2014/06/05

"منافي الرب" لأشرف الخمايسي, فضاء جديد في عالم الرواية بقلم: خيري عبدالعزيز



"منافي الرب" لأشرف الخمايسي, فضاء جديد في عالم الرواية
بقلم: خيري عبدالعزيز
    ثمة من الكتاب من يشبه الألة الميكانيكية, آلة النسيج أنموذجا, يهدر طوال الوقت, تجده غزير الانتاج, نسيجه متباين الشكل واللون, ولكن انتاجه في النهاية لا يغدو أكثر من منتج بالكاد صالح للاستخدام الآدمي.. وكفى..
    وثمة صنف آخر, ينسج من روحه, الابداع في عرفه هو الخلق التام, والفن محرابه ومعبده.. الفن حياته..
   في "منافي الرب" للمبدع "أشرف الخمايسي", خلق الكاتب خلقا من الصنف الثاني, الذي ربما لا يواتي الكاتب إلا في العمر مرة, وهنا ربما نشفق عليه, ونتسأل:
    "هل هو بالفعل قادر على الاتيان بخلق جديد في مستوى منافي الرب؟.."
   الرواية من ذلك الصنف الغول الجبار, الذي أحسبه, وبلا مبالغة, يقتات على الموهبة ويستنزف آخر ذرة منها, فهي لا تصنعه, ولكنه يتغذى عليها..
   "منافي الرب" خلق جميل بديع, يقتنص الانبهار بالقدرة الفائقة على صنع الخوارق؛ قدرة على رصد الذات, على التوغل في المسكوت عنه في خبايا النفس, وفضح تساؤلات العقل الخفية المؤجلة, ورغبات النفس المؤججة, وأيضا في تساؤلها العفوي البسيط الفلسفي عن الموت, على لسان "حجيزي"..
    الأبطال الشجعان ينطقون بما نخجل عن طرحه بيننا وبين ذواتنا, يكشفونا ويعرونا, يفضحوا الخوف الكامن فينا.. هم من الجرأة بأن أتوا بالحياة, بكل غموضها, ونزقها, وعنفها, وخوفها, وتساؤلاتها, ووضعوها على منصة التشريح.. وكل يسأل فيما يخصه ويطرح قضيته.. ونحن بالقريب, نسمع, ونرى, يعترينا الخجل والخوف, وأحيانا نصاب بعدوى الشجاعة؛ فنضم صوتنا لصوتهم ونتساءل معهم, وننتظر إجابة من تلك المطروحة المستسلمة لارادتهم..
    واللغة ما سلمت من ابداعه, هي ريشته الطيعة, التي رسم بها شخصياته وبيئة روايته, لغه انبثقت ولم تُصدر, فقد أتت بها بيئة الرواية نفسها, وأفرزتها من نفسها, وكتبت بها نفسها, لغة عفوية احيانا, عميقة أحيانا, رعوية, حسية, روحانية, اللغة في منافي الرب لبست كل المسوح, فهي باحثة مع حجيزي, نزقة مع سرين, متسائلة مع يوأنس, راحلة مع غنيمة, باكية مع سعدون, منكسرة مع زليخة, حزينة مع سريرة, عفية مع بكير, منطلقة مع ثريا, ملتزمة مع مزيد, عاشقة مع سليم, خجولة مع سكيرة, عنيفة مع رسلان.. كل بطل يسرد نفسه بنفسه وبطريقته وأسلوبه, ولغته, وكأن منافي الرب هي من أتت بنفسها من قلب "المبدع أشرف الخمايسي", وليس هو من كتبها وأتى بها..
    أصوات عديدة في العمل كل يسرد نفسه ويقص ما لديه, وكان "المبدع أشرف الخمايسي" من الجرأة, بأن يترك كل منهم على هواه, دونما تدخل, أو ابداء رأي, حتى أن سعدون عندما عاشر زوجته زليخة في الصحراء لم يمنعهما, أو ينهرهما بكلمة, أو انتزع منهما زمام السرد, ليخرج مشهد ينطق بالشبق والعنف, والفن أيضا, ورغم تحفظي على توظيف الجنس في الأدب, فإن أشرف حتى عندما سرد جنسا فهو كان يرسم فنا, كان مختلفا كعادته..
     الرجل فنان حتى النخاع؛ الحوار, والسرد, ورسم اللوحات سينمائيا (فتشعر وكأنك تسمع وترى) والانتقال بين الأزمنة, والأمكنة, وتغير أصوات السرد بين لمحة وأخرى, وفي شيء كالسحر, ودونما مقدمات..
   لوحات بديعة هي رواية منافي الرب, رصت بعبقرية, لوحة فسيفساء تنطق بالحياة والفن, لا تخلقها إلا يد خارقه, جهزت بعين نافذة ترصد وتتابع, ولا تفوتها فائتة..

ليست هناك تعليقات: