2016/09/25

هاني القط يسائل التطرف في «رايات الموتى» بقلم: د. يسري عبد الله



هاني القط يسائل التطرف في «رايات الموتى»
د/يسري عبد الله

يتجادل خطان للسرد في رواية «رايات الموتى» للروائي المصري هاني القط، (دار روايات/ الشارقة)، ويتقاطعان، أولهما يمثله الشاعر الإنكليزي ويليام الذي تنبَّأ بموته في قصيدة مؤثرة، ومعه جانيت؛ زوجته الحائرة، بعدما استبد بحياتهما الملل. ينحو ويليام صوب فسحة من الحياة قد تمثلها جاسمين بريان؛ الصحافية الشابة المولعة به من جهة، والغارقة في أنانيتها المفرطة من جهة ثانية. أما الخط الثاني؛ فيمثله سعيد؛ المولع بالتحرش بالنساء في الحافلات المكدسة، والذي يصير شيخاً جهادياً على يد أحد أمراء تنظيم الجماعة «الإسلامية»؛ يدعى «أبو مصعب»، بعد أن يُدَّس عليه سعيد ليكون عيناً للأجهزة الأمنية، لكن الشيخ يزوجه بامرأة بائسة، تتعثر في خطوها مثلما تتعثر في واقعها المُر. يلحق سعيد بآخر موجات الجهاديين في أفغانستان، ويعود ليصبح شريكاً في مذبحة الأقصر. ويلتقي مسارا السرد المركزيان حين يأتي ويليام إلى القاهرة لزيارة معالمها، ثم يسافر بالقطار إلى الأقصر، حيث يلتقي سعيد وجهاً لوجه، ويصبح ويليام قتيلاً، وسعيد قاتلاً. وما بين لعبة المجرم والضحية، تتقاطع مساحات الحضور والغياب في النص وتتداخل، ويصبح التلاقي بينهما نقطة التماس الرئيسية بين خطي القص الأساسيين في الرواية.
وعلى تخوم الحكاية وفي جوهرها ثمة إحالة على سياق عام، يعد بمثابة الزمن المرجع في الرواية، حيث الإشارة إلى السياقات السياسية والثقافية التي صاحبت تغول المد الديني في العالم، منذ الحرب السوفياتية/ الأفغانية، وخلق الإرهاب عبر النفخ المستمر في موجة «تديين العالم»، من جهة، واستثمار مناخات الاستبداد والكراهية الكامنة في الشرق من جهة ثانية. ويبدو الموقف الفكري للسارد الرئيسي منحازاً لمساءلة واقع ملأته النصوص القديمة، وشغلته الميتافيزيقا، وسكَنه القتل. ويتشكل الموقف الجمالي في متن هذه الصيغة، حيث نرى تفعيلاً للمنطق الديموقراطي للسرد عبر كلام الشخوص، الذين يمثل كل منهم عينة أيديولوجية. فنرى الشيخ أبا مصعب تعبيراً عن ذهنية مغلقة، وفي فلكه يدور سعيد، بينما ويليام يرى العالم على رحابته، حتى في لحظات استقباله للموت والرصاص، تنفتح عيناه بلا كلل، حتى يدخل في غيبوبة.

صورة مركبة
يكتب هاني القط نصه على مهل، وينحت لغته معتبراً أن الأسلوب هو الرجل نفسه؛ كما يقول الفرنسيون، وتأخذ اللغة أحياناً نزوعاً شعرياً مجازياً، يسعى لخلق صورة جمالية مركبة: «على رغم شعوره بالخطر كان ويليام أول النازلين من الحافلة البرتقالية، على غير عادته، نهايته لا تشغله بتاتاً، فمنظر المقابر كان من الجمال إلى درجة أنسَته كل شيء: تنبؤه، وأحزانه الثقيلة التي جاء بها، فها هو يشاهد صحن المدينة الجنائزية كعجيبة من الطبيعي أن ينظر إليها أي عاقل بإجلال، إنه يتقدم إلى الأمام بمحاذاة أحمد الرفاعي، وقد صار الفوج وراءهم. القتلة الستة أحاطوا بالواقفين من ثلاث جهات، وقد اندفعت طلقاتهم مصوبة بعناية إلى القلوب والصدور. أترى لو لم يصرخ ويليام على حبيبته جانيت أكان قد نجا وبقي في هذا الحلم الذي يسميه كثير من العقلاء - بيقين يدعو إلى الأسى - حياة؟». (ص 9، 10). وفي الحوارات المتناثرة في الرواية والتي تعد جزءاً من الرؤية السردية داخلها، يلجأ القط إلى اللغة الفصيحة ذات المنطق العامي، وهي الطريقة التي دشَّنها على نحو بارز الروائي الفذ نجيب محفوظ في رواياته المختلفة: «اركب/ إلى أين يا باشا؟/ هناك تعرف يا روح أمك». (ص 34).
تتنوع الأمكنة في الرواية، ما بين القاهرة والأقصر ولندن، وغيرها، وتبدو وظيفية حيث تؤدي دوراً داخل المسار السردي للنص، فالإشارة إلى الجهاديين/ الانتحاريين تستدعي الإحالة على المكان الأفغاني، وهكذا. وتبدو الأمكنة موصولة بلحظة زمانية يعاد فيها ترتيب العالم، قبل أن يتشكل من جديد بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. ويتخذ الزمن الفني داخل الرواية أبعاداً مختلفة، فلحظة الانطلاق الأساسية هي ذاتها لحظة التوتر الدرامي، حيث الحادثة الإرهابية الشهيرة في الأقصر التي راح ضحيتها أكثر من خمسين سائحاً عام 1997، يتلوها توظيف لتقنية الاسترجاع، حيث العودة إلى الوراء قليلاً، والظروف والسياقات التي شكَّلت القاتل سعيد، وأحاطت بالمعتدى عليه ويليام. وما بين العودة إلى الماضي القريب، والتماس مع اللحظة الحاضرة، تتشكل بنية الزمن داخل الرواية غير معزولة عن حركة الشخوص، فمناخات التشدد والعتامة والاستبداد تحيل سعيد إلى إرهابي جديد يستكمل مسيرة شيخه أبي مصعب.
تتشابك العلاقات بين الشخوص وتتقاطع مصائرها، ولا تفلت من ذلك الشخصيات الهامشية التي بدت ممثلة لذوات خارجها، فأحمد الرفاعي؛ المرشد السياحي التائه، يعد علامة على ذلك التناقض الإنساني، فهو الشرقي الذي يهوى مضاجعة سارة؛ لكنه يرفض مشاركتها شرب الخمر، وحينما يتذكر مصير حبيبته (زينب) المأساوي يبكي.
أما موظف الاستقبال في الفندق الذي يعاني من خيبات متعددة، وإخفاقات لا حصر لها، فإنه حين يقرر - وللمرة الأولى- أن ينتصر في شيء، يكون ذلك الأمر هو إقناع «ويليام سميث» بالالتحاق بالسيارة المتجهة إلى المعبد، حيث تقع الجريمة الإرهابية.
وينحو الكاتب صوب النزوع النفسي في تصوير شخصياته، وبما يمنح السرد وظيفة تحليلية ضمن وظائف أخرى ينهض بها، مثلما نرى في تقديمه لشخصية موظف الاستقبال: «كثيراً ما يرتكب الإنسان حماقة من دون النظر إلى تبعاتها، هكذا يصنع الموظف الآن وهو يطلب ويليام ليثبت لنفسه قدرته على الإقناع، بالطبع يجهل ويليام محدثه الثاني الذي يدفعه إلى الحتف،...». (ص 30). ثمة وشائج بين الفصول السردية المختلفة التي تأخذ طابع الترقيم العددي في عناوينها، فنرى مثلاً رابطة بين الفصلين الرابع والخامس، حيث الإشارة إلى الظلمة التي يحياها سعيد في محبسه، وويليام في المستشفى.

آلية السؤال
يوظف الكاتب آلية السؤال كثيراً في نصه، ويشرك متلقيه في إنتاج المعنى الكلي للرواية، كما ظلت هذه الروح الكلاسية مهيمنة على العمل، وإن برز أمران لافتان: الأول يتعلق ببعض الاستطرادات المجانية كما في صفحة 86 مثلاً، والثاني التعويل الشديد على فكرة القدَر في مناطق عدة، مع أننا بالأساس أمام شخوص واقعيين؛ أي أبناء للضرورة الحياتية: «أظن أن القدر سيلقى سعيداً ولو في باطن الأرض، ليمشي معه طائعاً صوب ما قدر له أن يفعله». (ص 36). يوظف الكاتب الميثولوجيا القديمة، مثل الإشارة إلى «عروس النيل» التي يُدفَع بها إلى النهر، ويستخدم آلية البناء المشهدي، فيقدم في مواضع عدة صوراً بصرية متخيلة، كما يجدل النص بين عدد من الثنائيات في الرواية: ويليام/ سعيد، الغرب/ الشرق، التسامح/ التعصب؛ وهكذا.
لسنا أمام عالم جاهز هنا، وهذا أهم شيء في الرواية، فجانيت وجاسمين بريان مختلفتان تمام الاختلاف، وتتصارعان على ويليام، وعلى رغم انتمائهما إلى السياق الحضاري ذاته، فإن الأولى ترمز إلى البراءة الضائعة، والثانية تحيل على عالم رأسمالي بالغ التوحش.
في روايته «رايات الموتى»؛ ينطلق هاني القط من حادثة حقيقية ليعيد تشكيلها من جديد، ويضفي عليها من نفسه، حيث يتعامل معها بوصفها مادة خاماً قابلة للتطويع، لتصبح - ومن ثم - أساساً لعالم روائي ثري ومكتنز، مشغول بالآن وهنا، وبصراع قيمي يمثل جوهر العالم في لحظته الملتبسة والشائكة.

الحياة اللندنية

ليست هناك تعليقات: