2011/07/29

لدمشق الياسمين أكتب بقلم ياسمينة صالح

لدمشق الياسمين أكتب
ياسمينة صالح*

دمشق، أبواب الحارات العتيقة المترامية على هاجس اللغة وهذب التاريخ،. دمشق السيوف التي ما تزال تصدق بريق فرسان مروا من أبوابها المفصلة بريش الحكايات القديمة، حيث تسكن الأشياء التي لا تقال مرتين، وحيث تنام اللغة الحارة والضاربة في عمق الأرض.. دمشق امرأة تختزل كل النساء في حيائها، حين ترفع حاجبيها دهشة، تخجل المدن من عينيها، ويسترق الليل سمعه لما تقوله حين يغلبها البكاء أو تستغرق في الضحك بلا سبب ! دمشق حقل الياسمين المتوّج على ناصية الشبابيك، وعلى حافة القلوب التي تؤمن ألا وطن خارج تفاصيل البياض في ياسمينة يضعها الدمشقي على شباكه كتميمة تقيه من الحسد !
دمشق الفقراء الذين يولدون فقراء عن قناعة أن الفقر والشرف يعيشان معا إلى الأبد، لا تفرقهما الضغينة ولا يفرقهما خطاب محمول على صحيفة تصنع من الكراهية سببا للبقاء.. ودمشق الأثرياء الذين يولدون أثرياء لأن الثراء يتوارث عن الأجداد، كما يرث المرء ثروة يعرف أنها لن تصل إلى صاحبها قبل ان تتلمسها جهة الحظ تارة، وجهة القصد تارات أخرى!
دمشق الدهشة إذ توقظ فيك الرغبة على البكاء فجأة وأنت تمشي في شوارعها عامرا بالأسئلة، وأنت تصغي إلى خطوات كل من مروا من هنا بالأمس، وقبل الأمس وقبل ألف وألف وألف عام.. دمشق صالة الشاي التي تنبعث منها موسيقى صاخبة لا تتلاءم مع الذوق الشعبي، ولا مع حزن يجلس قبالتك على الكرسي المجاور، ينظر إليك ويسألك: هل تريد أن نحكي أم نسكت كما يسكت الناس عن الكلام؟
دمشق، عاصمة التاريخ التي عشقها الحالمون، والبسطاء والشعراء، والمجانين، تلك المدينة المرمية على حجر الكون، ضاربة في الأشياء منذ بداية أول حرف من الأبجدية الأولى التي توزعت على الناس كرغيف خبز، تعي دمشق جيدا أنها جميلة لمجرد أنها هي، محتفظة بوقارها الأزلي، جميلة حد الدهشة، ومغرورة ككائن يعرف أنه يملك أكثر مما يملكه الآخرون: الرؤى واليقين !
دمشق الأسواق العتيقة، والباعة المتجولون الممزوجة وجوهم بالتعب اليومي، والآهة المخبأة في القفص الصدري، لا تخرج إلا عن حاجة إلى البكاء، ولو خلسة، فالرجال لا يحق لهم البكاء، تقول المخيلة الدمشقية الممتدة من وإلى النص الفعلي لذات الإنسان المقهور عن قصد، أو الحالم عن سابق إصرار.. !
دمشق الرسالة المضرجة بدماء العابرين هذا المكان، أولئك الذين وقعوا في حبها عبثا، أو رغبة في الخروج بلقب دمشقي لا يجوز لغير أهلها الذين تمرغوا في ترابها ومشوا في شوارعها حارة حارة، وزنقة زنقة !
دمشق الحلم الأول والأزلي، رغبة في الحياة بأبهة تختزل كل المعارك التي دخلتها لتنتصر أو لتموت واقفة، غير آبهة بالرثاء الذي يأتي ممن دسوا في حواريها أكثر من سبب للضغينة، أو للقتل. دمشق التي ترفض ان تموت كما يموت الجبناء، تعرف أنها لن تعيش جميلة إلا إن قامت، ولن تعيش كبيرة إلا إن بقيت، قبلة للعشاق الأولين والآخرين، ولزهر يولد جميلا بين يديها، ولكلام لا يكون له طعم الفرح إلا إن كان دمشقي الهوى، لا تفصله الحواجز المزيفة بين مدينتين، ولا تسقطه الشعارات التي ترفع على عجل، أو تلك التي يخرج سيناريوهاتها من أرادوا النيل من جمالها، وحين لم ينالوا منها شيئا كرهوها عن فشل، مثلما كرهتهم عن جمال !
*روائية جزائرية.

ليست هناك تعليقات: