أحداق مجنونة
محمد الكامل بن زيد
تقطعت أنفاسه في أول الطريق و انصهرت في بوتقة الإرهـــــاق ... حشرجة عملاقة و عليلة تكورت عند الحلق ... وقفت حاجزا صلبا خلق من زبر الحديد لتسد منافذ الراحة و الحرية .. تزف له في ذات الوقت إرهاصات انتفاضة مميتة ضد الحياة .. ضد الكون .. ضد من أسماهم بأبناء الذين " ......" تكسرت نصال قدميه عند حافة الرصيف .. قبع تحت جدار منقوش بألفاظ بدائية .. فيها الكثير من العيب والكبت المتفجر .. هو لا يقرأ عدا أنه يوما سمع طفلين في سن الزهور .. يتناقشان ببلاهة عن أصل كلمة " ........" سألهم بحب الفضول : هل هي موجودة فعلا ؟ .. قالوا له : نعم .. تأفف بحرقة و ألقى برأسه على كتفه و ردد : هكذا إذا .... هرب يومها الطفلان جزعا منه مرددين : إنه مجنون .. انتظر مددا من الدقائق عسى يلقى منهما جوابا .. ثم مضى بيديه المنعدمتين بما سمي بحرب الاستنزاف ..يتحسس خفايا السير .. الضارب في الأغوار .. في الجذور .. تركض الرؤى الداخلية وسط رأسه قطارا سريعا .. عبثا يطمس من هذه الظهيرة تلك الدرجات المعتادة .. المحفوظة في الذاكرة ..منذ أن صدئت الموانئ المقابلة لساحة بور سعيد ..كان بيديه الكبيرتين يحطم في اليوم الواحد ألف جدار و جدار .. و بعينيه الواسعتين يرقب ألف جندي و جندي ..ارتد طرفه ناحية قائد المجموعة وهو يتحدث بحماس فياض لم يسبق أن لمسه في الأشخاص العديدين الذين زخرفوا حياته اليومية .. ظل يحدثهم بصوت عظـيم عن الشجــاعة و البســــالة و فـــداء الوطن .. زارعا في حقول تنهداتـهم المرهقة بذور الإيمان .. من أن جنة رضوان الخلد فيها الكثير من الفدائيين و الشهداء .. احمرت الأفئدة و استشعرت غيضا لقول القائد .. لم يطل به التـفكــير .. أســــرع ناظرا في السجلات الخضراء المتربعة على عرش كتـف القائد و طلب أن يدون اسمه ثم انزاح جانبا لغيره من المتطوعين .. كان مزهوا حتى كأن الدنيا لا تسعه .. اسمه الأول على القائمة و هذه الحشود خلفه تحسده المكانة .. جدار و جدار سيكونون بإذن الله ألف قتيل و قتيل من العدو الغاشم .. سأل متى الجهاد ؟ فرد عليه بعد أسبوعين .. وجاء الأسبوعان و ذهب إلى الجهاد و قامت دائرة الحر ب.. و ضاعت الأحلام في خط برليف .. قيل له إننا هزمنا .. قال بعفوية المجاهد البسيط: لكننا عبرنا .. ابتسموا بحرقة : ظنناه النـــصر غير أنه إنجلى على سمكة أفريل عملاقة .. أوشك أن يقول : لا .. أن يصرخ .. لا ..رفع يديه نحوهم فهاله ما رأى .. و بعد ساعات من الغيبوبة تبين أن السماء اعتزلته رافضة العودة إليه ..... و استطرد الحديث عن هيبة بور سعيد..
بور سعيد يا بور سعيد .. هوامش من قلاقل الناس أعربت عن تذمرها من ذهاب الهيبة عن الساحة .. و ما عادت تعرف لها طعمـــا جراء ما يجري في جلباتـهــا .. الأفيون يباع ولا يشترى .. و البغايا بلغن السفالة لدرجة أن الفنادق المحيطة بالساحة أصبحت مواخير مفتوحة علنا .. و الشواذ جنسيا تدبروا أمرهم بين الأشخاص المتناثرين هنا و هناك في ساعات الليل الطويلة .. هذه سنوات و ليل ساحة بور سعيد طويل وطويل جدا .. و بالكاد آمن أن السبب يكمن
ليس في الشواذ أو الأفيون أو البائعات ... بل في الرجال ليسوا ككل الرجال .. الرجال يأتون خفية .. يتفجرون ألف شضية خفية .. يرحلون خفية . و في الصباح تشتعل القلاقل بعنف عبر الألسنة الحذرة أو الصحف السوداء .. لم يشأ أن يسأل الصحف لما هي سوداء هذه المرة .. فلربنا قيل له ما قيل من قبل أو يتهم ثانية بأنه مجنون .. ظل لسنوات مماثلة لا يصدق أن هذا يحدث بالفعل للساحة .. ترحم عليها في قرارة نفسه .. وتصدع شرخ الذاكرة من جديد في مخيلته و همس بحرقة " خط برليف لم يكن الخط الوحيد " .. المكان هنا أشبه ببور سعيد .. كل شيء أخضر .. الناس خضر .. البناء أخضر .. و الرجل الذي جاء يوما سائلا عن اسمه و عن أهله و عن أشياء نسيها عمدا و كيف أجابه أن اسمه موجود في أول القائمة المدونة في السجلات الخضراء التي كانت بحوزة قائد المجموعة الذي كان يرتدي الأخضر .. هذا الرجل هو الوحيد حين عرف الحقيقة اعتذر عن أقواله له يومها : أنت مجنون....
تلذذ بلسانه شيء من الهواء معبر عن فرحته بتجاوزه سور المكان الأخضر و تنفس الصعداء معلنا في حزم .. سأقطع الطريق صوب بور سعيد .. كم أشتاق إليها خمس سنوات من الهجرة كثير على واحد مثله يحب الخضرة و الماء و الوجه الحسن .. انبعثت روائح عطرة خلسة من المزهريات المطلة على شرفات احدى العمارات المجاورة .. أكيد صاحبتها من الجيل الذي مضى .. شعر بـها تـهز بدنه هزا طيبا أوصله إلى أحلام اليقظة ..ظن أن بصيصها غاب عنه إلى الأبد .. صادفته نشوة عابرة لسماعه صوت دحمان الحراشـي يردد : بـهجـة بيضاء ما نقول .. ورسمك عـــنده قيمة ..زفر زفرة ساخطة ..
اليوم .. اليوم يا بور سعيد .. سنعرف سويا كما كنا في خيلاء الأمكنة على صفائح البراميل .. و نعشق روح محمد العنقة وهو يصرخ بمندوله .. عار عليكم يا رجال مكناس .. و سبحان الله يا لطيف .. وغيرها كثير .. قد يذهب التاريخ إلى غير رجعة إذا عزم الرحيل ..و قد يعود من جديد إذا أردناه أن يعود .. و إنني أنا و أنت نصر أن يعود .. خشع بصره في سراديق الماضي و مضى يخاتل ما تبقى من الطريق إلى بور سعيد .. ترامت إلى طبلة أذنه أصوات بعيدة تجلجل في جنباته .. سيارات الإسعاف تتمخض وسط الحشود .. زاغ بصره عن السراديق .. ردد في ذاته " الأقدار تتفاوت مناسكها كلما أردت العودة إلى بور سعيد " ..جثــم فــوق رصيف شـــارع باب عــــزون ..لكن .. لا هذه المرة لن يجرأ أحد عن أخــــذ المبادرة منه .. وحده عاد و وحده سينتــفض .. سيكتب اسمه في صدارة السجلات الخضراء تقدم بكل ما أوتي من البسالة ..
تقدم بكل ما أوتي من شجاعة .. فداء الوطن سبيل الجنة .. فداء الوطن سبيل الجنة .. انتظمت دقات القلب مع الخطوات و تجلت السماء من جديد .. حاصر حصارك .. لا مفر .. وانتصب جلادا فوق خط برليف ..لا مفر .. ما هذا الهراء .. خط برليف .. أيها السادة لن يكون بعد اليوم .. خط برليف .. أنا وحدي سأحطم ألف جدار و جدار .. ألف قتيل و قتيل .. وسمكة أفريل التي ادعت يوما بأني مجنون .. سأخنقها بكلتا يدي.. هاتين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق