أحمد الجنديـــل .. قراءة في مجموعته القصصية
(( سواقي العسل المر) !!!
رعد الدخيلي
بين أروقة الأصنام والأوثان تتطاير وريقات من شجرة طوبى
.. مكتوبٌ عليها : نحن ننبئكم عن سر الفناء .. نحن ننبئكم عن سر الخلود .
أنتم أيها البشر ؛ يا من حملتم على أكتافكم صخرة من رأس
إنسان ، سرقتموها من أروقة الأصنام ، فأوثنتم بشركم ، حتى صرتم عبيدَ غرائزكم المكبوتة
في سجن الضياع . أنتم إذن ؛ سرقتمونا مرّتين ؛ مرّة ً عندما سرقتم كينونتنا
المتحجرة ـ نحن الأصنام والأوثان ـ ومرّة أخرى عندما تقمصتمونا ، فانمسختم أيّها
الآدميون ، دون جعل الله .
أيّها البشر الممسوخون ؛ لقد تحولتم ، فتحولت مع تحوّلكم
مبادؤكم التي ورثتموها عن رؤوس لينة .. طريّة كالطين الذي منه أنولدتم ، فصُيّرتم
عبيدا .. ألّهتم العباد وعملقتم الأقزام القمئين .. تلبدت رؤيتكم خلف زجاج العدسات
الطبية المعتمة ، فرحتم ترون الألوان غير الألوان ،والإنسان غير الإنسان ،
والحيوان غير الحيوان . إنكم تبجلون القطاوات بما تستحقه الطواويس من مراسيم
التبجيل ، وتطعمون الثعالب الفاسدة المتلاوطة ما حريٌّ أن تطعموا به الكلاب
الوفيّة .. تلك التي لا تعض المؤوين لها ، لكنها؛ تنتقم من اللصوص .. ثياباً ولحما
وعظما .
كان لون دمائكم أسوداً كالليل الذي ملأ أفئدتكم، فراحت
تضخ الدم الأسود .. حملته نطفكم المتعاقبة ولداً يعيش ويعيث و يسيس حاكماً بإسمكم
في مملكة الغلابا المستسلمين والضحايا المحرومين، بعد أن قتلتم أبناءهم وأباءهم
وأخوالهم وأبناء عمومتهم الأبطال .
وما (شبيب) إلا شابٌ نشأ على عبادة (الله) .. كان يقرأ
القرآن في الجامع الكبير .. كان شمّساً يدق أجراس الكنائس المسالمة .. كان يسكبُ
الماء على العريسين الصابئيين ليلة الزفاف ، أنتم ضربتموه ذات حبسٍ على أمِّ رأسه
، فأفقدتموه الذاكرة ، حتى لم يعد يسمع ويقرأ ويرى !!! إنطفأ (شبيب) كما ينطفئ
القنديـــل !
ولم يكن(شبيب) هذا ؛ إلا واحداً من المعطلين عن الحياة
.. يرتقبون زورقاً غاطساً إلا قليلا ، يحمل لهم النعمة السالفة بعد جوع طويــــــل
. لكنه ؛ كان يخضع تحت ركلات المتخمين في فنادق الدرجة الأولى ، فيحسُ نفسه ثوراً
تحت نير الفلاحين ، الذين سيطعمونه بعد
كراب .
وما كان (شبيب) إلا عاشقاً يهوى الحوريات .. يصلي الفجر
والظهر والليل كله .. نصفه أو ينقص منه قليلا ،لعله يرى جنات عدن عرضها السماوات
والأرض ، لكنه يتقرفصُ على قارعة النيل الفرعوني سبع سنين ، شأنه شان البقرات
العشرالعجاف آن حصار الفرات المخذول ، فلم يتعرّف طوال حياة عشقه الورقي إلا على امرأة
جرثومة تفترش أمواج زليخة الشمطاء .
وعندما عاش (شبيب) ، عاش بلا عينين ، لهذا كان
يرتطم بجدران الواقع المرير، تماماً مثل
الدراجات النارية التي يقودها مقطوعو الرؤوس .
وعند الغروب ؛ يحمل (شبيب) عباءته الصوفية الكثيرة الرتق
، لكي يعلقها على الأفق الجميل ، لهذا كانت شموس الأصيل تنطفئ ، كلما يأتي (شبيب)
!
كانت عواصف الفجر الترابية ، تلك المنطلقة من بين قبور
المعدومين والميتين في سجون ، كانت تلكم العواصف المزمجرة المولولة تبقي عباءة
(شبيب) دون غضبة الريح ، كي تستقيظ شمسٌ جديدة في الجهة المعاكسة لأفق المغيب .
وأستيقظ (شبيبُ)
أيضا ؛ لأن الشمس تزاوره ذات يمين وذات وشمال .. أحس بدفئها ، لهذا أله المشرق
المستنير ، عندما رأى الشرق يصنع جفاف الرؤوس الطريّة بالفؤوس الصلبة .
ناداه (سلمان) ؛ هل تحتاج إلى مساعدة يا (شبيب) !!!؟
أجابه (شبيبُ) : شكراً يا سلمان !
سأله (سلمان) : إني لأعجب من أناس يحملون رؤوس مكوّرة ،
لكنها ؛ لا تريد المشورة !!!؟
أجابه (شبيب) مستهزئاً : يا سلمان ! .. لستُ مثل أولئك
الذين يحمون أهداف ملاعب كرة القدم ، فيتحير اللاعبون الهجوم بين رأسه والكرة
الجلدية ، فتنكسر أمشاط أقدام اللاعبين بسببي ، فأدخل جهنم و بئس المصير .
تلمس (سلمان) رأسه ، كأنه يغسل شعره بالصابون ، وأنصرف .
لكنَّ (شبيب) بقي مسمّراً تحت الشمس ، كأنه الوتد ، تلمس
مابين فخذيه ، أحسَّ برطوبة الإشتهاء والشبق ، هرول كالبغل نحو دابة تائة وضحك .
رأه (عبد القدوس الطويل) من بعيد ؛ سرّه من رأى !
لكنَّ (عبدالملك الشقيق) لم يتعود على المصداقية في سوح
الأبطال التي لا تتوكأ على علب السردين المستوردة ، ولم يعرفها البتة . لهذا ؛ آثر أن يختبئ في جحر
صنعته له مرتزقة المجد الزائف .. يأكل فيه ويتغوّط ، حتى امتلأ الجحرُ بمخرجات
البشر المتخمين .
مرّت (وفاء) فأزكم أنفها العفن المسافر إلى كل الأنوف
العابرة على الطريق ، سألت أحد المرتزقة المكرّشين .. افشى السرَّ ، فتمَّ إعدام
(عبدالملك الطويل) و(عبدالقدوس الطويل) ليلة العيد فجرا .
ذات إغراء؛ إستيقظت الجماهير على رائحة الموت ، تحملها
الأحزمة الناسفة والسيارات الملغمّة الآتية من بيت (وفاء) المقتولة بسكين
الصلاحيات المنتهية .
تحرّكت سرفات الغزاة على الطرقات بين المدن والقرى
والقصبات ، مثيرة ضجيجها المعهود في الرؤوس المصنوعة من الشمع والإسفنج ، فلا
تثيرها مهما جعجعت أو عربدت ليل نهار . حتى عاد (شبيب) مرّة أخرى ليشرب كأساً كان
النادلون يحسبون نصفه فارغا .
ولم يكف (شبيب) عن الأكل من حاويات القمامة في الأحياء
السكنية الفقيرة ، حتى صفق مع الجماهير المخدوعة بالوعد ، قائلاً: سأبقى جائعاً
هذا اليوم؛ لأنه ذهب وسيرجع لنا بعجل سمين .
نامت الجماهير على الأمل المزمن ، وتعالت حكايات وروايات
تفيد بأن القابل من الأيام خير ،لكن الانغماس في دهاليز الظلمة المتوارثة هو الذي
عوّدها على الإنتظار الزائف . ولم تكلِّ الجماهير من تعظيم الحكايا التي تنسج
الذهان في عقل الإنسان ، تلك التي تعيق المستقبل عن بلوغ مطلعه المشرق، لأنها
جماهير خنعت حتى للوعد الموهوم ، بعدما أغفلت الوعد الحقّ .
تتحطم رومانسية (زهير) الحالم بالحُبِّ والتفاؤل اللاحب
، أمام تداعيات النهش والوخز والتجاهل للإنسان الحالم ، فتتلاشى آماله ، وتتبدد
أحلامه بين أنياب إفتراسٍ لا يفهم لغة الآدميين .
وعندما تـُستهلك النظريات ذات النضالات الأربعينية وتهرم
، تذوب التطلعات كما يذوب الشمع تحت فتيل اللهب ، بينما تهنأ أخرى في تجربتها
المتفائلة المتصالحة مع التحاورات المنسجمة ، ما تباينت على خلاف مسوّغ مقبول ،
كيما تنال ما يؤمل من السعادة . لهذا تتضاءل (هيفاء) العنيدة المتزمتة المتباهية ،
بينما تتفاءل (ندى) .. (فرح) .. (رغد) .. فينجبن ولاداتٍ حيّة ً قبل أوان العقم .
ولم تمنع الموبقات هديل الجوازي الشاديات شجناً يبلسم
الإصغاءَ المتألِمَ ، الممتهنَ ، بسبب الضياع والإنهيار والتجاهل والإحتقار .
فلايجدر بالجماهير أن تستهين بالألم ، وهو فردها المعاش ، بل ؛ عليها أن تجد
منفتقاً لبصيص في دهاليز الظلمة المنسيّة ، حتى تستريح . لذا ؛ تحمّل (مجيدُ)
(ضياءا) وسرى به وأرسى على شاطئ ، رغم الهوس المتحامل الجاهل .
وهكذا أختتم (أحمد الجنديل) مجموعته القصصية الهادفة ،
ليعرض للأمّة بأنها ستموت ، عندما يموت تاريخها المجيد ، فحريٌّ بها أن تستحضر روح
تاريخها الذي إزدهرت به وزهت في الغابر ، كي تسعد في القابل من الأيام،حتى تبقى
سواقي حضارتنا تجري بأنهار من عسل حلو عذب شرابه.
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق