2016/09/09

تقنية اللغة الشعرية ومداراتها (سلالتي الريح.. عنواني المطر) بقلم: يوسف يوسف

تقنية اللغة الشعرية ومداراتها
 (سلالتي الريح.. عنواني المطر)
يوسف يوسف

                                                       لغة تفتش عن بنيها

                                                      عن أراضيها وراويها

                                                       تموت ككل من فيها

                                                       وترمى في المعاجم

                                                                         محمود درويش

                                                                " حصار لمدائح البحر"

          تتنوع المقتربات النقدية التي يمكن للناقد أن يختارها عندما يحاول دراسة تجربة شاعر ما، ولكن تظل تقنية اللغة الشعرية في هذه التجربة أو تلك من تجارب الشعراء، واحدة من بين أهم هذه المقتربات في اعتقادنا، وذلك لأنها تحقق للناقد فرصة طيبة، لتقديم قراءة نقدية ناضجة، لا تغيّب جماليات التجربة لصالح المضمون أو العكس. وهذه التقنية بدون تحققها بشكل واضح وملموس، فإن ما نقرأه سوف يبقى أقرب إلى العبث باللغة والمفردات، منه إلى الحفر الابداعي، ذي السياق الشعري الرصين، والبنية اللغوية الراقية. ولعله من المفيد في بداية هذه المقالة، طرح السؤال على النحو التالي: كيف يكون في مقدور الشاعر الوصول إلى حالة من التعبير في مختلف مستوياته، تسمح للناقد القول بأن تجربة هذا الشاعر تمتاز بالشعرية الحقة  ومثل ذلك أيضا بالبنية اللغوية الرصينة ذات الجذب الذي لا يقاوم؟

        يرى كثير من المهتمين بالشعر وبجمالياته، بأن التجربة الشعرية من أجل أن تتميز وتختلف عن سواها من التجارب، عليها أن تكون أولا وقبل أي شيء آخر، تجربة في اللغة، على اعتبار أن المفردة هي أصغر الوحدات التي تقوم عليها بنية القصيدة. وهؤلاء الذين يحملون في رؤوسهم مثل هذا التصور، إنما يقصدون في الغالب كلا من المعنى والمبنى معا، وليس أحدهما دون الآخر. صحيح أنه ثمة هناك ما اصطلح على تسميتها بلغة الاشارة ، والأخرى التي تسمى بلغة الانفعال، إلا أنه علينا من أجل أن


تكون أحكامنا النقدية دقيقة وحكيمة، الانتباه بدقة إلى كيفية قيام الشاعر باختيار الكلمات ومن ثم معرفة كيفية ربطها ببعضها، وذلك لأن بنية اللغة تؤلف جانبا مهما من جوانب القيمة الجمالية للقصيدة، على اعتبار أن للكلمات سلوكا يرتبط بالتغييرات التي تصيب الثروة اللفظية في ضوء تحليل المعنى (1).

     وينبغي أن لا يفهم مما سبق، بأن اهتمام الناقد بكيفية قيام الشاعر باختيار كلمات قصيدة ما، ليست الغاية منه الحديث حول صلاحية هذه الكلمات للتعبير الشعري أو عدمها، وإنما الغاية كما يقول عناد غزوان الكشف عن دلالاتها العقلية بهدف رؤية قوة الادراك عند الشاعر، ومعرفة مدى ابتعاده عن السطحية والعبثية(2). إن الألفاظ في صورها المجردة، ليس في مقدورها وحدها نفخ روح الحياة في القصيدة، وإنما هي علاقاتها بعضها بالبعض الآخر هي التي يمكنها تحقيق ذلك. أو فلنقل في تعبير آخر، إنه النسق الفني المعنوي الذي يظهر بسبب علاقة المفردات ببعضها، هو ما ينبغي الانتباه إليه، ذلك أنه الذي من خلاله نتبين تقنية اللغة الشعرية، ومعرفة مدى رقيها. وهكذا إلى السؤال السابق الذي طرحناه وإلى الجواب عليه، فإن استخدام الكلمات كما هي في أوضاعها القاموسية المعجمية مجردة من أي امتداد معنوي أو دلالي، لا يمكن أن ينتج الشعرية، وإنما ينتجها الخروج بها عن طبيعتها الراسخة إلى طبيعة أخرى جديدة(3). ولعل القارئ إذا ما توقف أمام نص شعري من هذا الطراز، سرعان ما يرى اكثر من علامة، تبين قدرة الشاعر على استثمار خصائص اللغة بوصفها مادة بنائية، وهذه واحدة من أبرز مميزات الشعر الجيد كما يرى محمد غنيمي هلال(4). ولما كان من أهم وظائف النقد تركيز الاهتمام على النص الشعري ذاته، والابتعاد عن كل ما ليس له علاقة بجوهره الابداعي، فماذا عن اللغة الشعرية ومدارتها الفكرية في في ديوان (سلالتي الريح.. عنواني  المطر) للشاعر موسى حوامدة؟

    من بين ما يلفت الانتباه في هذه  اللغة، الانزياح في المعاني، وتنوع طبقاته، وذلك لأن حوامده يمنح الكلمات التي يستخدمها سلوكا عليها المشي في ثيابه، التي هي من نوع الثياب التنكرية التي يختلف المخفي تحتها عن الظاهر من معنى القصيدة. صحيح أن القصيدة التي يحمل الديوان اسمها هي واحدة من بين قصائد عديدة  يحتوي الديوان عليها، إلا أنه  يمكننا اعتبارها المثال الأقرب إلى ما نحن في صدد الحديث عليه، والذي يتمثل بالانزياح وتعدد الطبقات. وحوامده الذي نراه هنا يحاول الابتعاد قدر المستطاع عن العفوية، إنما أراد أن يجعل الممكنات المحتملة باستخدام هكذا عنوان، أحد مراكز الثقل الدلالي حتى في غيرها من القصائد وإن اختلفت طريقة التبعير، دون أن يغيب عن أذهاننا ميله القوي إلى التلميح، وليس إلى التصريح والمباشرة. ولعلنا لا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا بأنه يبحث له عن طرس خاص يميزه عن غيره من الشعراء، ولا يكون فيه صدى لسواه، ليس في هذه القصيدة وحدها، وإنما في بقية القصائد التي تبتعد اللغة الشعرية فيها عن السطحية والانفعال، كليهما معا، وتنحو باتجاه إرسال صور وإيحاءات غايتها الارتقاء بالحالة الشعرية، بدرجة لا تقل عن اهتمامه بالمعنى.

     هنا وباتجاه فهم القصيدة والكشف عن طاقتها الشعرية وجمال لغتها، يصبح من بين أهم واجبات القارئ الذي يحبذ إقامة الجدل مع قصائد الديوان، البحث عن السبب الذي جعل الشاعر يقارب بين السلالة  والريح، وبين عنوانه كشاعر ـ إنسان وبين المطر، ودلالات هذه المقاربة والغاية منها. وبصرف النظر عن شكل هذا التأويل واتجاهه واختلافه من قارئ إلى آخر، فإنه في هذه المقاربة الابداعية بينه كإنسان وبين الريح والمطر معا، إنما أراد واعتبارا من اللحظة الاولى التي تقع فيها أنظار القارئ على المفردات، وضع هذا القارئ أمام صدمة القراءة، وتوجيهه إلى حيث يظنها الطريقة الأفضل لقراءة قصائد الديوان جميعها، ونقصد هنا على وجه التحديد، القراءة التي  يتوخى صاحبها منها البحث عن أية علامة من علامات تفسير القصيدة، قد ترد هنا وهناك بين الأسطر، وليس الاكتفاء برؤية الظاهر الذي قد يكون مضللا أحيانا.

    وحينما يعتبر الشاعر نفسه من سلالة الريح، فإن هذا يعني حركته كمثلها، وانتقاله من مكان إلى آخر محملا بما تحمل من الخير والمطر. وإذ يجعل عنوانه المطر، فإن التبادل الحاصل بين المكان الأرضي الذي يفترض أن يكون عنوانه كإنسان فيه والحالة المتمثلة بما يشير إليه المطر الذي يعد سببا للحياة، إنما تؤكد بمجموعها رغبة حوامده بالخروج من عزلته، إلى رحابة الحياة، التي يتوحد فيها مع غيره من البشر، بصرف النظرعن لغاتهم وأمكنة وجودهم. ومعنى هذا فإن الشاعر الذي يقف أمام ذاته، ويحاول الكشف عن القيم النبيلة في الانسان، فإنما باستخدام لغة لها اتجاهان: واحد للاشارة، والآخر للتعبير عن انفعاله بما حوله. وإذا صحت المقابلة، فإننا أمام صورة فنية تحتم الالتفات إليها والتمعن فيها، كمثل ما تحتم ذلك الأسئلة في الرياضيات والفيزياء وسواهما من العلوم . بمعنى آخر، فإنه يجب علينا إذا ما رغبنا في تحليل هذه القصيدة، تقديم تحليل شامل يوجب البحث عن الانسجام بين أجزائها جميعها، دلاليا وتركيبيا وجماليا، وذلك لاكتشاف المعنى الحقيقي ومعرفة آلية تمظهره في اللغة الشعرية:

        لعلي من أسلاف مغول

        أو من نسل قاتل روماني

        لعلي من سلالة آشورية

        أو من عائلة كردية

        من بقايا الهنود الحمر

        أو من كاهن أندونيسي

  ومما يجب علينا ونحن نقرأ القصيدة ونحاول فهمها والكشف عن أبعادها الجمالية، الانتباه إلى أن حوامده يستخدم ضمير المتكلم. ولعله في اختيار هذا الضمير دون سواه، إنما أراد اختصار المسافة المعنوية التي يمكن أن تفصله عن المتلقي. وعلينا أيضا الانتباه  للمجازات في صياغاته، وللصور الاستعارية، ومثل ذلك لعملية تكرير مفردات بعينها

      معي ومضة من سلاح الاله مارس

      قبس من نار بروميثيوس

      ومعي آيات من القرآن

      مزامير من داود

      تراتيل من بولص

      مقاطع من بوذا

      كلمات من عبد البهاء

  ومن المهم القول بأن عنوان القصيدة، ومثله عنوانات لقصائد أخرى، جميعها تشير إلى أن الشاعر لم يرغب في تقديم اعترافات مجردة عما حوله من الواقع، وإنما هي مما يدل كذلك على أن حوامده في صراع متواصل مع الوسط الاجتماعي والسياسي والانساني، وكل هذا تعبير عن حرارة التجربة وصدقها :

       منذ أن تكلم الجبل

       أصغت الوديان لغناء النهر

       منذ أن تلعثم آدم

       هبطت بنا الأرض إلى قبوها

       من يرفع الظلم عني

       من يعلق الصمت لأشنق عبد الذل

       من يرفع الحبل قليلا

       لأدرب عيني على اختراق السموات

   عندما كتب الشاعر الكردي  أحمدي  خاني رائعته الشعرية الشهيرة (مم وزين)(5)، لم يجد أفضل من لغته الأم الكردية ليكتب بها، على الرغم من إجادته الكتابة بكل من العربية والتركية والفارسية. وآنذاك وحينما سئل عن السبب قال: خشيت إن كتبتها بغير لغة شعبي أن يقال بأننا شعب لا أساس لنا، فاللغة هي علامة الوجود الأساسية. واللغة أيضا وبحسب الشاعرة نازك الملائكة كنز الشاعر وثروته. وهي أيضا جنيته الملهمة، ومصدر شاعريته ووحيه(6).

    وقصائد حوامده التي تبين هويته بوضوح، وكذلك المناخ الأيديولوجي الذي يحلق فيه، تزدحم بالاشارات، التي تحتم علينا البحث عن مختلف المعلومات المتراكمة فيها، على المستويين الجمالي والفكري، وبغير ذلك فإننا لن نصل إلى حكم نقدي صائب، يبيح لنا القول بأنه قد نجح هنا، وأخفق هناك. على سبيل المثال فإنه في قصيدة (لا ندّعي ورعا في الموسيقى ) يكثر من استخدام المجازات. وكما هو معروف فإن المجازات عند استخدامها في حاجة إلى دواعي لذلك، وهذه الدواعي هي ما يجعلها تتجاوز حدود ما هو ظاهر من هذا الاستخدام، ومنها على سبيل المثال لا الحصر التالية: خاتم الغيم  رحم الفكرة. نشوة البنفسج .. مناجاة القرنفل. دالية السماء. صهيل الماضي  سمع الزيزفون. حقيبة الليل. نشوة الطين، وسواها الكثير.

      ليس من المعقول نفي القصدية في العملية الكتابية. واللغة الشعرية  إنما تقوم عادة على أرضية تقترن بذات الشاعر، الذي من طبعه السعي لإنتاج أشكال مختلفة من هذه اللغة، وبحسب ما يحمله مخياله إليه :

             نسكن ؟

             سوف نسكن في قصيدة جبلية

             فوق شرفة من جبال عمان

             في حارة من حارات مكة

             زقاق من أزقة استانبول

             جادة من جادات الحي اللاتيني

   ومما نلاحظه في قصائد الديوان، كتابة حوامده عن الانسان في أهم  تجلياته كمخلوق من طبيعته النظر إلى ما حوله، وعدم محاباة الصمت والقبول بالثبات في المكان. يكتب عنه في وقوفه أمام ذاته ومراياه، كفرد، يعيش في واقع ما، على النص الشعري هو الآخر الارتباط به، والمشي فيه وليس في غيره. وهنا وبحكم ميل الشاعر إلى استخدام كل ما في اللغة العربية من الطاقات، والعمل على تفجيرها، فإنه يرتحل في همس شديد القوة مع أبنيته الشعرية، ليعلن تمرده على الكثير مما هو سائد، فإذا اللغة عنده تأتي في حلل جميلة، يبتعد فيها عن الرطانة، ويحلق بها بعيدا في فضاءات تمتاز بخصب اللغة، التي صار بفضلها للقصائد مستويات، أو طبقات، ينبغي التريث أمامه لفهمها

       وأنا أقرأ ماركيز

        وأنا أعيش مع الجنرال المتقاعد العجوز

         تذكرت أسلاف الهنود الحمر

         صقيع الغابات الجنوبية

         خرير مياه الأمازون

          لهيب الشمس في الصومال

          سلاسل العبيد غرب إفريقيا

           فقر السوريين أيام الأتراك

           جوع الماشية والبشر أيام السفر برلك

            بناة الأهرامات الفقراء

            حفاري قناة السويس الموتى

            أعواد الثقاب المحترقة

            عند جدول ناشف


      قوة احتكاك حوامده بما حوله بالغة الشدة. وما نعتبرها المداخل لتقييم اللغة الشعرية، تحملنا إلى البحث عن أشياء كثيرة أخرى من بينها ما يعرف بالمعادل الموضوعي، للحالات الواقعية التي يتناولها شعريا. ومن هذه المعادلات ما يختص بمسائل الخطيئة والعذاب والتماهي في عذابات الآخرين من البشر. ثم إنه معني بمسألة التمرد على شروط النص المألوفة، وعلى البنية الاجتماعية في شروطها المتوارثة، فكيف استطاع التعبيرعن كل ذلك؟

            جاعلا  فضائي ممرا للبوم

            سريرا للغرباء

            كأس حليب لطائر الرخّ

            أبيض أبيض قلب العتمة

            تبزغ الخرافة من بيتي القديم

            من بيتي الجديد

            من ممر مظلم في نور الشمس

ومن ذلك قوله كذلك :

           سامحيني يا امرأة

           حملتني قبل أن أبصر المهانة

           سامحيني أيتها النائمة الجميلة

           تحت طين الذكريات.


           أعترف للنار بأخطاء المجوسي

           أعترف للكاهن بآثام الصليب

           أقرّ هنا أن الأنبياء شعراء الزمان

           دهنوا الشعر بالتراتيل

           كسروا الدائرة

           نفذوا لمعاصي الطين

    إننا وكما يقول الناقد عناد غزوان قد نحسن القراءة دون استناد إلى نظرية جمالية أصيلة، ولكنا لا نعدّ ممن يحسنون القراءة إلا إذا تكونت لدينا القدرة على أن نحكم بأنفسنا على ما نقرأ(7). في قصيدة (حكمة الكولونيل) مثلا نلاحظ مقدمة تصحّ تسميتها بالمقدمة الافتتاحية إلى ما متن القصيدة من المعنى

          وأنا أقرأ ماركيز

                                         (8)

           وأنا أعيش مع الجنرال المتقاعد العجوز

            تذكرت أسلاف الهنود الحمر

            صقيع الغابات الجنوبية

             خرير مياه الأمازون

وهذه المقدمة هي نفسها التوطئة التي يحمل فيها الجنرال المتقاعد كاتب النص ـ الشاعر إلى كل ما سوف ترهص به مقابلته له . وإذا ما اندفعنا في قراءتنا كأفراد نحسن القراءة ونقدر على الحكم بأنفسنا على ما نقرأ في الوقت نفسه، فسوف نرى بأن حوامده إنما يسعى إلى رجم الواقع بحجارة الغض :

        وأنت أيها الروائي الطاعن في الصبر والرويّ

        أما توقفت قليلا

        لتطعم الحوعى من نثار السرد

        أما كان ينبغي

        أن تدبّج للكولونيل تلك الرسالة المرتجاة

        ولو من باب الخداع والتزييف

        أو على سبيل المتعة الذهنية؟

    وباتجاه معرفة مركز الثقل الدلالي في القصيدة، فإن حوامده الذي يقف فيها أمام جنرال الروائي ماركيز، يرى الهزيمة في النياشين التي يعلقها هذا الجترال  فوق صدره. وهي قطعا رؤيته نفسها للجنرالات العرب، يتم التعبير عنها بطريقة باذخة الجمال، يقول فيها للجنرال ـ نافذته إلى واقعه العربي:

         لم تكن بيكيت لتحرم غودو من المجيء

         أو موسى لتمتحن شعبك في التيه

         ولم تكن محمدا لتعلمنا السعي والطواف

         أو المسيح لتمدّ ذراعيك فوق الصليب

         ورحيلك للمسامير

         لكنك عن سبق تفكير وترصّ :

         تربّصت بالهزيمة والاحباط

         حتى آويتهما إلى فراش النياشين

         ربّ ذنب جرّه العار

         ربّ أوسمة لم تنم على أكتاف حامليها

                                         (9)

    أمور كثيرة علينا معرفتها ونحن نتوقف أمام هذه التجربة الشعرية الحافلة بالمدهش. لماذا الاحساس بالمتعة مثلا عند قراءة هذا المقطع من قصيدة (راودتني الغزالة عن شرودها)؟

        أنت مملكتي

        طحين الطفولة وخبز السنوات

         أنت وجه قريتي

         حيطانها ، بساتينها

          ملامح أهلها

         هلع حكاياتها ، برودة كهوفها

          معاصر العنب فيها

          أنت جبال التين والزيتون

          سهوب الفضة

          وطني أنت

          رائحة أمي

          وفكرتها عن النصيب

    سوف تتنوع الاجابات، ولكن من المؤكد أن النص الشعري الذي منه هذا المقطع، استطاع أن يحقق رغباتنا بدون تردد. ربما يرى البعض أن المماهاة بين المرأة والأرض ليست جديدة، وأن شعراء كثيرين سبقوا حوامده إلى هذه النظرة، إلا أنه علينا الاعتراف في موازاة هذا، بأنه استطاع تحويل رغباتنا إلى ما يعادلها على المستوى الفني التعبيري.

    إن البناء الشعري لا بدّ أن يتأسس من المعنيين: المباشر وغير المباشر، ضمن علاقات نفسية واجتماعية وفكرية متداخلة، على الناقد السعي لاكتشاف القاسم المشترك بينها، ومثله الذي يجمع بين المعنيين المباشر وغير المباشر (8). فأما المعنى المباشر في قصيدة (يا دم العراقي) فإنه ليس هو نفسه المعنى غير المباشر فيها، الذي نصل إليه بالحديث عن زمن النص الممتد بلا نهاية مرئية :

         اليوم يذوب حديد السماء

         تذوي جدائل التمور

         تنزّ جثة الشعر دما حراما

         مرارة النشيد

          لم تحرس نشوة القصيدة

          بياض الموت

          ينام في أرض الرافدين

     إن الشاعر الحق كما يقول محمد غنيمي هلال هو الذي تتضح في نفسه تجربته، ويقف على أجزائها بفكره، ويرتبها ترتيبا قبل أن يفكر بالكتابة. ولقد سبق القول بأن استخدام الكلمات بأوضاعها القاموسية لا ينتج الشعرية. وفي حالة حوامده الشاعر القادر على التلاعب بالمفردات وعجنها وتقديمها في صياغات متنوعة، فإنه يعيد إلى الكلمات قوتها الفطرية التي تسمو بها القصائد، وتنأى عن الثرثرة

         فليس شعرا هذا الذي يتناثر بلا موسيقى

         يسيل بلا قافية أو فراغ مقصود

         كنت أدخل القصيدة كما ضباب تجتاحه غيمة

         لم يكن يربطني بالإيقاع

         ناي أو أنين

         قلت : أقول ما يجول بخاطري

         أبدأ بما ...

         أو كأنما ..

         أو كما بدأت ذات مرة بالكاف

         لكنها لم تصمد أول السطر

         وفرت باتجاه المصطافين في أروقة الكتب

         تعلمت من حب الكلمات كره العالم

   إننا نتحدث عن صور توحي الصياغات الشعرية بها. وهو حديث حول تجربة في اللغة أيضا، غايتها البحث عن حياة أكثر استقرارا. ربما تبدو كتابة حوامده عن الأم قريبة من حيث المعنى إلى كتابات سواه من الشعراء الذي يبجلون أمهاتهم، إلا أنه وهذه ميزة تعتبر لصالحه، حينما يدرك فكرة من الأفكار، وهذا ما ينطبق على فكرة الأمومة، إنما يدركها في صورة من الكلمات، وهذه الصورة من الكلمات، سوف تكون الأساس الجوهري لأسلوبه.


  إنه بهذه الذائقة، يميز قصائده عن غيرها، فتصبح الاشارة إلى ما يسميها (معاصي الطين ) أكبر من أن يستوعبها حديث طويل حول خطايا الانسان الذي هو ذائقة الطين ومادة شهوته الاولى ولنقرأ التالي:

             أعترف للنار بأخطاء المجوسي

             أعترف للكاهن بآثام الصليب

             أقٌرّ هنا أن الأنبياء شعراء الزمان

     ومعنى هذا فإن طريق حوامده إلى امه مليحة، لا بدّ إلا أن تمر من باب الاعتراف بالخطيئة (مضى نحو باب الخطيئة طفل الحرمان)، وهو نفسه الطريق الذي فيه تعربش خمائل المجرات على يد أمه ( كيف آتيك يا دفقة الخلق/ على يديك تعربشت خمائل المجرات). وكل ذلك لأن أمه تختلف عن سواها من مخلوقات الله ( انفردي بالعذوبة/ تلك التي تصاحب الغزالة / تسابق النسيم). وما يكتب عنه حوامده يتمثل في انحطاط الانسان، ووقوعه في الحضيض ( منذ أن تلعثم آدم / هبطت بنا الأرض إلى قبوها). لقد تحدث عن رحم أمه ، المكان الأكثر دفئا وأمنا في الحياة، ولكنه إنما يكتب عن المرأة حيثما كانت وليس عن أمه وحدها:

           سامحيني يا مليحة

           تحت عينيك أقيم خرابي

           ومن بين يديك أصنع تماثيلي

           هنا الجمع بين حسرة البلوط ونشيج الكستناء

           هنا العزف بين رقصة النار وشق صدر القبر

            هنا لا فرق بين أمك التي مضت وأمك التي بين يديك

   هنا يصبح في مقدور القارئ العارف التمييز بين صورتين للمرأة: المرأة الأم ( سامحيني يا امرأة / حملتني قبل أن أبصر المهانة ) ، والمرأة الزوجة أو المعشوقة ( عمّريني ببيت يتيم من صنيعك / امنحيني شعبا لينا / وأتباعا مأخوذين).

    وحوامده في كلمات أخيرة، يظهر اهتمامه الكبير بالمفردات ودلالاتها العقلية. وهو في هذا الاهتمام، أبعد ما يكون عن السطحية والعبثية، بل ومما يركز اهتمامه عليه في الاختيار، حرصه الشديد على السمو بذائقة القارئ

الفنية، ودعوته للتفكير العميق  وعلى غرار ما يمكن أن يحدث عند وقوع النظرات ـ نظرات القارئ على ما يلي من المفردات أو الصياغات ( للمشانق حكمة تخفيها الرهبة ) و( رائحة الطين) و( معاصي الطين) و( من يعرف تاريخ جسدي قبل ألفي سنة/ من يملك بيضة الرخ في يده/ من يدلني عليّ) و(إن الجيوش لا تعمّر أرضا/ ولا تحمي بنفسجة) و( أغوانا الزبد) و( أنام على العتبة/ لا أطمح إلى سفك دم اللغة / لأثبت فحولة الشعر) و( بعد أن فتح نابليون عقول المشرقيين / بعد أن قارعته عكا / بعد أن ألقى طاقيته من على أسوارها/ بعد ان صار إماما للمسلمين / وشيخا للرهبان / صار قلبي معبدا للبوذيين / جنة للبوذيين من ديار الأزهر / ومن نعمة الاستعمار ).                

  =========================================

الهوامش :

(1)        د. عناد غزوان/ التحليل النقدي والجمالي للأدب/ بغداد 1985،ص30

(2)        د. عناد غزوان/ نفسه ص22

(3)        جان كوهن / بنية اللغة الشعرية / دار توبقال / المغرب 1976،ص129

(4)        د. محمد غنيمي هلال / النقد الدبي الحديث ، بيروت 1973،ص417

(5)        مما يقوله في هذه الرائعة الشعرية

         إن الدنيا التي هي مثل العروس

          يكون حكمها عن طريق السيف المسلول

         لقد سألت من الدنيا من باب الحكمة

         فقلت ما هو مهرك؟ فقالت إن مهري هو الهمة

          ولكن ماذا أعمل فالسوق كاسدة

        وليس هناك من شمترين للقماش

        فالمحبوبة غير مخطوبة لأحد

        لذا فهي ذات خط أسود وغير موفقة

(6)        نازك الملائكة/ الشاعر واللغة/ مجلة الآداب البيروتية / تشريناول 1971

(7)        د. عناد غزوان / نفسهص49

(8)        د. صلاح فضل / أساليب الشعرية المعصارة ص19

ليست هناك تعليقات: