بقلم: عبدالقادر صيد
خرجت في إحدى الأمسيات أبحث عن مكان أضع فيه نفسي ، رحت أتابع ملامح الراجلين و هي تتلوّن لي ابتساما و تعجبا كفلم صامت ، دون أن تصلني أصواتهم التي في حقيقة الأمر كانت تلعنني لعنا صارخا وراء زجاجات عيونهم على دخولي هذه السوق الضيقة بسيارتي ، لا يجرؤون على المجاهرة بذلك لسبب بسيط ، و هو أني أقود سيارة فاخرة ، و أتقمص وجها عابسا متعاليا ، لو قُدر و انفلتت مني ابتسامة بالخطأ ، فإنني أكون هدفا لوابل من الشتائم أو ربما لركل العجلات بأقدامهم الغاضبة نكاية بي ،لذلك أتحصن باصطناع اللامبالاة ، و أشقّ جحافل المتسوّقين بكل ثقة ،إلى أن قابلتني وسط الطريق عظام بالية مكسوة بجلدة ،في تقديري أنها لا تزن رطلين ، عرفت تسميتها من خلال عبارتهم :
ـ حاذر ، أمامك عجوز..
توقفت عازما على إيصالها معي ،محاولا التكفير عن ذنبي في محاصرتهم ،كثرت الاحتجاجات على شكل همهمات غير واضحة ، فلا يتوقعون من مالك سيارة فخمة أن يتنازل ليساعد أمثال هذه الكائنات ، و ما إن رأوني أقترب منها ، و أساعدها على الركوب حتى هدأ تذمرهم ، لكنهم بقوا متحفظين في الثناء ،تعجبت في أن من توقفت لها ترافقها سلعة كبيرة ، كأنها تخشى اندلاع الحرب ، الحمد لله على أن الشباب ساعدوني على حملها ، و شققت طريقي يعينني بعضهم في فضّ الزحمة من أجل عيون العجوز التي تتكئ كالسلطانة خلفي، ما أشد طيبة هذه الكائنات !بقيت أثناء الطريق أتوقّع في أي لحظة أن تفارق الحياة من شدة هزالها، و كبرها . عندما رشقتها بنظرة في المرآة العاكسة كان أول ما جلب انتباهي هو بروز عروقها الخضراء ،كأنها ممرات ضيّقة سدت على روحها كل منفذ للخروج ، ما سبّب في تعميرها إلى هذه المرحلة ،تتفرع هذه العروق تفرعا أسطوريا ، حتى عادت كالعرجون القديم ، ثم رأيت وجهها، فإذا هو جلدة بيضاء لا فسحة فيه لتجعيدة جديدة مهما كانت صغيرة ، يبرهن على العلامة المسجلة تلك الوشوم الفلكورية المزغردة على جمر ولائم جاهلية النكهة ، استدرت إليها :
ـ وجهتك أيتها الحاجّة ؟
ـ أمك هي الحاجّة ، التفت إلى الأمام أيها الوقح ..
قالت هذا و ضربتني على كتفي ،فامتثلت لأمرها ، و سألتني :
ـ ابن من أنت ؟
ـ أنا في سن يليق به سؤال : أبو من أنت ؟
ـ إذا بلغت مائة سنة مثلي ، يحق لك هذا التبجح ، ما اسم أمك ؟
ـ عائشة ..
عرفت بالحدس أنه ليس اسم أمي ، فقد تعلمت منذ الصغر أن لا أبوح باسم أمي إلا أمام الحالة المدنية و غيرها ، أما عدا ذلك فعيب ، عيب ..
ـ عرشك ؟
ـ العرش الفلاني..
ـ سبحان الله ، عرش مفلس خائب يخرج منه شخص مثلك ، لقد انقلبت الدنيا ..
فما أدري هل من اللائق أن أحسّ بالفخر أو بالانزعاج ؟و هي تبدو غير مكترثة بي ، بل انطلقت في موجة هستيرية تحدثني عن نقائص و فضائح كل عرش ، و أنا أستمتع بذكر مثالب قبيلتي . عندما أوصلتها إلى منزلها ، نادت أبناء الحي .فأنزلوا مشترياتها ، و أدخلوها إلى مكانها ، ناولتهم بعض النقود ، فقبّلوا يدها بهيبة ،و أرجعوا إليها مفتاح المنزل ، ثم قالت لي :
ـ أكمل صنيعك ،و أوصلني إلى حي (حوزة الباي) ، فإنني أنتظره منذ شهر ..
فكرت فيما يمكن أن تنتظره هذه المعمّرة غير الموت ، فإذا هي تخبرني أنها تنتظر أجرة كراء منزلها مبدية لي شكوى مريرة من مماطلة المستأجر ، إلى أن وصلنا إليه ، وأشبعته شتما و اتهاما بالطمع و التحايل و كلّ ما هو وضيع ، حتى استحييت منه ، أما هو فالظاهر أنه قد أعدّ لها مبلغ السنة المقبلة كما هي عادة الكراء في هذه البلدة ، لكنه يبدو أنه لا يريد أن يناولها إياه إلا بعد أن تشنّف أذنيه بسمفونيتها المعهودة ،ما جعلني أعتقد أنهما متفقان على هذه الطقوس كل مرة ،رجعت بها ، فأوقفتني أمام البنك أين أودعت دراهمها بسرعة ، و رجعت كالشبح ، لم أنتبه لركوبها إلا بعد صوت غلق الباب ، دعتني إلى تناول الشاي ،دخلت منزلها ، فإذا هو غرف كبيرة مملوءة دقيقا ، كأني في جمعية خيرية :
ـ سيدتي ، لم كل هذا الدقيق ؟
ـ أخشى الجوع ، فإنني أشتري كل يوم كيسا منه ،حتى إذا انقطع لأمر من الطوارئ لم أحتج إلى المخاطرة للخروج من المنزل ، لا أهل لي و لا ولد ..لم تجرّب الجوع يا بني ..لم تجربوّه كلكم ، كما لم تجربوا الخوف ..
ذرفت عيناها ، فتعجبت من قدرتها على البكاء ، و احتفاظها بزاد من الدموع حتى هذا السن، ثم أخبرتني أنها تدّخر الأكياس منتهية الصلاحية في القبو ، توسلت إليها :
ـ اسمحي لي من فضلك أن أنضم إلى أكياس القبو..
ـ لك ذلك ، قبلت أن أؤجر لك غرفة ، بشرط أن لا تلغي الاتفاق بسبب الفئران ، اكتب ذلك في العقد..
نفذتُ شرطها ، من ذلك القبو، و بجانب أكياس القمح منتهية الصلاحية راسلتكم بهذه القصة ..
خرجت في إحدى الأمسيات أبحث عن مكان أضع فيه نفسي ، رحت أتابع ملامح الراجلين و هي تتلوّن لي ابتساما و تعجبا كفلم صامت ، دون أن تصلني أصواتهم التي في حقيقة الأمر كانت تلعنني لعنا صارخا وراء زجاجات عيونهم على دخولي هذه السوق الضيقة بسيارتي ، لا يجرؤون على المجاهرة بذلك لسبب بسيط ، و هو أني أقود سيارة فاخرة ، و أتقمص وجها عابسا متعاليا ، لو قُدر و انفلتت مني ابتسامة بالخطأ ، فإنني أكون هدفا لوابل من الشتائم أو ربما لركل العجلات بأقدامهم الغاضبة نكاية بي ،لذلك أتحصن باصطناع اللامبالاة ، و أشقّ جحافل المتسوّقين بكل ثقة ،إلى أن قابلتني وسط الطريق عظام بالية مكسوة بجلدة ،في تقديري أنها لا تزن رطلين ، عرفت تسميتها من خلال عبارتهم :
ـ حاذر ، أمامك عجوز..
توقفت عازما على إيصالها معي ،محاولا التكفير عن ذنبي في محاصرتهم ،كثرت الاحتجاجات على شكل همهمات غير واضحة ، فلا يتوقعون من مالك سيارة فخمة أن يتنازل ليساعد أمثال هذه الكائنات ، و ما إن رأوني أقترب منها ، و أساعدها على الركوب حتى هدأ تذمرهم ، لكنهم بقوا متحفظين في الثناء ،تعجبت في أن من توقفت لها ترافقها سلعة كبيرة ، كأنها تخشى اندلاع الحرب ، الحمد لله على أن الشباب ساعدوني على حملها ، و شققت طريقي يعينني بعضهم في فضّ الزحمة من أجل عيون العجوز التي تتكئ كالسلطانة خلفي، ما أشد طيبة هذه الكائنات !بقيت أثناء الطريق أتوقّع في أي لحظة أن تفارق الحياة من شدة هزالها، و كبرها . عندما رشقتها بنظرة في المرآة العاكسة كان أول ما جلب انتباهي هو بروز عروقها الخضراء ،كأنها ممرات ضيّقة سدت على روحها كل منفذ للخروج ، ما سبّب في تعميرها إلى هذه المرحلة ،تتفرع هذه العروق تفرعا أسطوريا ، حتى عادت كالعرجون القديم ، ثم رأيت وجهها، فإذا هو جلدة بيضاء لا فسحة فيه لتجعيدة جديدة مهما كانت صغيرة ، يبرهن على العلامة المسجلة تلك الوشوم الفلكورية المزغردة على جمر ولائم جاهلية النكهة ، استدرت إليها :
ـ وجهتك أيتها الحاجّة ؟
ـ أمك هي الحاجّة ، التفت إلى الأمام أيها الوقح ..
قالت هذا و ضربتني على كتفي ،فامتثلت لأمرها ، و سألتني :
ـ ابن من أنت ؟
ـ أنا في سن يليق به سؤال : أبو من أنت ؟
ـ إذا بلغت مائة سنة مثلي ، يحق لك هذا التبجح ، ما اسم أمك ؟
ـ عائشة ..
عرفت بالحدس أنه ليس اسم أمي ، فقد تعلمت منذ الصغر أن لا أبوح باسم أمي إلا أمام الحالة المدنية و غيرها ، أما عدا ذلك فعيب ، عيب ..
ـ عرشك ؟
ـ العرش الفلاني..
ـ سبحان الله ، عرش مفلس خائب يخرج منه شخص مثلك ، لقد انقلبت الدنيا ..
فما أدري هل من اللائق أن أحسّ بالفخر أو بالانزعاج ؟و هي تبدو غير مكترثة بي ، بل انطلقت في موجة هستيرية تحدثني عن نقائص و فضائح كل عرش ، و أنا أستمتع بذكر مثالب قبيلتي . عندما أوصلتها إلى منزلها ، نادت أبناء الحي .فأنزلوا مشترياتها ، و أدخلوها إلى مكانها ، ناولتهم بعض النقود ، فقبّلوا يدها بهيبة ،و أرجعوا إليها مفتاح المنزل ، ثم قالت لي :
ـ أكمل صنيعك ،و أوصلني إلى حي (حوزة الباي) ، فإنني أنتظره منذ شهر ..
فكرت فيما يمكن أن تنتظره هذه المعمّرة غير الموت ، فإذا هي تخبرني أنها تنتظر أجرة كراء منزلها مبدية لي شكوى مريرة من مماطلة المستأجر ، إلى أن وصلنا إليه ، وأشبعته شتما و اتهاما بالطمع و التحايل و كلّ ما هو وضيع ، حتى استحييت منه ، أما هو فالظاهر أنه قد أعدّ لها مبلغ السنة المقبلة كما هي عادة الكراء في هذه البلدة ، لكنه يبدو أنه لا يريد أن يناولها إياه إلا بعد أن تشنّف أذنيه بسمفونيتها المعهودة ،ما جعلني أعتقد أنهما متفقان على هذه الطقوس كل مرة ،رجعت بها ، فأوقفتني أمام البنك أين أودعت دراهمها بسرعة ، و رجعت كالشبح ، لم أنتبه لركوبها إلا بعد صوت غلق الباب ، دعتني إلى تناول الشاي ،دخلت منزلها ، فإذا هو غرف كبيرة مملوءة دقيقا ، كأني في جمعية خيرية :
ـ سيدتي ، لم كل هذا الدقيق ؟
ـ أخشى الجوع ، فإنني أشتري كل يوم كيسا منه ،حتى إذا انقطع لأمر من الطوارئ لم أحتج إلى المخاطرة للخروج من المنزل ، لا أهل لي و لا ولد ..لم تجرّب الجوع يا بني ..لم تجربوّه كلكم ، كما لم تجربوا الخوف ..
ذرفت عيناها ، فتعجبت من قدرتها على البكاء ، و احتفاظها بزاد من الدموع حتى هذا السن، ثم أخبرتني أنها تدّخر الأكياس منتهية الصلاحية في القبو ، توسلت إليها :
ـ اسمحي لي من فضلك أن أنضم إلى أكياس القبو..
ـ لك ذلك ، قبلت أن أؤجر لك غرفة ، بشرط أن لا تلغي الاتفاق بسبب الفئران ، اكتب ذلك في العقد..
نفذتُ شرطها ، من ذلك القبو، و بجانب أكياس القمح منتهية الصلاحية راسلتكم بهذه القصة ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق