قصة قصيرة:
Goodbay أيها النيل العظيم
تخليدا لروح الأديب محمد بهنس
محمد الكامل بن زيد
هو ذا نهر النّيل العظيم يعلّنها بعنهجية لم يعدها فيه من
قبل..إذ لم يتخيّل أن تهتّز أمواجه عن آهات شديدة اللوعة تخبره صراحة أن لا مكان
له في هذا الوجود ..وأنّه من العبث المضي قدما في أغوار أحلام واهيّة..ظلّ يلازم
أفكاره بين ماضيه الموغّل في الألم وبين القادم من عتبة المجهول ..قد كان يأمل أن
تأتي مثل هاته اللحظة برداً وسلاماً عليه بقدر ما جادت به أنفاسه الحالمة..شعربوخزات
قاسية تتسلل خفية عبر ثيّابه الممزّقة لتنغرس بحدة في جسده المرهق ..لم
يتفاجأ بالعبارات الأخيرة لهذا النّهر في هذا
المساء ..فقد كان ينتظر بشغف كبير آخر الكلمات ليعطي لنفسه إيمانا صادقا
على أن الحيّاة ..هي الموت..
لم يصدق كيف مضت السنّوات خلف الجدار الحديدي المسيّج
لحوافي هذا النّهر ..ظّن في البدء أنه إطار خارجي للوحة زيتيّة سيغيّره بنرجسيّته
الحالمة إلى صورة بديعة تحلق به في الانواء ..هناك حيث الأفق البعيد ..الساحر..
فأنامله لا ترضى ولن ترضى إلا بالأشيّاء الجّميلة مثلما
رددها عليه وعلى مسامع زملاءه التّلاميذ معلم المدرسة ذات مرة" أناملك ستجعل
منك أسطورة "..ابتسم ابتسامة بلهاء كما يبتسم الآن ..قصة الأسطورة تأخرت
قليلا ..فهو إلى حد الساعة بينه وبين النّيل العظيم عمود كهربائي احتمى بساريته فارا
من برد شديد لم يسبق لقاهرة المعز أن عرفت مثله ..قدماه النحليتان فشلتا في
المقاومة ..الأنوار تتحدّى عينيه المضحلتين ..فبين اللّحظة واللّحظة تمرق من بين
أشعتها صور باهتة لطفل صغير يقف أمام "برج إيفل" يلّوح له من بعيد
..يبتسم ابتسامة بلهاء أيضا ثم ينخرط في هستيرية البكاء الحار ..صور أخرى لنفس
الطفل وهو يحاول التملص من أحضان رجال الشرطة الفرنسيين ومعهم زوجته السابقة
..يصرخ بكل ما أوتي من قوة الفراق "إنه أبي ..هذا أبي "..تتراكض تلك
الصور حتى لا يكاد يميّزها ..انتهى كل شيء ..لا يتمالك نفسه فينكفئ عليها ..يخّر
مغشيا على الأرض ..يحاول مجددا أن يمسك بالعمود الكهربائي ..فتعاوده الإغفاءة تلو
الإغفاءة ..لم يعد بإمكانه أن يشعر بأمواج نهر النّيل العظيم وهي تتكالب عليه في
مثل هذا البرد القارس ..هذا الذي لم يسبق لقاهرة المعز أن شهدته من قبل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق