التّكرار والسّلبيّة وانعدام التّخصّص تُهدّد عرشها
المُنتديات الثّقافيّة الإلكترونيّة.. استراتيجيّة البقاء والتميّز
كتبت- زينب ع.م البحراني
بعضُها يبدأ على استحياء مُنقّبًا عن أعضاءٍ وحياة، ثمّ ينطفئ خديجًا فقيرًا إلى الدّعم الفكري والمادّي والمعنوي، وبعضُها الآخر ينطلق بنشاطٍ مُتأجّج مُنذ بداياته، ثمّ تتراجع عافيته ببطءٍ مُنتظمٍ قبل أن يتحوّل إلى أطلالٍ يتردّد بين جُدرانها صدى ماضٍ يصعُب استرداده. هذا ما يراه المُتابع للغالبيّة العُظمى من المنتديات الثقافيّة الإلكترونيّة في وطننا العربي، الأمر الذي صار يُثير تساؤلاً مُقلقًا بشأن إيمان المثقّفين العرب اليوم بجدوى تلك المُنتديات وثقتهم بجديّتها، فضلاً عن رؤيتهم لأفضل استراتيجيّة تُمكّنها من الصمود، والبقاء، والتميّز، ومن ثمّ التأثير الفعّال على الصعيدين الأدبي والثقافي مُحافظةً على ثقة أعضائها المُخضرمين في تلك الميادين والمُستجدّين عليها دون استثناء.
مُجاملات ومُشاحنات!
بداية يرى القاص عبد الله النّصر أنّ ثمّة أسباباً ظاهرة وباطنة أفقدت تلك المنتديات عافيتها، ''في بداية ولوجنا عالم الفضاء الإلكتروني قبل عشر سنوات وأكثر، كانت المنتديات في قمة جدواها وتميزها وعطائها وإثارتها على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية، من أمثال شبكة هجر الثقافية، وعلى هدب طفل، وجسد الثقافة، والمتكأ الثقافي، وقصائد ملائكية، وغيرها. كانت فعالة ونشطة، والعاملون عليها، وكذا المشاركون فيها أقوياء أثرياء بالنصوص والنقد والرؤى ووجهات النظر البناءة، متحمسون إلى التفرد. وكانت ظاهرة يُعتد بها، وموضوعة في الحسبان. ولطالما وجّه لها أصحاب القلوب الضعيفة جهودهم في إضعافها والتخريب فيها بل وحجبها، لقوة ما يقدم فيها، وتأثيره على كل تلك الأصعدة. أما الآن؛ ولأسباب كثيرة ظاهرة وباطنة منها ضعفت النصوص المقدمة، وتحول النقد إلى ''الشللية''، والشخصنة، ووجود المشاحنات والمشاجرات، وعدم تقبل النقد، وعدم معرفة أدوات النقد أيضاً وانعدامه البتة. وبسبب المجاملات على حساب النص ورفعة المبتدئ البسيط إلى مَقام ليسَ له أهلاً، وتقليل حجم أو عدم العناية بالمُبدع ذي الخبرة والكفاءة والتميز. واستهداف الجَسَد وشهواته.. الخ.. فقد وئدتْ إن لم تكن عدمتْ تلك الجدوى''
نكسةٌ للمُبدِع
وتؤكد القاصّة زهراء موسى أنّ المنتديات الإلكترونيّة هي سلاح ذو حدّين بالنّسبة للأديب على وجه الخُصوص، ''لا أعرف كيف شقّ الأدباء الكبار طريقهم قبل المنتديات الإلكترونية، لكنه كان بالتأكيد طريقاً طويلاً وشاقّاً. كما إن كثيرين من البشر في الأزمنة السابقة ماتوا ضحيّة أمراض باتت اليوم بسيطة بفضل التقدم الطبي، وكما إن الرّعاية الصّحية الحديثة تمنح الناس -بإذن الله تعالى- فرصة عمرٍ أطول، كذلك فعلت المُنتديات الإلكترونية الثقافيّة والأدبيّة، وأتوقع أن كثيراً من المواهب في الماضي اختنقت وماتت لأنها لم تجد كوة تستقبل من خلالها الضوء وتتنفس الهواء، وإن عاشت فبنمو ناقص وإعاقة''.
وتضيف: ''المنتديات الإلكترونية لا تصنع المُبدع ولا تقدّم له كل شيء، لكنها تمنحه فرص الوجود والنمو، إن أجاد تعاطيها. فالمُنتديات شأنها شأن أي مورد للحياة، التفريط به حرمان، والإفراط فيه يُعطي نتائج عكسيّة ضارّة، إنما يجب الأخذ منه بنصيب وقدر. إنّها تفتن المُبدع وتغويه، و في اللحظة التي تغمرك فيها بالضوء تسكرك وتعميك في آن، وهذا ليس في صالح المُبدع. المُبدع تتنازعه حاجتان: رغبة نرجسية في الظهور وتلقي التصفيق الأضواء والمَديح، وحاجة دفينة إلى العُزلة والظلام والصّمت حيث الشروط الحقيقيّة لانقداح شرارة الإبداع''.
وتواصل موسى: ''الترتيب الصّحيح هو أن يمر المُبدع بمرحلة العُزلة حتى يُربي موهبته، فإذا ازدهرت خرجت للضوء بالضرورة. وما يحدث في المنتديات هو نكسة للمبدع، فهي تحرمه من مرحلة الكُمون، وتزج به في الأضواء وهو بعدُ لم يزل رخواً، وهذا خطر على سلامة تخلّقه. المنتديات منحة، يمكن أن يطوي بها المبدع المراحل بسرعة الضوء، إن كان يقظاً وحذِراً وماهِراً في تخطّي العقبات والفخاخ. إذ سيفرح كاتبنا الصغير لأن حروفه تجد طريقها للنشر بنقرة إصبع، إصبعه هو وفي لحظة واحدة، وليس عليه أن يُكابد البحث عن منبر يقبل باستضافة مُحاولاته، ومُحرر دمث يتعاطف ويدعم. كاتبنا سيستقبل الآراء النقدية والانطباعية خلال دقائق، وليس عليه أن ينتظر الأسابيع والشهور وربما السّنين. إن كاتبنا الصغير إن كان ذكياً فسيّميز أنواع المُحتفلين بموهبته الصّغيرة، بين ناقد حقيقي لم تخطئ حواسّه بوادر الإبداع، وبين مُصفق لكل مُغرد وناعق، وبين انتهازي وصاحب مصلحة و.. و.. عليه أن يكون يقظاً ليعلم أن العدّاد المُراوغ يخدعه، وأن المِئات من القراء الذين يُخاتله رقمهم ليسوا كلهم حقيقيون. في زمننا بإمكان كل حاطب أن يأخذ فأسه ويتجه للوادي، اذهب واحتطب لك منتدى إلكترونياً وزج به في الفضاء ''السايبيري''، لن يمنعك أحد، لكن العقبات تغيرت، ما عاد الخوف من نضوب الحطب، ما عاد الخوف من أن يعترضك حطابون سابقون يمنعونك مُقاسمتهم رزقهم، لكنك أمام مُنافسين أقوياء، ومشترين حاذقين يتفرسون جودة بضاعتك، وعليك أن تكون بحجم التحدي''.
سوء الإدارة والتّحرير
وحول أسباب تراجع المُنتديات، تقول موسى: ''لا أعرف التحديات الإدارية إذ لم أستلم أي دور تحريري أو إداري، لكن من موقعي كعضو أعرف جيداً كيف تخسر المنتديات كتّابها.. وأرى أنّه يجب على الإدارة وعلى طاقم التحرير كسلطة تنفيذية أن يفهموا نفسية الكاتب، خصوصاً إن كان أديباً ومُبدعاً، لأن حساسيته تكون عالية، شعوره بإنسانيته وكرامته واحترامه هي الشرط لاستمرار بقائه في مكان. معظم المنتديات -إن لم تكن كلها- تفرّط في هذا الشرط، إما بسبب لا مبالاتها بالكتاب مهما طال مشوارهم وكانت مسيرتهم من العطاء، وإما بسبب ضعف إدارتها وعجزها عن السيطرة''.
وتؤكد أن ''على إدارة المنتدى أن تعتبر الكتاب شركاء، أن تجعل اعتباراً لرأيهم في القرارات التي تمسّهم مُباشرة كأعضاء، أن تكون واعية للتلاعب وسوء استخدام وتعدّد أسماء الدّخول لعضوٍ واحد ''اليوزرات'' بهدف مُحاصرة الكاتب ومضايقته والتحرّش به ومُحاربته نفسيا. وأن تكون مُنصِفة وعادلة في التعامل مع الأعضاء، وقد شهدت مواقف سافرة للكيل بمكيالين، مُعاقبة طرف بالإيقاف دون طرف، لأن طرفاً ما فوق المُحاسَبة. كما يجدُر بالإدارة أن تحسن اختيار أعضاء مجلسها ومُحرّريها، لأنه في كل مكان هناك من يُسيء استخدام السّلطة، حتى لو كانت سُلطة اعتبارية وهميّة.. سُوء الإدارة والتحرير يتسبب في هجرة الأقلام وتحويل المنتدى إلى بيت أشباح''.
قُصورٌ في الحِرفيّة
ويشير القاص أحمد طوسون إلى الدّور الإيجابي للمُنتديات الثّقافيّة الجادّة في إحداث حراكٍ ثقافي لا يُمكن تجاهُله، ''الفضاء الإلكتروني فضاء رحب اتسع لكثير من التجارب الإبداعية التي كانت تغلق في وجهها المنافذ التقليدية للإبداع. والمنتديات الثقافيّة والأدبيّة كان لها دورها في إحداث حراك ثقافي لا يعبأ بالحدود الجغرافية الضيقة. وكانت وسيلة لتعارف الأدباء والمُبدعين من كل الوطن العربي بغض النظر عن الأميال والمسافات التي تفصلهم عن بعضهم البعض، وأحدثت فارقاً في زيادة الاهتمام بالقراءة بعد انصراف الناس عن قراءة ومتابعة الأعمال الإبداعية لفترة. فلا يستطيع أحد أن يجحد دور هذه المنتديات وبخاصة الجاد منها، لكن ظهور شبكات التواصل الاجتماعي كالفيس بوك والتويتر وغيرهما، أدّى إلى انصراف كثير من المُبدعين عن هذه المُنتديات، خصوصاً أن شبكات التواصُل الاجتماعي أكثر سُهولة في التواصل والمُتابعة''.
ويُضيف: ''إشكالية المنتديات الثقافية أنها لا تلقى الاهتمام والرّعاية اللازمة من مؤسّسيها ولا يتعاملون باحترافية في إدارتها.. ونحن نعيش في عصر يَحترم فِكرة التخصص، وحتى تستعيد هذه المنتديات دورها لا بد من إسناد الإشراف عليها إلى مُتخصصين في الإدارة وإلى مُبدعين يشرفون على المواد الأدبيّة، وأن يولى الاهتمام بالشكل وتنسيق الموقع العناية نفسها المطلوبة للمضمون وبحث كيفية أن تغطي هذه المنتديات نفقاتها وتحقق أرباحاً وهذا ليس بمستبعد إذا أسند الأمر لأهله''.
امتيازات تليق بالمُبدِع
ويرى الناقد د.مقداد رحيم أن حسنات تلك المُنتديات أكثر من مساوئها، ويقول إنها ''أسهمت بتقديم الخدمة الفعالة للأخذ بيد المُبتدئين بالكتبة، وخلق أسماء لم يخطر على بال أصحابها أن تُذكر في المحافل يوماً، والتشجيع على مُكابدة الحرف العربي، وأشاعت النشر المجّاني، وتضييع وقت المبدعين في المتابعة وكتابة الردود والمُجاملات، وفرضت التساؤل عن جدوى الصحافة الورقية ونافستها بقوة، واختلط فيها الغث بالسمين بشكل واضح، وأفسحت المجال الواسع لخلق علاقات أدبية وثقافية أكثر عمقاً من خلال التواصل المباشر عبر الآفاق بين المبدعين من خلالها هكذا تبدو حسناتها أكثر من مساوئها''.
ويضيف ''غير أنها غير محكومة بغير شروطها الداخلية الخاصة، وتحتاج إلى أن تكون أكثر انضباطاً وأكثر تمييزاً، وأن تبتعد عن المُجاملات المرتبطة بضرورة الحِفاظ على عدد الأعضاء المنتسبين، وأن تمنح مُبدعيها امتيازات تليق بإبداعهم وتتعلق به، وأن تستحصل الموافقة على إنشائها من جهة دولية ثقافية مسؤولة دون مساس بحق الحريّة في النشر والتعبير عن الرّأي والاستقلالية، وأن تقوم هذه الجهة بدعمهما مادياً دعماً يكفل لها تقديم تلك الامتيازات لأعضائها''.
ويعلق د.محمد صابر: ''لست من مُحبي ومشجعي هذه المُنتديات، ولم أنشر شيئاً في أي منتدى، ومع ذلك فإن الكثير منها يسطو على مقالات تؤخذ من كتبي ودراساتي المنشورة في مجلات ورقية وتنشرها دون إذن أو حقوق. المادّة الأدبية التي أنتجها بجهد وسهر ليست سبيلاً للمارّة والمتسولين، والمنتدى الذي لا يدفع لمادتي حقوقها المادية المناسبة لا يحظى بنشرها. وعلى هذا فهي تضطر لنشر كل ما هبّ ودبّ من أجل تسيير أمور استمرارها، ولو كانت مُحترمة وتستكتب كتاباً مُهمّين في حقل اهتمامها وتدفع لهم فاعتقد أنها ستنجح كما هي الحال في المنتديات الثقافية والأدبية في اللغات الأخرى''.
أساليب شبابيّة
ويشدد الرّوائي الشّاب محمّد خيري على ضرورة ارتباط نشاط المنتدى الإلكتروني بالنشاطات الثقافيّة الحيّة على أرض الواقع، مشيراً إلى دور الشّباب في إنعاش تلك المُنتديات حين تُبدي اهتماماً جاداً بإبداعاتهم.
يقول خيري: ''إن لم تتم رِعاية تلك المُنتديات ستكون مجرد عبث لا وجود له. الكلام عن مجهودات على الشبكة الإلكترونية كلام جميل، ولكنه بلا أثر في الحياة الواقعية خاصة في الأدب والثقافة. هناك مهرجانات للأفلام ولا توجد ندوات عن أحدث الإصدارات! هذه المُنتديات لن تقوى إلا إذا انتقلت للمكتبات التي لا تعرف إلا أسماء المشاهير والمال هو شهوتها الأولى. وكما قلت، نحن في حاجة إلى ثورة ضد الحياة الإبداعية المُهمّشة التي فرضها علينا كبار الكُتّاب. يجب أن نعرف. ''هذا الأسبوع تم إصدار كذا وكذا وكذا وتقييم القراء كذا وكذا وكذا'' والصّحف أيضاً يجب أن تهتم بالإصدارات القيّمة سواء كانت جديدة أو قديمة، ونحن كشباب نستطيع أن نطرح إبداعنا وننعش سوق الكتاب من خلال مُنتديات حيّة في الواقع، فتحيا بهذا المُنتديات الإلكترونية. يجب أن نعلي قيمة الأدب بأساليب جديدة وشبابيّة كما تقوم السّينما بتسويق نفسها إلى قلوب الجماهير... خصوصاً الجماهير الذين نسوا القراءة''.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق