لا حيلة لهُم أمام هيمنة الكتابة
أسباب قسريّة تدفع المُبدعين للترجّل عن أقلامهم
كتبت - زينب ع.م البحراني:
في مجموعة ''الرقص على أجفان الظّلام'' يكتب الراحل محمد الماجد: ''أغلِقوا الأبواب - هكذا صرخ البؤساء- فالأصليون يقدمون استقالتهم من هذا العالم، والمُصلحون يغسلون أيديهم، براءة من بني البشر الذين لم يعرفوا أنشودة الوفاء الخالدة - الخُرافيّة طبعًا- طوال حياتهم!''.. عبارة تصرخ بها صفحات تُعبّر تعبيرًا شفافًا عن نموذجٍ من أحزان الأدباء. ونتساءل هنا: ما الذي يدفع الأديب لتقديم استقالته من عالم الأدب باعتزال الكتابة إلى الأبد رغم العشق الروحي الذي دفعه لدخول هذا العالم من قبل؟. يرى القاص والرّوائي المصري أحمد طوسون أن هيمنة الكتابة تجعل قرار الاعتزال بيدها هي لا بيد الكاتب، نافيا مقدرة الكُتّاب على اتخاذ مثل هذا القرار بقوله: ''لا أعرف أحدًا من الكتاب اعتزل الكتابة، لكن أعرف كثيرين اعتزلتهم الكتابة لفترات طويلة أو لنهاية حياتهم.. فالكُتاب رسل الضمير الإنساني، والكتابة تمثل رسالاتهم إلى البشرية من أجل الخير والجمال، ومن الصعب إن لم يكن من المُستحيل تخيل نبي يتنازل عن رِسالته!''.
ويضيف: ''ربما يتوقف الكاتب لفترة، وربما ينضب القلم وينقطع الوحي، لكنه ليس اختيار الكاتب. ولا يوجد سن للكاتب يجب اعتزال الكتابة عند بُلوغه، فنجيب محفوظ عميد الرّواية العربية مات عن عمر يناهز 94 عامًا وظل يكتب حتى الرمق الأخير في حياته، والكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو مات عن عمرٍ يناهز 99 عامًا وظل للحظاته الأخيرة مدافعا شرسًا عن حقوق الإنسان والحق والعدالة، وجابرييل جارسيا ماركيز -الذي يقترب من عامِهِ الخامس بعد الثّمانين- سارع بنفي ما رددته وكيلة أعماله في وسائل الإعلام عن اعتزالِهِ الكتابة، قائلاً: ''لا يُعتبر ما أشيع خطأ وحسب، بل على العكس فأنا لا أفعل سوى الكتابة''، رغم أن ماركيز لم يصدر كتابًا جديداً منذ عام 2004 حين أصدر روايته ''ذكريات عاهِراتي الحزينات''.
ويتابع طوسون: ''الحالة الوحيدة المُتخيلة أن يجبر الكاتب على كتابة ما يخالف ضميره بفعل القهر كما تحاول بعض النظم الديكتاتورية، وعندها الأشرف له أن يغمد قلمه في جرابه ويعتزل الكتابة. فالانسحاب هنا أشرف وأكرم للقلم من أن يخون أمانة الكلمة التي حَمَلها عبر التاريخ''.
الإبداع يفرض حضوره
ويؤكد الكاتب والنّاقد العراقي د.صابر عبيد صعوبة اتّخاذ الأديب قرارًا من هذا النوع، مضيفا: ''ثمة سبب وحيد يتحكم بهذا القرار هو نفاد الذخيرة الإبداعية لدى الأديب، وبغير ذلك لن يكون بوسع الأديب التحكم باتخاذ قرار من هذا النوع لأن الإبداع يفرض حضوره في كل زمان ومكان ومهما كانت الظروف، ولا اعتزال في موضع الإبداع''.
ويوضح الناقد العراقي د. مقداد رحيم أن ''الكتابة عمل إبداعي يحمل معه دوافعه الذاتية التي تشكل، في أحيان كثيرة، عبئاً على الكاتب المبدع، فيجد نفسه مضطراً لهذا الفعل، أو مدفوعاً إليه دفعاً مشبعاً بالرغبة في إثبات الأنا، أو تبديد الانفعال، ولا تنفد هذه الرغبة إلا إذا شعر الكاتب بعدم الجدوى من الفعل، وبتلاشي رد الفعل، فيكون الكاتب، في هذه الحال، كمن يكتب لنفسه دون جدوى، فيستحيل عمله إلى مضيعة للوقت والجُهد''.
ويسترسل: ''الأمر غير مُرتبط بزمن دون آخر، أو وطن دون آخر، فطالما شعر الكتٌاب المبدعون والمفكرون الذي سطروا سوانح أفكارهم في الكراريس والمجلدات بمثل هذه الخيبة فمزقوها أو أحرقوها خفيةً أو على مرأى من الناس، احتجاجاً على واقع ينحني أمام فنون اللهو والعبث، ويغض النظر عن الفكر والإبداع في التأليف. كانت آلاف الدنانير الذهبية ترمى على المغني بعد أن يُطرِب الحاكمَ وحاشيته بصوت من الأصوات أو دور من الأدوار، بينما يدور المؤلف في سوق الوراقين ليبيع كتابه بأزهد الأثمان ويرجع بخبز حاف إلى بيته المُستأجَر!. تلك مفارقة صادمة عاشتها عصور تاريخنا المتوسط واشتد أوراها في عصرنا هذا، الذي يفرض فيه المُغني المبالغ الطائلة بالعُملة الصعبة على مُنظمي حفلهِ، بينما يفرض منظمو الملتقيات الفكرية والأدبية، في الغالب، دفع الأدباء والمفكرين أجور بطاقات السفر بأنفسهم ليحضروا!، وصاروا يقتطعون من قوتهم اليومي ليدفعوا تكاليف طباعة كتاب، وتنتظر بقية كتبهم حتى يستطيعوا طباعتها في أوقات ربما تكون بعيدة فيتأخر نشرها سنين طوالا، بسبب عدم القدرة على مواجهة دور النشر الخاصة ودفع نفقات تكاليف الطبع. أليس الاعتزال عن الكتابة أولى إذا لم يكن الكاتب غنياً يشتري ذيوع اسمه بماله؟''.
رد فعل نفسي
ويشير الرّوائي المصري محمد خيري إلى وجود أكثر من سببٍ قد يدفع الأديب للتخلّي عن الكتابة كرد فعلٍ نفسي مواكب لشعوره بالإحباط، مضيفا: ''هناك مقولة شهيرة دائما ما تدور حول فكرة ''يجب أن تذوق المر ألف مرّة قبل أن يهتم أحد بعملك! وربما لن تكون شيئًا!'' يقولها من يعشقون الساديّة في تصوير الأمور، وأوّل المروّجين لتلك الفكرة أولئك الذين صنعوا مجدهم بطريقةٍ يُريدونها أن تكون قاعدة عامّة يجب أن يمشي حسب نهجها كل الكُتّاب أو الموهوبين! وأن الهلاك وضياع العمر -الذي ربما عاشه مُبدع معروف- يجعل من الواجب على كل موهوب دفع هذا الثمن حتى إذا كان على حساب ضياع مستقبله! ينم هذا الفكر عن جهل شديد بالحياة نفسها، وعن يأس وسلبية غير معهودة فينا كمجتمع عربي يحاول الخروج عن التأثير الغربي والعودة إلى مبادئه الأصيلة، ولعل الغرب الآن أفضل منا بمراحل في تقدير المواهب''.
ويُضيف: ''ثمّة سبب آخر، وهو أن أصحاب دور النشر، يظهر السّواد الأعظم منهم وكأنهم مثقفين، لكنهم في المرتبة الأولى أهل تجارة لا فرق بينهم وبين بائع الخضروات أو رجل الأعمال، كل ما يهتمون به هو المال والعائد والمقابل، تطبّعوا بالعقلية الغربية المزيفة المائلة للعقلية الصهيونية القائمة على المصلحة والأموال فقط، فهم يقدرون إما الآلهة فقط (نجيب محفوظ، باولو كويلو.. إلخ) ويضيفون أعدادا مهولة من المؤلفات إلى قائمة إصداراتهم كي يقولون في النهاية ''أصدرنا 250 عنوانا'' أو ''3500 كتاب''! لكن حتى تلك العقلية المتأخرة لا تعي أنها لن تصل حتى إلى مرادها (وهو المال أولاً وأخيراً)، لأن دار النشر تأخذ العمل وتطبعه وتوزعه وتكتفي، لا تعي أن هذا مجرد 10٪ مما تستطيع فعله، هناك اختراع اسمه دعاية وتسويق!''.
للنقّاد دورهم أيضًا!
ويُكمل خيري: ''هناك أيضا اختراع اسمه نقد أدبي للأعمال التي تصدر. فالعيب الآن أن أعدادا مهولة من الإصدارات في الأسواق منها التافه والعظيم لم يعلق أحد من النقاد عليها! وكأنها رُزم من الورق الذي لا قيمة له. يجب أن يكون مُعدل النقد الأدبي على مستوى معدل إصدار الأعمال، وإلا من سيعرف هذا الكتاب أو المؤلف ويخاطر بشراء كتاب لشخص غير معروف ''وفي المكان كتاب لأحد المشاهير أضمن له'' إلا إذا علم أن محتواه يناسب تطلعاته. وأعلم جيدا العُقد النفسية المُترسبة في نفسيّات كثير من النقاد الذين لا يعرفون ما معنى نقد بناء (أي نقد مُبتغاه بلوغ الأفضل)، لكن يعشقون النقد المُدمر والمحبط. هذا يعنى أن دور النشر نفسها لا تعي حتى كيفية التجارة! إذن ما هذا الذي يسيطر على دور النشر في الآونة الأخيرة؟ إنه الشهوة للمال دون العلم حتى بكيفية الحصول عليه''.
ويستطرد ''ثالثا، الجماهير التي لا تقرأ، حتى وإن كانوا من أقارب الكاتب أو الأصدقاء، لا يقتربون من إبداع مؤلف جديد وينافقونه ''نعم سنقرأ.. نعم سنقرأ'' ثم ''يُفاجئونه بقولهم: ''عفوا للزهايمر! لقد نسينا عن إبداعك! الظروف والله وأنت سيد العالمين! هاها''. وفي مصر كانوا يسخرون قائلين: ''إذا سار نجيب محفوظ بجانب راقصة سيسألون من هذا الذي يسير بجانبها؟!'' أما الآن فنحن نعتقد أنه لن يلتفت أحد إليك -حتى أقرب الناس- إلا إذا أصبحت أنت تلك الرّاقصة! الناس أيضا مُتهمون بأنهم لا يُقدّرون إلا تلك الفتاة التي تلبي لهم رغباتهم وتنعش الاقتصاد المحلي والدولي والإقليمي! أما أنت فلا قيمة لك، ويجب عليك أن تبيع كل مبادئك وتتخذ أساليب غير مشروعة كي تظهر إبداعك فيما بعد. وإلا يجب عليك أن تقامر بعمرك وسط الملايين من الموهوبين والمُدّعين حتى يأتيك بصيص من الأمل!''.
ويؤكّد خيري: ''عندما نجد أن الطريق دائما ''مسدود مسدود يا ولدي'' أمامنا خياران؛ إما أن نترك هذا العبث الذي نسميه ''الكتابة'' للمُصنّفين على قوائم الآلهة في سوق النّشر ونتركهم يوجهون أفكارنا كما يشاؤون، ونرضى بالفشل ونتجه إلى حرب في ميدان آخر ومجال آخر، أو أن نتحلى بالإيمان وصبر أيوب، ونعمل ونتحمل عقبات ذلك ماديًا ومعنويًا وجسمانيًا وعصبيًا ونفسيًا وصحيًا''.
الاختناق تحت سياط القمع
ويقول الشاعر السوري محمد الحريري: ''الأديب يكتب وإن لم يُمارس الكتابة، يكتب وإن لم يرَ الناس آثار مداده على الورق أو صفحات المُدونات، لكنه قد يتوقف عن إخراج كتاباته إلى النور، حين يحس أنها تختنق تحت سياط بعض التحزبات القمعية، أو لا تتاح قراءتها للفئة المستهدفة، أو يقرؤها من لا يقدرها قدرها.. ألم يقل الأوّلون: ''ويل للشاعر من راوية السوء''. ويرى الكاتب العراقي أحمد الأمين أن ''الأديب عطاء لا ينضب، وقرار الاعتزال لا يأتي إلا لأسباب اضطراريّة وقسريّة، كأن يقعده المرض فيعجزه عن الكتابة، أمّا ما عدا ذلك فلا يوجد شيء آخر بوسعه إيقاف الأديب عن إتمام مسيرته الإبداعيّة''.
المصدر: صحيفة الوطن - العدد 2035 الخميس 7 يوليو 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق