بقلم: عبد القادر صيد
مسح زجاج النافذة ، ليرى أضواء باريس الفاتنة كعادتها في كل ليلة، ومن حسن حظه أنه ليس تلك الفراشة التي تبحث عن
الأضواء ،فلمح الضباب الكثيف الذي كاد أن يحجب برج إيفل، افترت شفتاه عن ابتسامة خفية
مليئة بالأريحية و الإحساس بالتفوق ، لأن عقله قد تجاوز مرحلة الضباب ،و لكنه لم
يلبث أن تذكر أن بعضهم يشمئز من إحساس العربي بهذا الشعور،فلم يتمادى فيه ،لكن لم يتوقف
عن البحث بعينيه في فضول عن المكان الذي كان يطل فيه هتلر بعظمة و كبرياء على برج
إيفل. ثم قال بحماس بعد أن قاس بلطف ضغط الشيخ الفرنسي المتمدد على السرير:رائع يا سيدي.. ضغطك رائع هذا المساء..وجهك
أيضا مشرق ، حالتك في تحسن مستمر.
رد الشيخ بلغة دينية ليرضي طبيبه المسلم
الذي هو ضيفه في منزله: الحمد لله .صمت الاثنان و تركا للجو المكيف داخل هذا
المنزل الفاخر ليتكلم،و ليعبث بأفكارهما كيفما شاء، و ما هي إلا لحظات حتى تناغمت أنفاس المريض مع
عالم الأحلام،فرح الطبيب بهذا النوم، لأنه
من علامات التحسن والشفاء،و استند بظهره
على كرسيه إلى الوراء ، فتدلت رقبته خلف الكرسي في وضعية مريحة مؤقتا ، وبدأت الفترة
الرسمية التي خصصها الزمن و هي أوقات
الانتظار لمداومة التساؤلات و اجترار ما لم يتم هضمه في الماضي :من كان يخمن أنه يأتي
عليّ وقت أدخل إلى بيت شيخ فرنسي لأشرف على تطبيبه ؟ و أعجب منه أنه هو من اختارني من بين كل أطباء المستشفى على اختلاف أجناسهم..
عجيب هو القدر في تصاريفه !
أسلم نفسه لآلة الذكريات التي شاءت أن تقف به عند
حادثة وقعت له زمن المراهقة، ولم تكن هذه الحادثة بمنأى عن أجواء الموقف الذي يعيشه
الآن ، بدت الحادثة كأنها وقعت له بالأمس على الرغم من أنه قد مضى عليها أكثر من ثلاثين
سنة، إنه مازال يتذكر حين أرسلته أمه وقت القيلولة لاقتناء الحليب و بعض الحاجيات
لوجبة الإفطار في شهر رمضان، و كانت أنفاس الناس تكاد تنقطع من شدة الحرارة ، و صادف أن رأى سياحا ، و قد استوقفهم بمنظره البائس، فقد خرج دون أن يمشط شعره و ربما
لم يلتفت إلى غسل وجهه، إضافة إلى هذا الهزال الذي ظهر عليه و هو في منتصف شهر
الصيام، فحاولوا أن يتقربوا إليه،فقدم إليه رجل منهم يبدو أنه كبيرهم قارورة من
العصير، أظهر له الاحترام و قال له بأدب:
ـ تفضل يا صديقي
اشرب،
ـ أنا صائم.. ألا
تعلم؟
ـ و لكنك ما زلت صغيرا
يا صديقي !
ـ لست صغيرا.. أنا
الآن في السنة السادسة ابتدائي ،و هذا ثالث رمضان أصومه ، و رمضان السنة الماضية كان أشد حرا من
رمضاننا هذا.. أنتم لم تروا شيئا. تلفظ الفتى بهذه العبارات بفخر ، متقمصا البطولة
و مبعدا عنه حداثة السن أو الإحساس بالجوع و العطش في هذا الحر الشديد حتى ينجو من
جلب العطف و الرأفة،ولم تكن فرنسيته فرنسية هيجو ولكنها كانت مفهومة، كما كان حالته أيضا
مفهومة تماما، ثم انصرف عنهم ، و هو يسمعهم يتخافتون فيما بينهم، و كانت أصواتهم
تصل إليه كموجات البحر ترتطم بأذنيه، لا تكتفي بصفعه بل تدخل منه قطرات داخل الأذن
و تسبب الإزعاج و أشياء أخرى: حرام .. حرام و الله أن يفرض الصيام على مثل هذا
الطفل !و كانت امرأة منهم قد التقطت له صورة دون أن
يتفطن لها.و و ما كاد يبتعد عنهم حتى ناداه
كبيرهم : يا صديقي كم أنت كبير ! كم أنت كبير!
لم تكن هذه العبارة تعني له شيئا، فالأسبوع
الماضي فقط خاطبه أحد السياح :يا سيدي هل يمكنك أن تدلني على طريق (غوفي)؟ و مع
ذلك فلم يسلم من هذا اللقاء، بل خالجته أفكار كان يستغفر الله منها طيلة عودته في
الطريق،كيف يكون هؤلاء المتحضرون على ضلالة و نكون نحن المتخلفين على حق؟ هل يعقل أن يترك
الله هذا الكمال في الأجسام و هذا اللباس الفاخر و هذه الوجوه الصبيحة على ضلالة،
و نفوز نحن بالهداية ؟ كان يستغفر الله ، و يلعن إبليس ألف مرة. لم يكن يعنيه فعل
الخير الذي قاموا به ، فهو يعلم أن قارورة العصير لا تساوي الدينارين، و ربما شك
أنها ممزوجة بشيء من الخمر، فهم لا أمان لهم في اعتقاده ، فلربما أرادوه أن يسكر فيكون
مثلهم، كما فكر أنهم ربما يريدون إدخاله في دينهم بتظاهرهم التعاطف معه، و لكن على
من؟
دفن هذه القصة ، لكنها لم تمت بل كانت تخرج
بين الفينة و الأخرى أغصانا و أوراقا، و قد كبر و درس في الجامعات الغربية و شذب
أغصانها ،و قطع أوراقها التي كانت كان يجهل أصلها ، و انحلت عقده و التقى خلال
عمله بالمسلمين بمختلف ألوانهم ، وبأصحاب الديانات الأخرى بمختلف ألوانهم و بمختلف
جنسياتهم ، و دخل مع العديد منهم في مناقشات علمية ودية، و أحيانا كان يحتدم
النزاع و يطغا هذا الطرف أو ذاك ، و على
الرغم من ذلك فقد كانت هذه النقاشات غرفة عناية مركزة تمنع نبضات العقل التي تربط بينهم عن التوقف،
أما نبضات القلب فقد كانت منتظمة بحكم الشعور بالإنسانية الجامعة.
أيقظه صوت المنبه ، فقام .. و صلى صلاة الصبح،
و الشيخ يلاحظه بهدوء دون أن يحرجه بالمتابعة،و عندما رجع إلى كرسيه ، قال له
الشيخ بصوت هادئ ما زال المرض لم يغادره تماما
:
ـ ماذا تقولون لمن
انتهى من صلاته ؟
ـ رب يقبل .
ـ رب يقبل، هل تسمح لي أن أشكرك على وقفتك
الإنسانية معي في مرضي .
ــ الفضل لله يا
سيدي أولا و آخرا.
ـ بصدق ألم تتساءل
لماذا اخترتك دون غيرك من الأطباء لتشرف على علاجي ؟
ـ لا يا سيدي ، لا أعلم .
صمت الشيخ برهة، و
بدأت علامات التردد على وجهه، لكنه استدرك أمره، و قال:
ـ لقد اخترتك
هكذا، دون أي سبب ،بل اختارك القدر ..أنا شديد
الإيمان بالقدر.
و في حركة هادئة تناول الشيخ صورة كانت فوق
طاولة بجانبه، لم يرها جليسه مع أنه لم يتعمد إخفاءها ، و سبحت فيها عيناه، ثم
غطست بعمق ثلاثين سنة ،و تمتم بينه و بين نفسه :كم أنت كبير يا صديقي !كم أنت كبير!طفل صغير في الصحراء يتحمل الحر و الجوع و العطش،و يقدم لنا درسا في الصبر والرجولة،
كم هو كبير! ترى هل ما زال هذا الفتى على قيد الحياة؟ و ماذا
فعلت به الدنيا؟ وددت لو أنني ألتقي به ..شكرا لزوجتي في قبرها فهي التي التقطت
هذه الصورة،ثم رفع رأسه، و قال لطبيبه مبتسما: كم أنت كبير يا طبيبي، كم أنت كبير! ابتهج
الطبيب لهذا الكلام، وظهرت الابتسامة قوية على وجهه ،لم ير أي جدوى من سرد الحادثة
على ضيفه ، كما أن الضيف استثقل أن يسأله عن الصورة و قصتها ، و اكتفى بابتسامة امتنان.
من العجيب أن يجهل الاثنان أنهما التقيا قبل
اليوم وأن كلاهما قد ترك بصمته في الآخر دون أن يشعر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق