البـــــــــــرواز
مونودراما من فصل واحد
(أحد النصوص الـــ10
بالجائزة الدولية للمونودراما في دورتها الأولى)
بقلم: أحمد قرني محمد
تظهر على المسرح صالة لشقة صغيرة
بها كنبة وفوتيه صغير معلق عليها عديد من الصور العائلية القديمة بالأبيض والأسود من
ضمنها صورة لزوجين شابين وبرواز آخر لسيدة في الأربعينات من عمرها وفى إحدى هذه البراويز
يسكن رجل ذو بشرة بيضاء مشربة بالحمرة يرتدى بذلة أنيقة ورابطة عنق يجمد على هيئة صورة لا تتحرك يعلو برواز الصورة
شريط أسود يشير إلى أن صاحب الصورة قد مات كما يوجد سلم خشبي صغير وقطعة من القماش
مبللة وقبعة عسكرية تخفت الإضاءة ومع
موسيقى خافتة يبدأ الرجل في التحرك ببطء
كأنه يحاول الخروج من الصورة يظهر وكأنه يقاوم شيئا ما لا نراه يتحرر ببطء يرفع
الشريط الأسود ثم يترك البرواز يتحسس يديه ويفركهما دليلا على التحرر من شيء كان
يمسك يده.. يتلفت يمينا ويسارا حتى لا يشعر به أحد يعود وينظر إلى البرواز خاليا
من الصورة يضع الشريط الأسود مكانه
ـ ياه من الصعوبة
حقا أن تخرج من البرواز كل ليلة بعد أن ينام
الزوجان حسنا ...انتهى شجارهما اليومي ..يبدو الزوج بريئا
( يستطرد) والزوجة أيضا ( يفرد زراعيه عن أخرهما ويتنفس بعمق) لقد
دخلا غرفتهما ليناما ( كأنه يتسمع حركة الزوجين ) ناما فعلا
ياه كيف يقضى المرء حياته هكذا معلقا على الحائط طوال
الوقت؟ في انتظار تلك اللحظة لحظة الخروج إلى هنا ثانية وكلى خوف أن يراني أحد أو
يتعرف على وتكون ساعتها كارثة تحل على رأسي ( يتحسس رأسه) كفاها تلك المنفضة
الخشبية إلى تمسكها الزوجة كل يوم لتنظف بها البرواز وتهوى بها فوق رأسي ( كأنه يستحضر اللحظة
المؤلمة يصرخ ويتألم بشدة ) وخاصة إذا كانت هناك مشكلة بينها وبين زوجها حينها تصب
جم غضبها على رأسي بالمنفضة ( يمسك رأسه ويصيح من الألم)
( يفرد زراعيه وظهره) هي دائما تشكو له زحمة المواصلات حين يسألها
عن سبب التأخير
وهو يشكو لها من الرجل الذي يرأسه في العمل يتحدث عنه
كأنه
يتحدث عن رجل أبله معقد ( يفرش ابتسامة عريضة على شفتيه
يمطهما ثم يتثاءب)
كيف يبدو المرء أبله ؟ أحاول
التذكر ( باستفهام ) كم سنة مرت وأنا معلق هكذا على الحائط ؟ الزمن على هذه الهيئة
لا يهم..منذ متى
علقت على هذه الحائط ؟ لا أعرف عدد السنوات لم تكن معي
ساعة ( ينظر إلى ملابسه كأنه لا يعرفها)ولا حتى أعرف متى اشتريت تلك البذلة التي
أبدو داخلها كرجل أنيق ( يتحسس شاربه
سعيدا بأناقته يتحرك إلى المقعد واضعا يده خلف ظهره يبدو قلقا مرتبكا يفكر ثم يقرر الجلوس في مواجهة باقي الصور
المعلقة يتحدث إلى نفسه وهو ينظر إلى إحداها ) أقل أناقة منى طبعا ما الذي يعنيه
ذلك الشريط الأسود الذي يلتف حول البرواز ؟
لن أتعب رأسي في التفكير في أجوبة علىّ أن أعيش حياتي
كرجل معلق وفقط هكذا قررت فيما مضى من السنوات لا يجب أن أقحم نفسي في أمور لا تهم رجل معلق على حائط يا لها من تجربة
رائعة ومهمة ما أجمل أن تشعر بالسعادة حين تمر امرأة جميلة بيدها ممسكة قطعة من
القماش ( يضع يده على خده ويمر برومانسية مضحكة) لتنظف وجهك كل يوم أو حتى لتنظف
البرواز ( بحدة ) لا يهم ( باستدراج) لكنها ومنذ أسابيع لا تفعل ذلك أهملتني بشدة في
الوقت الذي كنت سأكشف لهما عن سر خطير بالنسبة لهما ربما يغير حياتهما تماما لكنى تراجعت
(بحزن يتحرك ناحية البرواز يتحسسه ) حين سمعتها تقول لزوجها في مكر
( بلغة تمثيلية يقلدها بأنوثة مفتعلة)
ـ يكفينا تلك الفترة الطويلة من الوفاء للجد ؟
لكنه نهرها بشدة ووقف ضد رغبتها أن تحملني إلى غرفة
الكراكيب لكي أنضم لبعض الأشياء المهملة هناك ( بلغة خطابية) لكن على الأجداد أن
يرتفعوا عن صغائر الأحفاد، لم أكن أبدا ذلك الجد الشرس الذي يظهر دائما في روايات
الإقطاعيين يدافع عن تقاليد العائلة لا لست من هؤلاء لقد فقدنا ميراث العائلة منذ
قامت الثورة والحمد لله ( بسخرية )وعملت موظفا بسيطا أكد وأكدح من أجل العائلة
واختلطت بالبسطاء مرغما وعرفتهم عن قرب وفيما مضى كنت أسمع عنهم فقط كانوا يتربصون
بى كأنني رجل جاء من زمن ولى رجل بشارب أنيق وبشرة بيضاء مائلة للحمرة من سلالة
العائلات المنقرضة لكنني لم أتراجع عن موقفي وبقيت وحيدا بلا أصدقاء
(ينظر إلى بقية الصور المعلقة على الحائط ) إن موقعي بين تلك الصور
هنا في المنتصف وأعلى يشير إلى أنني كبير هذه العائلة
( يتراجع للخلف دفعة واحدة) إن موقع كبير العائلة موقع مهم وله
تأثير ربما كان ذلك في الماضي على ما أتذكر ولكن أين نحن الآن من الماضي الماضي الذي
يقبع في الذاكرة ولا يتحرك منها أم الماضي الذي يعيش معنا في تقاليدنا وأعرافنا
الزوجان يطلقان على الجد (بارتياح) لفظ رجل التقاليد هل
هذا يسعدني أم تراه برواز جديد تقبع داخله صورتي
لابد أنني قضيت عمرا طويلا في هذا البرواز....سمعت
الزوجان يقولان ذلك
الزوجة الشابة كانت تتحدث وهى تمسك بقطعة القماش المبللة هذه لتنظف سطح البرواز وتوجه
حديثها إلى الزوج الشاب كانت تحدثه عما مضى.. عن زمن الجد كانت تقول أنه زمن جميل
بسيط يملئه الحب كانت تمد له يدها لتعانق يده وهو مشغول عنها في متابعة شريط
الأخبار الذي يمر على الشاشة ليعرف المزيد من أخبار الحرب أخبار الحروب كانت
تقلقها كاد البرواز يفلت من يدها كدت أقع على الأرض وشعرت بدوار وأن رأسي ستتهشم في
اللحظة المناسبة أدرك الزوج الشاب ذلك رفع حاجبيه ونهرها بشدة وضعتني الزوجة
الشابة بحرص على الحائط وبدأ الشجار
بينهما
في الأيام الماضية كانت الزوجة أكثر عصبية كانت تتحدث
كثيرا عن رغبتها في الخلاص من كل تلك المشاكل التي تحيط بها ودون فائدة تحاول
الخروج مرات كثيرة كانت تقف أمام البرواز وتشكو لي هذا الزمان وقسوته ربما كنت
تتصورني مجرد صورة في برواز ،معذورة كادت دموعها تسقط أراها تنهار وهى تقاوم
السقوط أمام البرواز أتحرك في داخلي لكنى لا أستطيع الخروج أكتشف ضعفي وأشعر
بالمهانة ليس سهلا أبدا أن تخرج هكذا من البرواز سيحتاج الأمر إلى مران كثير وقد
حاولت ونجحت أخيرا، قبل الخروج بدقائق أشعر بنقاء روحي وقدرة على اجتياز
المستحيلات تنتشي أعضائي وأرتجف أحلق في فضاءات كثيرة وأطير كعصفور( يجرى على هيئة
عصفور ويحرك ساعديه في الهواء مبتهجا ) ثم تلامس قدمي الأرض كأنني أهبط عليها من
كوكب أخر لأول مرة أراني هكذا حرا أتجول كما أشاء أحاول أن أشم هواء كالذي كنت
أعرفه أو رائحة كالتي كنت أشمها لكن هيهات هواء البحر ليس كهواء البر ربما يتصورون
أنني أهذى أو رماني الجنون بسهم فأصابني فلا أدرى ما أقول لكن هذه هي الحقيقة هل من المستحيل أن يحدث هذا ؟(بحزن يتحرك ناحية
البرواز ويتطلع إليه ) الموت ليس نهاية الأشياء ( ينتحب ويئن) هذا البيت كم تنفست فيه هواء نقيا كم جريت هنا
ولعبت هناك مع أحفادي رأيتهم يكبرون أمامي ( ينظر إلى الجدران بشفقة ) ليس هو البيت الذي أعرفه لا أعنى طلاء الحوائط
الذي تغير ولا أعنى هذا الأثاث المختلف إنه شيء غريب لا أستطيع الإمساك به يقبض
على روحي يعتصر نفسي ويتركني محنطا في برواز قديم وكلما هممت أن أقول لهم ما أود (
بتعاسة ) أصمت أشعر بالخرس يتملكني الضعف وأسقط فريس أسئلة كثيرة ، هذا البيت الذي
رأيت فيه السعادة لماذا لم يبتسم لوجودي ...ربما لا يشعر بوجودي الآن إنه عالم
عديم الأهمية لا يحتفي بعودة أحد ولا برحيل أحد وبرغم أنني موجود الآن ولم يعد
لاعتراف الآخرين بى معنى على الإطلاق هل يمكنني الآن أن أعلن عن وجودي؟ وأن أصرخ في
وجه الزوجين الشابين بكل جرأة وأن أسترد بيتي ومقتنياتي أين كتبي وملابسي ؟ حتى
أقلامي الحبر التي كنت أجمعها ( يبحث عنها بكل جدية ) يبدو أنهم تخلصوا منها منذ
أن وضعوني في هذا البرواز واختاروا لي هيئة باشا قديم معلق على حائط في أحد أركان الصالة من
يشعر به وقد نزعوا عنه ألقابه وتركوه مع حفنة من الأوغاد يسخرون منى كلما مررت بهم
حتى الزوجة الغبية هي الأخرى مثلهم التي تظن نفسها جميلة تريد التخلص منى
نهائيا وإلقاء البرواز في غرفة الكراكيب هناك في البدروم حيث الرطوبة والجو الخانق
ينهش أفكاري أجلس بمفردي في ظلام دامس أنا لا أحب الظلام وطوال عمري كنت أنام
والمصباح مضاء ثم ماذا كانت تريد أن تضع
مكاني على الحائط ؟(بسخرية وتهكم) لوحة أحضرتها معها من السوق ! لوحة رخيصة ثمنها
لا يتعدى القروش البسيطة تقول إنها تحتاج إلى منظر طبيعي يعيد الحياة إلى هذا
البيت منظر مبتذل لدب يلهو في حديقة كم هي امرأة تافهة؟ ربما وضعت خطتها في التخلص
من صور العائلة واحدة واحدة ( بحسرة ومرارة)يا لهذا الجيل الجديد من الفتيات لا
يحفظن الود لمن سبقهن يعتقدن أنهن سيخلقن فصلا جديدا من الحياة ولا يدركن أن
الحياة سلسلة من الفصول هكذا أرادت جدتك صاحبة هذه الصورة (يشير إلى صورتها
المعلقة على الحائط ) أن تفعل معي من قبل لكنني نهرتها كانت تفكر في اقتلاع صور
الأجداد قالت ذات يوم وقد حشدت أسلحتها ،لهجة أنثوية ماكرة و دلال رائع التأثير
على رجل مثلى يعشق النساء والجمال وقالت و هي في كامل أنوثتها أنها تبغي تغيير
طلاء البيت وتقترح إنزال تلك الصور القديمة وتغيير إطاراتها كانت تدرك مثلى أن أي
محاولة للاقتراب من تلك الصور بالتعديل والتغيير تعنى القضاء عليها حتى ولو كان
ذلك يعنى التحديث أو الحداثة بلغتها كما
كانت تقول ( يتحرك إلى صورة الزوجة الشابة)..كان بإمكاني يا عزيزتي أن أفضحك أن
أقول لزوجك كل ما تفعلين من وراء ظهره أن أسقط جم غضبى عليك وأن أحرك لساني الذي
تظنين أنه جامد لا يتحرك وأقول كل شيء لكن الوقت لم يحن بعد ( بضيق ) هل كانت هي الأخرى
تفعل معي مثلما تفعلين ؟ (يطالع صورة زوجته) لكنها تمتلك البراءة والحلم معا
وتمتلك مفاتيح السعادة وكانت حانية كأم ورائعة كشجرة وارفة الظلال فيما مضى كانت لي
أرضا تملئوها الزهور وجنة من السرور ( يعود يحدث نفسه) لا تكن أبله كل الرجال يقولون نفس الكلمات
البلهاء ويرددون ذات العبارات السخيفة عن زوجاتهم أتذكر بالأمس حين أمسك يدها
وكانا يقفان ها هنا أمامك وقال لها تقريبا نفس الكلمات الغبية يا للرجال ! إنهم
أغبياء حقا كيف أصدق براءتها لأنها فقط تمتلك عينين صافيتين؟! كل نساء الدنيا لهن
عيون صافية ومشاعر متدفقة ومع هذا يفعلن ما يفعلن المشكلة أنني لا أملك الدليل على
صدقها كما أنني لا أملك دليلا على كذبها ما الحيلة ؟ ما العمل ؟ يبدو أنني عاجز عن
الوصول إلى أي شيء كل الأضداد تتساوى في نظري الآن ، القبح والجمال الخيانة
والإخلاص الحب والكره من يعرف طريقا للخلاص ( يعود فيقف أمام برواز الجدة متطلعا)
متى تخرجين ؟ أنظري هاأنا أمامك أتحرك وأتكلم لماذا تظلين حبيسة البرواز ؟ هل لأن
الودعاء والطيبين من الناس هم الذين يخرجون ويتحررون (يصمت فجأة) لا أظن ذلك لأنك
أكثر وداعة وطيبة منى،( يغير لهجة حديثه فجأة) هل تريدين أن تعرفي أخبار الحفيدين
؟إنهما ليسوا سعداء بزمانهم مثلنا يبدو أن الزمان لا يسعد أصحابه إنهم يتصنعون السعادة بالأمس رأيت حفيدنا يقف
بمفرده ها هنا ويبكى كان وحيدا لم تكن معه كان وحيدا وبكى ظل يبكى أشفقت عليه كنت
أرغب أن أنزل من فوق الحائط وأحدثه لا تقولي لي هل كان بوسعك أن تنزل من فوق
الحائط أم لا ؟ هذا سؤال سخيف لا معنى له على الإطلاق لأن المرء يود أن يفعل أشياء
كثيرة ولا يعرف على وجه الدقة إن كان يستطيع أن يفعلها أم لا أنا الجد وكان مفروضا
على أن أعتني بأحفادي أن أرعاهم وأجعلهم مسرورين يبدو أنني قصرت في دوري (بضيق)
كان يجب أن يحاسبني أحد على هذا التقصير لا أحد يحاسب أحدا في هذا الزمان الكل
يسير دون حساب أو عقاب ؟ أنت لا تصدقين
أنني أخطأت ربما تتخيلينني رجلا مثاليا بلا أخطاء هكذا حاولت دائما أن أبدو أمامك
لكنني فعلت أشياء كثيرة أخجل منها الآن نعم أخجل منها لماذا تنزعجين هل تصدقين أنني
غازلت صديقتك الدكتورة التي تتشدق دائما عن حقوق المرأة تقابلنا كثيرا من خلف ظهرك
وتحدثنا كثيرا في الهاتف طبعا لم نكن نتحدث أبدا عن حقوق المرأة ولا عن البورلتاريا التي كانت تدافع عنها أمامنا أنت
دائما تحسنين الظن بى وتصفينني بالزوج المخلص أنا فعلا كنت زوجا مخلصا لك مرة
واحدة فقط التي ذهبنا سويا إلى شقتها كانت
تمتلك جمالا خاصا جدا عيونها الزرقاء التي تقبع خلف عدسات نظارتها ابتسامتها التي
تنفجر كشلال من الأنوثة و شعرها على هيئة زيل حصان تتجمع حولها كل الطيور المسالمة ليس هذا غزلا بل هي مشاعر تتشكل داخلي
عن غير قصد منى صدقيني كانت في حاجة إلى
رجل مثلى ذي بشرة بيضاء مشربة بالحمرة هكذا صارحتني برغم حديثها الدائم عن طبقة
البرولتاريا وعن اليسار لا تخدعك بتلك
المقولات التي تتفوه بها كانت امرأة عن حق تمتلك جمالا خاصا ومعنى للأنوثة مختلف قالت
لي ذات يوم أنها كانت تتمنى أن تتزوج من باشا قديم هل تصدقين ذلك؟ حتى أحفادي لم
أكن أبدا مثالا لهم الزمن تغير ولم تعد أيامي هي أيامهم حتى البيت الذي تركته لهم
غيروا ملامحه البيت الذي منحنى إياه رجال الثورة
بعد أن صادروا بيتي الكبير الذي تعبت في بنائه كنت معي ورأيت ذلك بنفسك
بكيت كثيرا أمام الضابط يومها لكنهم لم يتعاطفوا مع دموعك و طردوني منه كالكلب كنت
مضطرا أن أقبل هم يحاسبونني الآن على استسلامي
إنهم جالسون في غرف مكيفة بينما قضيت أياما سوداء في غرفة مظلمة برائحة كريهة
ألقوا بى في قاع مظلم جب حقير تجمعت فيه كل حشرات العالم هل تعرفين ما أعنى ؟ حتى أحفادي أرادوا أن
يفعلوا معي مثلما فعل ضباط الثورة لم أعد
أفهمهم بالأمس كانوا سيلقون بى في غرفة الكراكيب هل تتصورين ذلك ؟ هل تتصورين رجلا
أنيقا مثلى يرتدى بذلة ويمتلك وسامة وشاربا يلقى هكذا؟ هل تضحكين نعم كانوا
سيفعلونها وأنا لا حيلة لي ( بحزن) هم معذورون الحياة على أيامنا كانت تمتلئ
بالمشاعر المتدفقة والرومانسية كان لدينا متسع من الوقت للحديث وللغزل وللحب أما
هم فليس لديهم وقت للتعبير عن مشاعرهم أنظري إليهما وهما يجلسان على مائدة العشاء
إنهما يجلسان كمتخاصمين أخذت وقتا طويلا
حتى أفهم طريقتهم في التعامل كل ما كنت أريده حين خرجت من هذا البرواز أن أدلهما
على الخبيئة هل تذكرين ؟ هذا ما كنت أريده بالضبط لكنني حين رأيت حياتهم حزنت لهم
كثيرا حين يعودان من العمل يعودان منهكين ضالين متألمين كل منهما بقايا إنسان.. تدخل
هي إلى المطبخ وهو إلى الحمام يلتقيان على المائدة في صمت طويل لا يقطعه سوى نشيج
من الهم القابع في داخل روحهما يمضغان الطعام في رتابة وبعدها يستلقيان على السرير
في نوم متقطع تتخلله كوابيس لرؤوس مقطوعة وأجساد تتدلى على حافة نهر تعصف بأمواجه
العاتية ريح يفزعان ثم يعاودان النوم القلق أحفادنا تعساء لا يعرفون المرح والحب
ليس لديهم وقت كي يشعروا بالسعادة السعادة بالنسبة لهم كائن خرافي لم يولد بعد إنني
أشعر بالحزن وأتعجب كيف لمخلوق مثلى خارج لتوه من برواز أن يعرف الحزن والألم كنت
أتصور نفسي منذ أن غادرت البرواز أنني بلا مشاعر ولن يحزنني شيء على الإطلاق لكن
هذا ما حدث ( بتعجب) كنت أحلم بذلك اليوم الذي سيجيء وأصبح حلما وشوقا وضوءا يشع
يفرش حلمه ويفرح بمجيئه ويسأل الناس في الشوارع عن أحلامهم التي لم تولد بعد وعن أفراحهم
التي تشتعل في الصدور وعن الصبح الذي يطل برأسه على الوجود لكنى ارتعشت من البرد
وتأوهت من الخوف في هذا العالم منذ أن غادرته سعيدا وأنا أحلم بالمجيء بلسعة
اشتياقي بفرحة العائد إلى حضن الأم منذ أن حكي الزوج الشاب لزوجته في أحد الأيام
حيث اشتد البرد واحترق البرق في السماء حكي لزوجته عن جارتهما العجوز التي كانت
تطل في صباها كزهرة من بابها الذي يجاور البيت كيف قفزت من شرفتها بعد أن لعنت
الحكومات والمنظمات الإنسانية العاملة في مجال حقوق الإنسان ورجال الثورة لأنهم جميعا لم ينتبهوا إلى وجودها ولم يعرفوا
سر تعاستها طوال هذه السنوات المرأة العجوز التي تاه عنها أبناؤها وسقطوا من يدها
وراحت تشق الحياة وحيدة بعد أن ذهبوا إلى مصيرهم المحتوم مصير الفقراء جميعا في
هذا العالم وقد صدقوا ماركس وآمنوا بلينين المرأة ليس في
بيتها سوى صحن وحيد للطعام وكوب وحيد للشراب وأوجاع كثيرة تضعها تحت وسادتها حين
تنام، الألم الذي سقط من شرفتها وشاهده الجميع كان بحجم طائر العنقاء غطى السماء
وحجب الشمس الألم الذي فارقها كان بحجم مدينة الناس كانوا يتعجبون وهى تسقط كانت
ضحكاتها تعلو وتعلو حتى امتلأت آذانهم بضجيج الضحك قالوا فر الألم منها خرج من
جسدها النحيل فر مذعورا حين واجهته لم يكن أحد يتخيل أن عجوزا تواتيها فكرة كهذه
الزوجان رحلا عن مائدة الطعام لم يتناولا شيئا في ذلك المساء امتلأ البيت بالحزن
وسكنت المدينة يوما يومين لكنها ما لبثت أن عادت لضجيجها كأنه لم يحدث شيء برغم أن
الجميع ظل يرددون أن نشيج ألم العجوز مازال يرن في آذانهم حتى الآن
في
تلك اللحظة بالضبط قررت أن أعود إلى البرواز حيث السكينة
والهدوء لماذا على أن أتحمل كل هذا السقوط كفى
ما حصل لى
ليس على أن أعيش الألم مرتين ولا الندم مرتين
ولا الخوف مرتين
كفاني نزيفا سأعود إلى البرواز سعيدا بحياتي
هناك على الحائط
رجل معلق ( يتقدم وهو ثابت بحركة آلية يصل إلى
البرواز يمد
قدمه ويتهيأ للدخول فجأة ترتعش أسنانه وجسده
كله تتشنج
أطرافه ينتفض يتسمر مكانه
يفقد صوابه ويأتي بحركات هستيرية)
( يصرخ)ماذا جرى هل أصابتني اللعنة ما الذي يجرى هل أصابتني
لعنة ؟ (مندهشا ) أنا لا أستطيع أن أعود هذا مستحيل (ينظر
إلى البرواز
إنه مكاني بيتي أنا لا أصلح أن أحيا مع هذه الكائنات لابد
من
الرحيل سيفتضح
الأمر ربما يصحو الزوجان من النوم
ماذا سيحدث إن وجداني هنا ربما يظنان أنى لص اقتحم البيت
كي يسطو على ما فيه
ماذا أفعل ؟ هل أهرب وأين أذهب لا مأوى لي
ولا بيت ما الذي دفعني إلى أن أفعل هذا ملعونة تلك الخبيئة
التي
أجرى ورائها جرت على المشاكل وها أنا في ورطة كبيرة
(ينظر حوله في المكان كأنه يبحث عن حل يعثر على قبعة ضابط
يجرى نحوها في فرح ) ها هي طوق النجاة الضباط هم
حكماء هذا
العصر وسادته
سأضعها فوق رأسي هكذا
(يضع القبعة فوق رأسه ) ويأتي بحركات بهلوانية ثم يكف فجأة)
( وبلغة تمثيلية يتقمص شخصية الزوجة ) من أنت ؟
( يرد في ثبات ويتقمص
شخصية الضابط) أنا الضابط جئت أقبض على
الرجل الذي خرج من البرواز مخالفا بذلك قوانين
المدينة؟
(بدهشة مفتعلة ) ـ هل هناك
رجل خرج من البرواز فعلا ؟
ـ
نعم يا سيدتي الزوجة إنه كان هناك (يشير إلى مكان
البرواز
الخالي)
ـ
ومن هو يا سيدي الضابط ؟
ـ
كل ما نعرفه حتى الآن أنه يزعم أنه جد العائلة التي
تسكن هذا البيت
ـ
تقصدنا نحن يا سيدي ؟!
ـ
هو الذي يزعم ذلك
ـ لكننا عائلة محترمة ولا
يمكن أن يفعل جدنا هذا
إنه لم يخاف
القانون طيلة حياته كيف يفعل هذا
الآن وهو معلق هكذا في هدوء ؟
ـ هل أنت متأكدة
يا سيدتي أنه ينتحل صفة جدكم
الرجل العظيم؟
ـ نعم
بكل تأكيد ولماذا خرج هذا المخبول من بروازه
أيها الضابط
اليقظ؟
ـ
هذا سؤال غاية في الأهمية يا سيدتي ونخشى أن
يكون
الأمر متعلق بالسياسة
ـ وما علاقته
بالسياسة أيها الضابط المحترم؟
ـ الشهود
الذين رأوه قالوا أن سحنته بيضاء مشربة
بالحمرة
ـ وماذا يعنى
هذا بالنسبة لكم؟
ـ يعنى أنه
عدو للنظام والثورة وفى ذلك خطورة كبيرة
ـ وهل عرفت
الدافع وراء خروجه من البرواز
ـ يزعم أن له خبيئة
يريد أن يستردها
ـ
خبيئة هنا في بيتنا؟
ـ
نعم ألم أقل لك إنه يزعم أنه جدكما
ـ
وما هي تلك الخبيئة ؟
ـ
يبدو أنها أشياء ثمينة جدا كان يمتلكها قبل البرواز
ـ
تقصد ذهب أو مال كثير؟
ـ
ربما يا سيدتي الزوجة الشابة
(يقفز وهو على هيئة الزوجة من الفرحة ثم يتردد في الحديث)
ـ
ما بك يا سيدتي الزوجة؟
ـ
الأمر سيحتاج منى لبعض الشجاعة يا سيدي الضابط
المحقق
ـ أرجو أن توضحي
الأمر
ـ
هذا الرجل صاحب الخبيئة فعلا جدنا
ـ
لكنك قلت ..
ـ
(مقاطعة الضابط) كان عن غير قصد
ـ
أو ربما طمعا في الخبيئة..
( يتنفس بعمق ويلقى بالقبعة بعيدا وبحزن)
تفعلين
كل هذا يا حفيدتي ليس من أجلى ولكن من أجل الخبيئة
أين مشاعرك تجاه جدك؟ ما الذي يجرى ؟( بلغة
خطابية)
ما
الذي يخبئه القدر لي؟ لم أكن أعرف أن لي قدرات تمثيلية
لو كنت أعي ذلك لاشتركت في فريق التمثيل بالمدرسة ليس
مهما
الآن البكاء على ما فات من فرص المهم ألا أدع أحفادي
يضيعون
لن أتركهم يضيعون وأجلس أنا معلقا في برواز أتابع حركات
النجوم
حتى ولو كان في نفوسهم بعض الطمع كما أفصحت عنه الزوجة
الشابة سأجعل الخبيئة لهما وليهنأ حفيداي بالسعادة
ياه إن أذنيّ تمتلئان بهستريا الفرحة التي انتابت الزوجين إنهما
سعيدان بما حصلا عليه حتى الجدة أراها في بروازها سعيدة (
يقترب
منها ) ألست سعيدة؟ ما أحسن أن نترك أحفادنا سعداء
إنهما سيحتفلان بمناسبة حصولهما على الخبيئة
( يتقمص
دور الزوجة والزوج بحركات يأتيها لإتقان أداء دور كل
منهما ويتبادل
الأماكن ذهابا وإيابا)
ـ لنشكر الجد على ما منحنا من عطاء
ـ
إنها أعظم خبيئة
ـ
ترك لنا ميراثا عظيما من المال
ـ
لا تنسى أنه ترك لنا ميراثا من الأخلاق وتقاليد عائلة عريقة أيضا
ـ
نعم نعم طبعا لن أنسى هذا
ـ
هيا سنقتسم الخبيئة مناصفة بيننا
ـ ماذا تقولين (بتعجب واندهاش ) مناصفة بيننا؟!
ـ حسب إرادة الجد
ـ
الجد لم يقل هذا.. الجد قال توزع بيننا
ـ
وهذا يعنى أن توزع مناصفة
ـ لا يا زوجتي الحبيبة الجد كان يقصد أن توزع حسب القانون
والشرع
ـ ماذا تعنى؟
ـ أعنى أنه لا يجوز اقتسامها مناصفة بيننا
ـ
وكيف نقتسمها ؟
ـ
بما أنني رجل وأنت امرأة حسب القانون
والشرع يصبح لي
الثلثان ولك الثلث
ـ
لاحظ أن هذا ليس ميراثا
ـ
بل هو كذلك
ـ
جدنا هو الذي ارتضى هذه القسمة بالتساوي فيما بيننا
وهو لم يفضل أحدا منا على الآخر
ـ
جدنا ليس عادلا
ـ
بل أنت الذي تريد أن تأخذ أكبر من حقك
ـ
هل تعنى أنني رجل طماع ؟
ـ
وظالم
ـ أنا أولى الناس بجدي وبماله أما أنت أبدا لم تكوني تحبينه
كنت تضيقين بوجوده معنا في البيت وطالما حاولت أن
تلقى به إلى حجرة الكراكيب مثلما
فعل معه رجال الثورة
ـ وأنت هل كنت تحبه ؟أتذكر حين كنت تضحك من قلبك
حين
كنت تمر من أمامه وتسخر من شاربه ورابطة عنقه وتقول
في سخرية مقززة أنه رجل محنط من الزمن القديم
ـ كنت أقصد أنه لم يؤمن بمبادئ
الثورة مثلنا
ـ (بتهكم )وماذا قدمت لنا الثورة
وقد آمنا بمبادئها ؟
( يقف الجد حزينا كأنه يتابع بنظره ابتعاد كل طرف عن الآخر..
يتحسر)
من يفك القيود التي علقت بروحي ويتركني حرا لمصير مجهول
..أجلس وحدي في قاع من الهم أبكى لماذا يكون الحب مستحيلا ؟ لماذا يا حفيداي
تركضان بعيدا ولا تنامان في حجري تسقطان في الفراغ وأنا وحدي أتجرع مرارة الوحدة
والانكسار ..لقد خرجت توا إليكما فرحا أشتاق إلى عصافيري وها أن أبوء بآلامي أيها
الصغيران ترفقا بجدكما لا تتركاه ينزف شوقا حتى يموت أعرف أنكما تحلمان بمقاعد
وثيرة خلف أحلامكم تريدان صباحات جديدة بعيدة عن صباح التحيات الرتيبة ولا الوجوه
المكررة بعيدا عن بيانات الإذاعات ولا شريط الأخبار الممل ولا وجه المذيع المتجهم الذي
دائما ما يأتي بأخبار سيئة أيها الأحفاد
ورثتم عنا كل ما هو قبيح
(يتحرك
ليقف أمام برواز زوجته ) ما أحوجني إليك يا زوجتي العزيزة كنت دائما تصفينني
بالرجل الذي يحافظ على تقاليد العائلة كان ذلك محط إعجاب الجميع سرت فوق خطى
أجدادي كان ذلك يثير لي كثير من المتاعب النفسية والاجتماعية كما كنت تشعرين لكنني
كنت حريصا على التمسك بتقاليد وأصول العائلة (بتحسر وهو يبتعد عن الصورة ) أنظري
أحفادنا يبتعدون عن ميراثنا لا يريدون غير المال المال وكفى أما أصول العائلة
فيرونها حزمة من الأفكار البالية التي مكانها صفائح القمامة ( يعود يتطلع إلى صورة
زوجته ) لماذا لا تجيبيني؟ لماذا تصمتين في الوقت الذي اشتقت فيه إلى ثرثرتك؟ دائما
ما كنت أشعر بالملل من تلك الثرثرة واليوم ما أحوجني إليها ( يمد يده إلى البرواز
يتحسسه يضع يده على فمها يمرر أصبعه على
شفتيها كأنه يحثها أن تنطق) هيا انطقي قولي أي شيء لا تتركيني هكذا أتجرع وحدتي مع أحفاد يضيقون بجدهم وبزمانه ربما
يتصورون أنني ميت ( يضحك بهسترية يتمادى في الضحك ) أنا ميت إنهم واهمون ( ينظر إلى
يده وجسده يتحسس ملامح وجهه ) لا يمكن أن أكون ميتا أنا فقط كنت هناك ( يشير إلى
البرواز) كنت أقضى فترة نقاهة أو ربما عقوبة أو في نزهة لماذا لا نسميها نزهة؟ (
بفرحة ) ثم ها أنا عدت يا أحفادي عدت بكامل جسدي وروحي ها أنا أتنفس شهيقا وزفيرا
أنظرا ( يفعل ذلك ) (ينظر إلى صورة الجدة زوجته ) حتى هي ستعود (بصوت مرتفع يكرر)
كل الأجداد سيعودون كل الأجداد سيعودون لن يستطيع أحدكم أن يحملني إلى غرفة الكراكيب
من الآن فصاعدا سأكون يقظا لن أدعكما تحطمان صورتي أو تلقونني هناك بين الأشياء
المهملة سأبقى هناك خارج زمانكم وقبل أن أعود على أن أنجز جميع المهمات التي
أحملها على كتفي سأقابل أفكاركم العارية وألقنها درسا سأضع لخطاياكم حدا ( بصوت
مرتفع ) أيها الحفيدان النائمان سأمنحكما وقتا كي تشاهدا كل ما صنعه الأجداد من
مجد بعيدا عن أخبار الحرب التي تأتيكم تباعا بعيدا عن أحلامكم التي تسير عارية في
الشوارع تبحث عن كسرة خبز وكوب ماء تائهة تلك السيارات التي تملأ الشوارع بالضجيج
( يضع يده على أذنيه كأنه يسدهما ) إنه الضجيج كيف يلتقي رجل وامرأة خارج هذا الضجيج في لحظة رومانسية بينما يقف قيس
يتلو شعره بمزيد من التألق على أنغام موسيقى الجاز الرائقة بعيدا عن صفير المساء
المزدحم هذه الليلة بالقطارات سأجعلكما
كعصفورين تمرحان في فضاء شاسع لا تخترقه الصواريخ ولا الخوف تصنعان عشا من
الأغنيات السعيدة تمرحان كرجل وأنثى على راحتهما لن تشعرا بتلصص الآخرين لن تمتلئ
حقائبكما اليومية بالارتباك وأنتما تنضحان عرق اللذة تذهبان باللذة إلى آخر المدى
تهيمان في وادي الشوق تنسيان الألم والعذاب والضجيج لأول مرة ستبوحين له يا حفيدتي
عن مكنون رغبتك وتدخلينه جنتك بلا مخاطرة تأخذينه إلى حدائق لم يزرها وأشجار بطعم
الهواء النقي كنت أسمعك تنادينه بلا صوت في
صحراء ليلك الطويل لا تدعى تلك الأفكار التي يطلقونها في سماء البلدة تفسد عليك
حياتك إنها أفكار فاسدة دمرت جدك وأفسدت عليه حياته التي كان ينعم فيها أسمعك
كثيرا تثرثرين بها كأنك طفلة تحفظ نشيد مدرسي ممل عن حب الأوطان
( يضحك بهسترية تعلو ضحكاته ) هل تعرفان أنكما مثلى تماما تقبعان داخل البرواز تشاهدان الحياة مثلى ولا
تعيشان تتقيدان وتصرخان من الألم تقتربان من اللذة ولا تشعران بها تفتحا ن أفواهكم
وتصرخان لكنكما أبدا لا تتكلمان الكلام بداخلكم كثير لكنكما مقيدان أنا سأمنحكم فرصة الخروج من
البرواز صدقاني إنها لذة ما بعدها لذة من جربها مثلى سيعرف عما أتحدث وأشعر
يمكنكما
أن تقلعا الآن أن تخرجا من ذلك الغلاف الضيق أن تتنفسا بعمق تسبحان في الفضاء
البعيد مثل طائر حر الأمر غاية في البساطة والسهولة فقط جربا الخروج من البرواز الأمر لا يحتاج إلا إلى قرار قرار يتخذه المرء بنفسه ربما تشعران
بصعوبة في بداية الأمر مثلى ربما تخافان ترتعشان لكنها ارتعاشة الحياة ستغادران
الخوف إلى الأبد لن تشعرا بالوحدة ولا
بالقلق حتى تقاليد الأجداد والعائلة سيسمح لكما بتحطيم كل شيء ( يمسك رأسه ويدور
يدور يترنح كسكير يفتح عينيه ويغلقهما
كأنه لا يستطيع الرؤية ) ما هذا؟ ما الذي يجرى ؟ (يفتح عينيه ويغلقهما بصعوبة
وينظر إلى البرواز ويحدق فيه )
أنا
أراهما كأنهما بالداخل هو يمسك يدها وهى تبتسم له هل ما أظنه الآن وأتصوره صحيحا ؟هل
يكون قد حدث ؟ هي وهو هناك ( يفتح عينيه بصعوبة يفرك عينيه كأنه لا يصدق ) هل من
أحد هنا يخبرني بما يجرى ؟ عقلي عقلي يتهاوى في سرداب مظلم لا أستطيع الخلاص من قيودي
يجب أن أفهم ما يجرى أنا لست هنا لكي أعلق على الأحداث أنا هنا لأصنع شيئا ذا قيمة
( يقترب أكثر من البرواز ويحدق فيه ) يجب أن أفهم كيف دخلتما إلى هنا أنا عدت من
أجلكما كيف أفقدكما بهذه السهولة هيا حطما هذا البرواز وأخرجا أنا أنتظركما على
العشاء لقد ضقت من وحدتي لم أعد أطيق صورتكما المتجمدة على الحائط لماذا لا تنزلان؟
وأعدكما ألا أسبب لكما أية مشاكل إنها أمور بسيطة تحدث في كل العائلات (بحزن) لم
أكن أبدا أقصد الإيذاء ( بفرح ) أريدكما أن تلعبا أمامي هيا حركا هذا السكون الذي يخيم على المكان
سنوات كثيرة مرت وأنا أجلس بمفردي ها هنا أنتظر خروجكما أعرف أنكما تمزحان دائما معي حين تختفيان بعض الوقت وحين يستبد القلق بى
وتشعران بتعاستي تخشيان العاقبة وتظهران تضحكان ثم تقولان في وقت واحد كنا نمزح
معك يا جدنا وأقول لكما بكل وضوح لا أريد أن تمزحا معي بهذه الطريقة أنا لا أطيق
الحياة بعيدا عنكما ولو للحظات الوحدة تستبد بى تقتلني تجعلني أجمد كأنني صورة في
برواز هل جربتما هذا الشعور؟ أرجوكما أنزلا عن هذه الحائط الآن حطما هذا الإطار
هذا البرواز اللعين الذي يجمد كل شيء يسلب منا الحياة يضعنا هناك على حائط منذ أن
رحلت جدتكما عنى وأنا أتطلع إلى صورتها كل يوم أتفحص ملامحها وأنظر إليها بإمعان ودعكما من الخلاف الذي بيني وبينكما إنه خلاف
قديم لن ينتهي رغم أننا من عائلة واحدة
لكن الذي يفصل بيننا ميراث قديم حتى
الثورة لا تستطيع أن تمحوه أنظرا ها أنا استطعت أن أخرج من البرواز فعلتها هيا
حركا تلك الشفاه التي جمدت على ابتسامتها ابعثا فيها الحياة من جديد لن تخسرا شيئا
جربا هذا الأمر ربما تبعثان الحياة لي تردان إلىّ روحي
( يتحرك إلى صورة زوجته الجدة ) أنظري إلى حفيديك صعدا إلى جوارك
على الحائط تركاني وحيدا كانا هما روحي التي أحيا بها والآن ما عسى أن أصنع في هذه
الحياة ( برفق وأنين ) أنت التي أرشدتهما إلى هذا الطريق ما أحوجني إليكم جميعا هل
تنزلون إلى جميعا أم أصعد إليكم؟ ما حيلة
رجل مثلى فقد كل شيء وأصبح وحيدا مللت صنعتي لم يعد لي غير قطعة القماش التي
أبللها بالماء ثم أصعد كل ليلة على هذا
السلم وأنظف البراويز
( يحمل السلم الخشبي ويضع قطعة القماش التي بيده في إناء به ماء ثم
يقوم بتنظيف البرواز الذي يظهر أنه لزوجين شابين يضحكان وحول البرواز من أعلى يظهر
شريط أسود )
(يمسك الجد بالشريط الأسود الموضوع على البرواز الفارغ ويرفعه كأنه يحاول الدخول إلى البرواز يكرر ذلك
لكنه لا يفلح بعصبية يلقى بالشريط مكانه لكنه برفق يتطلع إلى صورة الزوجين يتحسس
ملامحهما ويمرر أصابعه على ضحكتهما يشعر
بالسعادة يهم بالنزول من فوق السلم )
كنت
فيما مضى حين أخرج من بروازي انتظر حتى يناما ثم أنطلق على راحتي لكنني كنت حذرا
دائما وأخشى إن استيقظ أحدهم فجأة ورآني وهو في طريقه للحمام أو كان يقصد الثلاجة
ليشرب ما الذي سيدور برأسه ساعتها إن شعر بوجودي؟كيف ستكون تلك المواجهة السخيفة؟ كيف
سأبرر له وجودي هنا خارج البرواز؟ ربما ينهرني يصرخ وينادى على الطرف الآخر بأعلى
صوته (بخوف وارتباك) كنت ساعتها أتمنى لو كنت قطعة من الخشب أو حائطا صلدا بلا
مشاعر حينها كنت لا أهتم لهذا الأمر ولا ألقى له بالا وربما أضحك هكذا ( يفتعل
الضحك بصوت عال يظل يضحك ويضحك بهسترية ) لن أقول له شيئا ولن أرد على سخافاته
الأجداد عليهم تحمل سخافات الأحفاد ربما أتحمل وقاحتهم بمزيد من الضحك الآن لم أعد
أخشى هذه المواجهة يمكنني إذا خرج أحدهم
الآن من غرفة النوم أن أعانقه وأن أتصرف معه ليس كرجل خرج لتوه من البرواز ولكن
بطريقة أخرى لكن أشد ما أخشاه وأخاف منه أن تكون غرفة النوم فارغة والوسائد كلها
على هيئتها منذ تركتها في ذلك الصباح
المشئوم منذ ذلك الوقت لم يلمسها أحد هل عادا من العمل؟ هل تناولا غدائهما مثل كل
يوم ؟هل خلدا إلى الراحة؟ ربما لست متأكدا (يتنفس بعمق ) هل يرقدا بالداخل الآن؟
هل يعرفان أنني موجود معهما؟ أشعر بهذا بل أكاد أجزم أنهم على علم بوجودي رغم ما
يفصل بيننا من أزمنة وأفكار ملعونة تلك الثورة التي شوهت الأجداد وأطفأت الحلم
داخلهم وجعلتهم ينظرون إلينا كأننا لصوص جعلتني أكره شكلي وملامحي الارستقراطية
وتلك البشرة البيضاء المشربة بالحمرة التي يهزؤون منها على شاشات العرض طوال العام
الجميع يتجنبني في العمل يصرخون في وجهي
كأنني جاني أو مجرم محترف كلما شاهدوني تأففوا تطلعوا إلىّ في تشف رغم أن الثورة
أخذت منى كل شيء إلا أنهم يريدونني ذليلا حقيرا ويستاءون لما أبديه من ترفع
وكبرياء أية جريمة ارتكبت كي يحاسبوني عليها حتى أحفادي يتنصلون منى وأنا وحدي
أحمل ميراث العائلة لو كان الأمر بيدي لنزعت
تلك السحنة وشوهت تلك الملامح أو ألقى بهذا الوجه إلى الأرض
لن
أنسى ( كأنه يتذكر )كان المنظر رائعا حقا حين صفقت الجماهير بعنف ( يسمع تصفيق
الجماهير) حين وقف قائد الثورة وهو يرتدى زيه العسكري وهتف في الجماهير التي
احتشدت لسماعه في الميدان الواسع
( يشد بذلته ويضع القبعة على رأسه كأنه يقلد قائد الثورة يسمع هتاف
الجماهير يدوى في أذنه يرفع القبعة ويشير للجماهير التي يراها )
ـ إنني أعلنها صريحة
مدوية أمامكم جميعا سوف نبدأ عهدا جديدا
سوف أقضى على هؤلاء الخونة والعملاء إنهم ليسوا
أبناء هذا الوطن
سنطردهم من بيوتهم ونأخذ
أموالهم غنيمة لكم أيها الفقراء أبناء الثورة
( كأنه يسمع هتاف
الجماهير بالتصفيق يرفع القبعة ويحيي الجماهير )
إن الخونة والعملاء أصحاب
البشرة البيضاء المشربة بالحمرة سنلقى بهم في
مزبلة التاريخ أما تاريخ
هذا الوطن سيبدأ من الآن من هنا سنكتب تاريخا جديدا لا تلوثه دمائهم القذرة ولا
أفكارهم الغبية ( ينحني كأنه يحيي الجماهير التي تصفق له بحرارة )
( يبكى الجد بشدة وينتحب ) قبضوا على وألقوا بى في جب سحيق من العتمة
والخوف لم أعرف شيئا عن أولادي أو أحفادي وحين خرجت خرجت نصف إنسان نصف زوج ونصف
أب ونصف جد لم أرتكب أية معصية في حياتي ولم أحتقر الفقراء يوما ولم أظلم أحدا أما سحنتي هذه التي تؤلمهم فهي من صنع الله كيف
أتخلص منها ؟!
(يظلم المسرح تماما بينما تسقط بقعة من الضوء على الجد وهو جالس
على كرسي وحول رقبته حبل يتدلى حول عنقه كأنها مشنقة يصرخ وهو غير مصدق)
ما
هذا ؟هل حانت تلك اللحظة التي كنت أخشاها هل سأموت الآن ؟ هكذا دون أن يعلم أحد
ودون محاكمة عادلة (يمسك بالحبل الذي يتدلى من فوق يحاول لفه حول رقبته لكنه
يتراجع ( بثبات) هل يمكنني أن أسأل سؤالا ربما يبدو مهما الآن قبل أن تفعلوها؟ كيف
ستشنقون رجلا ميتا ألست ميتا ؟هذا هو البرواز وذلك الشريط الأسود يلتف حوله أنظر
جيدا يا سيدي إنه أنا هل أحلف لكم بأغلظ الأيمان أنه أنا ( يضحك بصوت مرتفع ) لم يحدث أن مات إنسان مرتين
إنني فقط أخشى أن تسوء سمعة النظام لهذا السبب التافه ربما من غير اللائق أن أموت
مرتين إن كنت قد قررت ذلك فاسمح لي أن أطلب أخر طلب لي ليس أمرا عسيرا أريد أن أرى
حفيديّ هما أخر ما تبقى لي في هذه الدنيا أرهما فقط صدقني لن أقول لهما شيئا عن
سبب موتى مهما كان تافها أن أعرف أن ذلك يجرى حماية للنظام هذا مطلبي الأخير لرجل
يرحل مرغما مرتين عن هذا العالم أرجو أن
تلبيه لي ( كأنه يسمع صوتا ) ماذا تقول يا سيدي ؟( بهلع ) ما الذي يضحكك يا سيدي
من طلبي هذا ؟ ماذا أنا لا أفهمك ( كأنه ينصت )( بهسترية) ماذا هل تتحدث عن حفيديّ
ماذا تعنى بحديثك هذا يا سيدي رحلا إلى أين ؟ ليس لهما مأوى غيري كيف يتركاني؟
يرحلان دون أذني ( يقشعر بدنه من المفاجأة يصرخ ) ماذا تقول ماتا ؟كيف يموتان ويتركاني
وحيدا أنت تهذى إنه نوع من التعذيب القاسي الذي لا أقوى على احتماله حتى وجودهما
أمامي معلقان في برواز قديم على الحائط وحول البرواز شريط أسود من القماش كل هذا
لا يؤكد ما تقوله أنا أمامك حي أرزق وكنت منذ قليل داخل البرواز هل يعنى هذا شيء
بالنسبة لك؟ الموت هنا في هذه البلاد ليس
هو الموت الذي نعرفه إنه شيء آخر قد لا نستطيع أن ندركه أو نفهمه لكننا حتما نعيشه
كل ليلة في بيوتنا ونشعر به معنا لا يفارقنا هنا أو هناك
الموتُ
في بلادِنا مطلقُ السراح
يعودُ في يديه كلَ ليلةٍ
رفيق
وبعده وقبله صديق
دونما نواح
كأننا على الرصيفِ لا نراه
الحزنُ لا يجفُ في عيونِنا
لا يرتدي عباءةَ السفر
يعد كلَ ليلةِ أنشودةَ الرحيل
ويسألُ المطر
هل كان في مقدورِنا أن نمنعَ الخطر!
أسيرُ في مدينتي
أحملُ الأشعارَ في حقيبتي
وأسألُ المساء
هل يشرقُ الصباحُ من بعيد
دون ميتٍ جديد ؟!
في بيوتنا لا يهدأُ البكاء
لا تحن تلكم الأشجارُ للغناء
أوجاعُنا تئنُ في الضلوع
لم يبق في عيونِنا دموع
كي نعلنَ الحداد
نلونَ الأشعارَ بالسواد
ونرتدي أحزانَنا
ونغسلُ الدروبَ بالبكاء
عندما يطلُ من عيونِنا الخريف
بوجهه المخيف
يذبلُ الحنينُ في عروقِنا
وينهضُ السكات
كأنه الخريف
يطلُ حين نحملُ الرفات
يودعُ الصحاب
تصرخُ البيوت
يطأ طأُ الكتاب
هل كان في مقدورِنا أن نمنعَ الخطر؟!
أن نعلنَ احتجاجَنا في لحظةِ السفر
هل كان في مقدورِنا أن نغلقَ
الأبواب
قبل لحظةِ الغياب ؟!
إنها الأحلامُ لا تجئ مرتين
لا تعبرُ النهرين
لا تضحكُ الضلوعُ ضحكتين
لا يفرحُ الفؤادُ فرحتين
أو تطلقُ الأشجارُ آهتين ..آهتين
وتسكنُ الأحزانُ في بيوتِنا
وتهربُ الأفكارُ في المحن
وترتدي أشجارُنا الخريف
كأنه الكفن
من يسكت الآهات في ضلوعِنا
من يطردُ الأوجاعَ من شوارعِ الوطن
إنها الأحلامُ فوق صفحةِ الفرات
ونحن واقفون في انتظار
لحظةِ النجاةِ... أو
لحظة الموات
هل تدركُ الأرواحُ ما يكون؟
أم إنها لحظةُ الجنون
لحظةُ اكتشافِها لسرِها
المكنون
حين تعبرُ الحياةَ والضجيج
خطوةً خطوةً إلى السكون
وتسألُ الأوراقَ
هل تستغيثُ
قبل أن تفارقَ الغصون؟!
الموتُ في بلادِنا مطلقُ السراح
يسيرُ في شوارعِ المدينة
يفتشُ البيوتَ عن أصحابِنا
عن أحلامِنا
الموتُ في بلادِنا انسحاب
ابتعادٌ واقتراب
الموتُ لحظةُ انفراج
الموتُ في بلادِنا احتجاج
هنيئا لهذه البيوت التي مازال أصحابها
خارج البرواز
ستار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق