن، وقد خرجت من حديثه ذلك – خصوصا حديثه عن طبيعة الجزائري
النّفسيّة – أنّ بين الجزائريين عنصر مشترك لا يكاد يخلو منه فرد منهم؛ وهو
الصّلابة والعناد، فإنّا نجد أنّ حمدان خوجة كلّما تحدّث عن سكّان مدينة من مدن
الجزائر إلّا ويقول ( وقد عرف أهلها بالصّلابة والعناد ). وهم أسلس قيادا لمن
يوادعهم من الحكّام ويعاملهم بالحسنى، وأكثر شراسة وأشدّ مراسا ورفضا للضيم تجاه
من أراد أن يعاملهم بالشّدة أو الجور..
ومن طرائف ما ذكره حمدان خوجة في
كتابه ( المرآة ) واصفا اللّباس الشّائع لدى سكّان الأرياف البربر حيث ذكر (
القشّابية ) المعروفة عندنا إلى اليوم فقال ص23:
" يرتدي
الرّجال قماشا من الصّوف. ولألبستهم شكل كيس مثقوب في الوسط لإخراج الرأس، وبه
ثقبان آخران على الجانبيّن لإخراج اليدين، وعرضه حوالي ذراع ويهبط إلى منتصف
السّاق ..."
وممّا ذكره
أيضا ويستغرب في أيّامنا هذه هو وجود الأسود بتلك الفترة، أي قبيل الغزو الفرنسيّ
إذ قال في صفحة 34
" ..
بينما تقوم الكلاب بحراسة القطعان، وعندما يقترب الأسد تحسّ الكلاب بذلك فتنبح
ويكون نباحها هذا بمثابة تنبيه وإنذار، فيستيقظ الأهالي ويطرد الأسد بواسطة
التهديد فقط، ومن خاف منه وقع ضحيّة..."
وتحدّث أيضا
عن عادة بناء ( مطامير ) لتخزين الحبوب حتى لا
تتلف، وذكر أنّ هذه المطامير قد تبقى بها الحبوب مدّة تقارب الخمس عشر عاما ولا
تفسد، غير أنّ لونها يميل إلى السّواد ويصبح مذاقها مرّا، لكنّ سكان الأرياف
يتلذّذون بذلك ويقدمونه طعاما مفضّلا لأضيافهم مفتخرين كما يفتخر الأروبيّون
بالخمرة المعتّقة، فكلّما زاد عمرها كلما علت جودتها.
ومن غريب ما
ذكره في كتابه هذا أيضا ( حمّى سهل المتيجة )، التي كانت تصيب النّاس وكان هو
يخشاها ولا يزور سهل متيجة إلا في زمن الربيع، خوفا من تلك الحمى التي يبدو أنّها
كانت تهلك كثيرا من النّاس لاسيما من غير سكّانها، وقد قال عن ذلك ص47:
"
إنّها سهل لا تساوي تربته تربة غيره من سهول الإيالة؛ بالإضافة إلى كونه موطنا
لحمّى تظهر في أوقات متقطّعة، فتصيب السّكان وتلازم حتى المتأقلمين .."
كما يقول أيضا عن حذره من تلك الحمّى ص49 :
"
إنّني أزور هذا السّهل مرّة في ربيع كلّ سنة لأنّني أخشى الحمّى في الفصول الأخرى،
وحتى في هذه الفترة آخذ معي ماء الكولونيا وغيره مما يقيني شرّ الهواء الفاسد، كما
أتزوّد من ماء مدينة الجزائر أشرب منه "
وحديثه عن (
حمّى سهل المتيجة ) هذه ذكّرني بحمّى المدينة المنورة، التي ذكر أهل السّير والحديث
أنّها كانت معروفة في ( يثرب )، فلمّا هاجر إليها المسلمون أصابت كثيرين منهم، وقد
أصيب بها أبو بكر رضي الله عنه وبلال، روى البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله
عنها قالت:
" وكان
أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل
امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع
عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا
ليت شعري هل أبيتن ليلة * بواد وحولي إذخر وجليل
وهل
أرِدن يوما مياه مجنة * وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت عائشة:
فجئت رسول الله فأخبرته فقال: ( اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد
وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة ) ".
ومما لفت انتباهي وأعجبني أيضا مما
ذكره حمدان خوجة في كتابه ( المرآة ) حديثُه عن تلمسان ووصفه لها فزادني حبّا فيها
وشوقا إلى زيارتها، فقد قال عنها في صفحة 56:
" مناخ
تلمسان ألطف من مناخ الجهات المجاورة لها، ووضعها الطوبوغرافي جعل منها منطقة
ثريّة ومزدهرة، إنّها أحسن من منطقة الجزائر لو تزوّد بحكومة عادلة...).
وذكّرني
كلامه هذا بقول مفدي زكرياء في إلياذته الخالدة:
" تلمسان مهما أطلنا الطّواف *
* إليك تلمسان ننهي المطاف "
وعندما
تقدّمت شوطا كبيرا في قراءة كتاب ( المرآة ) علمت لماذا سألني ذلك الأستاذ
الممتحِن هذا السؤال:
-
من هو مؤلّف كتاب المرآة..؟
ربّما لم
يقصد السّؤال عن المؤلّف بقدر ما أراد أن يعرف إن كنت قرأت الكتاب أم لا..؟
فالمعلم الذي يُقبل على إعداد النّاشئة في الجزائر أو في أي بلد آخر لابدّ عليه
أوّل أن يلمّ - في الحدّ الأدنى – بنبذة تاريخيّة وجغرافيّة عن وطنه وشعبه، حتى
يعرف ما يقدّمه للناشئة وكيف يقدّمه لهم، محبّبا لهم وطنهم وأرضهم ومبينا لهم مآثر
أجدادهم وتاريخهم الحافل بالبطولات والإنجازات العظيمة.
وعليه أن
يعرف بالحدّ الأدنى أيضا من تاريخ أشهر المدن من وطنه ومواقعها الجغرافيّة.. واستطرادا
أذكر قصّة رائعة ذكرها المؤرّخ السّعودي الكبير حمد الجاسر الذي يسمّى مؤرّخَ الجزيرة
العربيّة؛ قال فيها أنّه كان يدرّس في بداية شبابه في المدينة المنوّرة وعرض له
ذات مرّة بيتان مشهوران من الشعر من شعر مجنون ليلى؛ جاء فيهما ذكر جبل ( التوباد
) والبيتان هما:
وأجهشت للتوباد لما رأيته *
* وهلّل للرحمن حين رآني
وأذريت
دمع العين لما رأيته * * ونادى بأعلى صوته ودعاني
فأخذ يحدّد
مكان ذلك الجبل وفقا لما قرأه في الكتب والمقرّرات العلميّة القديمة فقال:
-
وجبل التوباد جبل يقع خارج المدينة المنوّرة بمسافة كذا..( وذكر المسافة ).
فصاح
الطّلاب بصوت واحد مشيرين إلى النّافذة:
-
ها هو جبل التوباد يا أستاذ ..
وكان جبل التوباد
قد صار داخل المدينة المنوّرة بعد مضيّ مئات السنين من قول الشاعر لبيته ذلك، وذلك
لاتساع المدينة وزيادة العمران فيها، فقال حمد الجاسر:
-
فعزمت حينذاك أن لا أدرّس أمرا إلا عن معاينة، ولن أتحدّث عن موقع تاريخي
أو جغرافي أو أثريّ إلّا بعد أن أزوره في أرض الواقع..
ولعلّ الأستاذ الذي سألني ذلك
السؤال كان يقصد هذا الأمر أو يريد التأكّد منه، وهو أمر حقيق بكلّ معلّم و أستاذ أوطالب
علم أن يحقّقه في نفسه.
وتحدّث حمدان خوجة بكلّ موضوعيّة
عن حكم الأتراك في الجزائر، وأعطانا في ذلك تفاصيل دقيقة هي صورة لمعايشة رجل كرغلي
قريب جدّا من مراكز القرار في الدّولة العثمانيّة قبل سقوطها بسنوات، وقال أنّ
الحكم العثماني في الجزائر إنّما رسّخ جذوره وثبّت أقدامه في الجزائر بالعدل
وإقامة المؤسّسات، واعتماده على الكفاءات حيثما وجدت، لكنّه في سنواته الأخيرة
تراجع عن كلّ ذلك وصار يقدّم الأتراك مهما كانت قدراتهم ضعيفة؛ على العرب حتى ولو
أثبتوا قدرة كبيرة ومواهب مميّزة، بل إنّهم أبعدوا حتى الكراغلة أنفسهم – رغم
أنّهم أبناءهم – خوفا من أن ينقلبوا عليهم ويسلبوهم ملكهم وفي ذلك يقول:
" وبما أنّ الجزائر كانت تحت
حماية الباب العالي[2]،
فإنّ من المسلّم به أنّ حكّامها يكونون دائما أتراكا وكذلك نظامها العسكريّ، وإنّ
العرب لا يُقبلون أبدا في صفوف المليشيا. ونتيجة هذا التّمييز تولّد بين الصّنفين
في تلمسان حقد ما زال إلى يومنا هذا وكثيرا ما يؤدّي إلى صراع بينهما في وسط
المدينة..).
وطبعا ليس ذلك في تلمسان وحدها بل
في كلّ الوطن الجزائري، لاسيما في الفترة الأخيرة للحكم العثماني، وذلك من أسباب
تدهور الدولة ومما أدّى إلى سقوطها بيد المستعمر الفرنسي بكل سهولة ويسر.
ورغم ذلك فإنّهم لم يستطيعوا
الاستغناء عن العرب كليّة، بل لجأوا إلى اتباع نظام المصاهرة معهم لكيّ يضمنوا
ولاءهم وعدم الثورة عليهم، وكنتُ أعرف من قبل أنّ أحمد باي كان كرغليّا ( أي من أب
تركي وأمّ جزائريّة )، وظننت أنّ ذلك جاء صدفة نتيجة الاحتكاك والتقارب بين
الأتراك والعرب أو الجزائرين عامّة، لكنّ حمدان خوجة – وهو نفسه كرغلي كما علمنا –
يقول أنّ الزواج من الجزائريين أو العرب خاصّة كان سياسة متبعة، لحاجة في نفس
يعقوب أو في نفس العثمانيين ( وذلك ليس مستنكرا بطبيعة الحال )، فقد ذكر في صفحة
100 قائلا:
" وعندما يموت الباي، فإنّ
الواجب يقضي بأن يكون خليفته صهرا لشيوخ العرب ومطّلعا كلّ الاطّلاع على العادات
والتّقاليد.."
الكتاب كما جاء في التصدير نشر
بالفرنسيّة ولا ندري إن كان صاحبه كتبه بالفرنسيّة أم بالتركيّة، ورغم أنّه يحسن
الفرنسيّة إلى حدّ ما فإنّه من المستبعد أن يكون قد ألّف كتابه بها، لأنّه هو نفسه
يقول في الكتاب أنّه لا يتقن الفرنسيّة جيّدا وذلك في سياق حديثه عن القنصل دوفال
عندما قال ص142:
" وكان هذا القنصل لا يجيد
التركيّة إلا كما أتكلّم أنا اللغة الفرنسيّة.."
ويستبعد أيضا أن
يكون ألّف كتابه هذا بالعربيّة لأنّه يقول في سياق حديثه عن تحمّل الدّاي حسين
لأخطاء أتباعه:
" ..فإنّني
أستطيع التأكيد بأنّ حسين باشا لم يكن على علم بها ولكنّنا نقول بالعربيّة: إنّ
السيّد مسؤول على أخطاء عبده ".
وهذا دليل
آخر على أنّه كان يكتب بلغة أخرى غير العربيّة، وبما أنّ الفرنسيّة احتمال الكتابة
بها ضعيف جدّا فلم تبق إلا التركيّة، هذا إذا لم يكن يكتب كما يكتب الرؤساء والسياسيون
المشهورون في أيّامنا هذه كتبهم ومذكراتهم، إذ يُملون الأفكار بلغتهم الدّارجة
ويأتي بعض المثقفين ويكتبونها لهم بلغة متقنة سواء كانت الفرنسيّة أو
العربيّة !!
وحمدان خوجة أثناء حديثه عن
الفرنسيين والحضارة الأوربيّة يشبه رفاعة رافع الطهطاوي وطه حسين وغيرهما من
المسلمين الذين درسوا في أوربا وتأثروا بثقافتها إلى حدّ ما، ولقد خُدع كثيرٌ منهم
بمظاهر الحضارة ونظم المدنيّة والعدالة المنتهجة عند الغرب، واعتقدوا أنّهم يمكن
أن يعاملونا بتلك النّظم الرّاقية والقوانين العادلة وهم يحتّلون أرضنا ويستولون
على خيرات بلداننا، يقول حمدان خوجة في ص120:
" وفيما يخصّني ووفاء منّي
للحكومة الفرنسيّة ولصالح قضيّتها، فإنّني قد حاولت أن أعرف بطبائع تلك الأمّة
الحرّة وكذلك الشّعور النّبيل الذي تتحلّى به حكومتها التي لن توافق أيا من أساليب
الجور اللاسياسيّة والمناهضة للقوانين.."
ومن أغرب وأعجب ما قرأته في كتاب حمدان
خوجة حول قضيّة ديون القمح؛ التي كانت للجزائر على فرنسا أنّها لم تكن ديونا للحكومة
الجزائريّة على الحكومة الفرنسيّة، بل هي مجرّد ديون لتجّار يهود على فرنسا وأبرزهم
اليهودي المسمّى بكري، الذي كانت له تحرّكات مشبوهة قبل الاحتلال وبعده، وكانت حكومة
الدّاي تريد استيفاءها لهؤلاء اليهود، الذين كانوا في الوقت نفسه مدينين لحكومة الدّاي،
وهي بمطالبتها استفاء ديون أولئك اليهود تريد تحصيل ديونها منهم..
أحقّا ذهبت الجزائر ضحيّة لمدى 132
عاما من أجل تحصيل دين تجّار يهود..؟ إنّه لأمر يندى له الجبين إذا كان كما يقول حمدان
خوجة[3]..
!!
قبل أن أمضي بعيدا في قراءة كتاب (
المرآة ) الهامّ والمثير، والذي جعل عدّة أسئلة محيّرة تطفو إلى ذهني؛ اتّصلت بالصّديق
الأستاذ فوزي مصمودي (المختص في ميدان التّاريخ ) لأسأله عن بعض تلك التساؤلات، وكان
من بينها اللّغة التي كتب بها هذا الكتاب، وعن قضيّة القمح المثيرة الذي تراكمت ديونه
على فرنسا وكانت من الأسباب – على الأقل ظاهريّا – لاحتلال الجزائر، فسألني بدوره إن
كان الكتاب عندي، وهو يعلم أنّني كثيرا ما أقرأ الكتب من ( الشابكة ) على شكل نسخة
pdf، فقلت له ليس عندي نسخة وإنّما أقرأه فعلا ( بي دي آف )، فقال لي:
- لا، لا.. دعك من ذلك،
سأرسل لك بالنسّخة الورقيّة..
فسألته عن تقديم الأستاذ العربي الزبيري
للكتاب لماذا لم يدرج في طبعة وزارة المجاهدين، رغم أنّه أشير إلى ذلك التقديم في الغلاف،
فانتبه وقال لي:
- نعم ، صحيح لا أدري كيف
لم ينتبه الأستاذ الزبيري لذلك.. ! ولكن على كلّ حال أنا عندي طبعتان وإحدى هاتين الطبعتين
فيها ذلك التقديم وهو في 40 صفحة تقريبا.
ولما جاءني بالطبعتين وجدت مقدّمة الأستاذ
الزبيري في طبعة 2007 م الصّادرة عن وزارة الثقافة[4]،
ووجدتها ثريّة بالمعلومات والإضافات النّافعة، وأولى تلك المعلومات التي أحببت الإشارة
إليها هو ما ذكره عن اللّغة التي كتب بها الكتاب، حيث أشار فعلا إلى حيرة المؤرّخين
حول حقيقة ذلك، وكنت قد أشرت أنا إلى ذلك أيضا في المقال السّابق واستبعدت أن يكون
قد كتب الكتاب باللغة العربيّة، لكنّ الدّكتور العربي الزبيري أكّد أنّه كتب باللغة
العربيّة قطعا، بعد اكتشاف ما صرّح به ابنه بعد ذلك وكان مرافقا له في باريس، وفي الفترة
التي نشر فيها الكتاب. حيث قال أنّ الكتاب كتبه والده بالعربيّة ونقله إلى الفرنسيّة.
ويبقى الإشكال عندي قائما حول ما ساقه
من بعض الأمثلة العربيّة، وقال: فلنقل ذلك بالعربيّة !! مما يوحي أنّه لم يكن يكتب
بالعربيّة..
فكرة أخرى طريفة وردت بالكتاب ولا أدري
إن كان قد انتبه لها الباحثون من قبل، أم أنّهم لم يعيروها اهتماما.. وهي فكرة العولمة
الشّائعة في عصرنا هذا، والغريب أن يشير إليها الكاتب حمدان خوجة قبل عصر الفضائيّات
والأنترنت ويعبّر عنها تعبيرا جليّا وصريحا، كأنّه من رجال الثقافة أو السّياسة في
بداية الألفيّة الثالثة، يقول في صفحة
139:
" لقد كنّا نعتقد أنّ
الأفكار التعصبيّة الضيّقة قد نُسيت في القرن التّاسع عشر، وإنّ عصر تحرّر الشّعوب
قد حان، وإنّه من المحتوم اعتبار جميع سكّان المعمورة كأسرة واحدة ".
أليس هذا ما يقول به دعاة العولمة اليوم،
ويعتبرون العالم بكامله نتيجة تقارب الشعوب بواسطة وسائل الإعلام ووسائل النّقل الحديثة
التي تنقلك من قارة إلى أخرى في زمن يشبه الخيال، أليس دعاة العولمة اليوم يعتبرون
العالم أو الكرة الأرضيّة قد صارت قرية واحدة صغيرة.
وأمر آخر ذكره المؤلّف يشبه هذه الفكرة
إلى حدّ ما وذلك عند حديثه عن سرعة انتشار الأخبار بين بدو الجزائر، إذ قال في صفحة
220:
من الممكن أنّ ثمّة من يعتقد في أوروبا،
أنّ الجرائد لا تصل إلى البدو، وأنّ الأخيرين لا علم لهم بالسياسة الأوربيّة، وهذا
خطأ لأنّ البدو يعرفون كلّ ما يجري في أوروبا..." ثمّ ذكر بيتا من الشعر العربي
مستدلا على كلامه أنّه لا شيء يخفى فقال:
" وكلّ ما يجري في مجال السياسة. وتردد الأخبار من فم إلى أذن
إلى أن تصل حدود الصّحراء، كما يقول الشّاعر العربي: إنّ الوقائع تتكلّم بالنّسبة لمن
يريد أن يخفي سيرته ".
وأظنّه يقصد بيت زهير بن أبي سلمى الذي
في معلّقته الشهيرة:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
* * وإن خالها تخفى على النّاس تعلمِ
مما يؤسف له أنّ الأصل العربي
لكتاب ( المرآة ) لحمدان خوجة ضائع، مثله مثل الأصل العربي لكتاب ( مذكرات الحاج
أحمد باي )[5]،
وهذا أمر يدعو إلى الريبة فكثير من كتب التّاريخ والترّاث الهامّة والتي تعالج
مراحل حاسمة من تاريخ الأمّة ضائعة أو فقدت منها أجزاء معتبرة، وبعض هذه الكتب لو
لم تُذكر أسماؤها أو تُضمَّن مقتطفات منها في كتب أخرى لما سمعنا بوجودها أصلا.
والأدهى من ذلك أنّ المجلّد الثاني
من كتاب ( المرآة ) غير مطبوع ولا ندري إن كان موجودا أم مفقودا هو أيضا، وكلّ
الوثائق والرّسائل والإثباتات التي كان الكاتب يشير إليها في ثنايا الكتاب ويعدنا
بأنّنا سنجدها في آخره؛ لا أثر لها لأنّه لم يطبع المجلّد الثاني فيما يبدو..
وبذلك خسرنا مادّة تاريخيّة هامّة
يمكن من خلالها التّعرّف على كثير من تفاصيل مرحلة الاحتلال الأولى لبلادنا، والتي
قد تميط اللّثام عن كثير من الغموض والأسئلة العالقة.. ويد الاستعمار وأصابعه
الخفيّة غير بعيدة ولا بريئة عن هذا التغييب، فهو لم يكتف بأن صادر حقّ شعبٍ
بأكمله في الحياة الحرّة طيلة قرن واثنتين وثلاثين سنة، بل تعدى ذلك إلى نهب تراثه
الفكري وذخائر تاريخه من كنوز المخطوطات والكتب النّادرة والثمينة، التي يتباهى
مستشرقوه وعلماؤه بأنّههم اكتشفوا بعضها وحقّقوها أو ترجموها ونقلوا منها النّقول
واستخرجوا المعلومات والمعارف.. !
لقد دهشت لما قرأت في كتاب (
المرآة ) أنّ الدَّين الذي كان للجزائر على فرنسا؛ إنّما هو في الحقيقة دين
لليهودي ( يعقوب بكري ) وشركته ولقد سبق وأن قلت أنّي سألت عن ذلك الأستاذ عبد
الرحمن تونسي عن الأمر، وفي نفسي حيرة كبيرة فدلّني على كتاب أبي القاسم سعد الله
( محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث )، فوجدته قد أكّد الأمر الذي
كشف عنه حمدان خوجة وفي ذلك يقول الدّكتور أبو القاسم سعد الله ص16:
" بينما كانت فرنسا مَدينة
لليهوديين الجزائريين. كانا هما مدينين للدّولة الجزائريّة. وفي سنة 1795 قدر دين
فرنسا بمليونين من الفرنكات، أمّا دين اليهوديين للجزائر فقد قدّر بـ 300000 فرنك
وقد عيّن هؤلاء التّجار اليهود يعقوب بكري ممثلا لهم في مرسيليا ثمّ في باريس".
إذاً القضيّة حقيقة وواقع لا مراء
فيه، وربّما كانت أكبر من ذلك، قد يكون في ذلك كلّه دسيسة أو خطّة مدبّرة بإحكام
من أجل احتلال الجزائر والسّيطرة على شعبها ومقدّراتها.. !؟
وإذا عدنا إلى المجلّد الأوّل من
كتاب ( المرآة ) فإنّني أعتبر أهمّ فصل فيه ذلك الفصل الذي يتحدّث عن بداية احتلال
الجيش الفرنسي للجزائر، وحمدان خوجة كان شاهدَ عيان بل كان أحدَ الأطراف السياسيّة
الفاعلة في مرحلة من المراحل، ولذلك فإنّ لحديثه المفصّل عن مهزلة دخول القوّات
الفرنسيّة إلى الجزائر العاصمة أهميّة بالغة..
وأنا أذكر هنا النّقطة المهمّة التي
أثارت انتباهي وحيرتي، بل أساي وألمي الشديد والممضّ لما وقع أثناء نزول القوّات
الفرنسيّة إلى منطقة سيدي فرج وزحفها على الجزائر العاصمة:
علم الدّاي حسين بمكان النزول:
جاء في كتاب ( المرآة ) في هامش
كتبه الأستاذ العربي الزبيري صفحة 151 أنّ الدّاي حسين كان يعلم بمكان نزول
القوّات الفرنسيّة، أي بمنطقة سيدي فرج، وذلك عندما استدعى أحمد باي وطلب منه
الاستعداد للمعركة:
" يقول الباي أحمد في مذكراته:
" عندما مثلت بين يدي حسين داي قال لي: " لم يعد لديكم سوى ما يكفي من
الوقت للخروج للفرنسيين الذين سينزلون بسيدي فرج. إنّني أعرف مكان النّزول بواسطة
الرّسائل التي تصلني من بلادهم وعن طريق منشور طبع في فرنسا وأرسله جواسيسي من
مالطة وجبل طارق ".
وقد أخبر قائد الجيش الجديد (
إبراهيم آغا ) بهذه المعلومات بل وبتفاصيل أكثر دقّة، لكنّه لم يفعل شيئا كأنّه
جزء من المؤامرة.. وحول ذلك يقول حمدان خوجة:
" وبما أنّ إبراهيم قد عيّن
آغا خلفا ليحي، بعد حادثة " البروفانس " المشؤومة، فقد أرسل له مخطّط
الفرنسيين، وأخبر بالمكان الذي كانوا ينوون النّزول فيه، كما أحيط علما بالعدد
الصّحيح فيما يخصّ مكوّنات الجيش من سفن وجنود: وعلى الرّغم من هذه المعلومات
المنجية، فإنّه لم يُعدّ أيَّ شيء ولم يتخذ أيّ نوع من التّدابير ولم يعط أيّ أمر..."
دخول الفرنسيين إلى العاصمة
الجزائريّة يشبه إلى حدّ بعيد دخول الأمريكيين بغداد، وكأنّ التّاريخ يعيد نفسه
حقّا لا مقاومة كبيرة ولا دفاع مستميت وإنّما هو تخاذل واستسلام بكلّ سهولة ويسر،
وكأنّما الفرنسيّون في جولة سياحيّة، أهكذا تسقط عاصمة الدّولة الأسطورة، الدّولة
العظمى التي كان أسطولها يجوب أنحاء المتوسّط ويبسط سيطرته الكاملة عليه ويجعل منه
بحيرة إسلاميّة كما قيل..؟!
إنّ وصف حمدان خوجة لكيفيّة سقوط
العاصمة واستسلام الدّاي والأعيان، ورضوخهم لصلح مخزٍ ومعاهدة استسلام لم يطبق
منها الفرنسيّون حرفا واحدا، إنّ ذلك كلّه ليدخل ضمن الخيبات المهينة للأمم التي
استسلمت للدّعة والرّاحة، وتركت أمراض الحضارة تنخر في جسدها دون أدنى مقاومة أو
محاولة تجديد..
لم يحاول الدّاي أن يضع الرّجال
الأكفاء في المكان المناسب لحماية العاصمة والدّفاع عنها..؟ وكان بإمكانه أن يقود
المقاومة بنفسه لو كان حازما.. ! وكان بإمكانه أن ينسحب إلى
الدّاخل وينضّم جيشه في قمم الجبال أو وسط القبائل التي تدين له بالطّاعة والولاء
التّام..ولكن كلّ ذلك لم يكن .. !
وفي ختام هذه التعليقات – والتي
طالت - حول كتاب ( المرآة ) لحمدان خوجة فإنّ الملاحظة الأساسيّة على خطاب الكتاب
أنّه موجه إلى الفرنسيين بالدّرجة الأولى، لأنّه أرسل كوثيقة تعرض الواقع الجزائري
بعد الاحتلال إلى بعض الشخصيّات المتنفذة في الإدارة الفرنسيّة في فرنساـ، وكذلك
إلى لجنة التحقيق التي أرسلت من فرنسا إلى الجزائر للتعرّف على الوضع..
ولذلك يغلب على لغة الكتاب مدارة
الفرنسيين ومراعاة مبادئهم التي قامت عليها نهضتهم وثورتهم الحديثة، ومغازلة
ضمائرهم أو ضمائر بعض السّادة منهم، على افتراض أنّهم غير مطّلعين بشكل صحيح على ما
يفعله الجيش الفرنسي في الجزائر، ومن ذلك نجد حمدان خوجة يقول في ص 43 :
" والذي يدهشني في هذه
الواقعة، ويخجلني عندما أتكلّم عن هذه الأحداث هو أنّ السّيّد بيشون قد عرض قبلي،
في كتاب، وبكيفيّة صادقة هذه الأحداث، ولم تتخذ الحكومة الفرنسيّة أدنى الإجراءت
للتنديد بهذه الأعمال التي لا تليق بمقامها وبكرامتها. ولقد كان من حقّها أن تبرهن
على أنّ مشاعرها تتعارض مع هذا النّوع من التصرّفات، ومن واجبها، كما فعلت بمناسبة
الاستلاء بالقوّة على الصّوف، أن تشجب بشدّة وبواسطة تصريح وقوع مثل هذه الكوارث
التي يتسبّب فيها أعوانها.."
وهذا الأمر يجعلنا نتحفّظ على كثير من الأشياء التي جاءت في
الكتاب، لأنّ في الكتاب مدارة كبيرة للفرنسيين مراعاة لمقتضى الحال .. فقد يكون
تعمّد إخفاء بعض الحقائق أو عرضها بصورة تناسب مقام مخاطبة المحتل لغرض في نفسه،
أو طمعا في جلب تعاطف بعض النّزهاء من الفرنسيين لتخيف ما يمكن تخفيفه عن الشّعب
الجزائري المنكوب، لكن في النّهاية يعتبر الكتاب وثيقة شاهدة على ذلك العصر وتلك
الحقبة بكلّ ما فيها من تناقضات وتدافع بين الأمم.
[3]
- سألت الأستاذ الصّديق عبد الرحمن تونسي عن هذه القضيّة
وأخبرني أنّ شركة الإخوين بكري كانت تصدّر القمح باسم الجزائر وفقا لما قاله الدكتور
أبو القاسم سعد الله رحمه الله.
[4]
- الطبعة الأخرى صدرت عن وزارة المجاهدين في 2008 م وهي الموجودة على
الشّابكة على شكل pdf ومن غير مقدّمة الأستاذ العربي الزبيري.
[5]
- قرأت مذكرات ( الحاج أحمد باي ) منذ سنوات
بعيدة، وقد حفّزني كتاب ( المرآة ) على إعادة قراءته مرّة أخرى.
هناك تعليق واحد:
موقف اعيان مدينة الجزائر من الاحتلال الفرنسي كتب ان امكن
إرسال تعليق