البرنامج السرْدي في رواية همس الهمس
لـلروائي 'محمد الكامل بن زيد '
بقلم الشاعر : شارف عامر
يظهر اهتمام الكاتب بتفاصيل بعض الحركات اليومية مع حفاظه على وتيرة الزمن ورصد عدد قليل من الشخصيات مع رسم ملامح هذه الشخصيات والدخول إلى أعماقها وتبيان مشاعرها وعواطفها على خط تداعت معه حياة نفسية متصاعدة أحيانا وهادئة أحيانا أخرى تحت تأثيرات الظروف الخارجية ...... بناء على ردود الأفعال التي تكبر من لقطة إلى أخرى وبناء على انفعالات الشخصيات المحورية التي تستفز تحت أمر الحدث يحدث أنك تتوصل إلى اللقطات ( المشاهد) المتشعبة والتي تحمل ومضة الدهشة نشئ على الامتداد الزمني غير أن هذه الدهشة لا تلبث إلا أن تغادر لأنها وفقط لا تعرف الديمومة ،لكن السرد الزمني هذا يبقى متواصلاً على شاكلة الحلم، على شاكلة الاستيقاظ للصاحب النائم الذي يوقظه الراوي كم من مرة هو ربط زمني أو علاقة تجعل القارئ مرتبطا بتلك اللحظة فالزمن يتواصل، والسرد يتواصل معه ملازما حيثيات القبض على الموضوع وتداعياته المسافرة بين فضاءات خيال يتكئ على الواقع والواقع يتكئ على المتخيّل ، ينابيعها الذاكرة من على صفحات تتسع لسرد هيمنة التاريخ وهذا للتاريخ، وهيمنة الأرض، وهذا حبهما ولا يمانعهما... وتعلق الكاتب بها إلى حدود الهوس وهو يروي. تقاليد وعادات وهذا هو تصوير المجتمع قائم لذاته وبمكوناته البشرية وتراثه الشعبي بسلبياته وايجابياته ،تسطع فيه تلك الخشونة البدوية وغلظة البدو وتظهر فيه مظاهر ذاك الكرم الفائض وتلك الإنسانية العفوية الرائعة المبتعدة عن الحقد والكراهية والغش، ومع هذه المفارقة التي تستنبط من إحداثية السرد الروائي ومن خلال الحوار،ومن صيرورة الجدل الذي تصاعد حتى الذروة لحظة المحاورة من خلال نصّ الرواية المتأنية نلاحظ تداخل خيوط الرواية بواسطة حركة بطيئة متداخلة تظل على شرفة الحكي ولذته وعلى بساطة اللغة تشكل الحدث تشد المتلقّي شدّا، بحيث يستطيع إدراك النقطة المكثفة في الهدف المحكي وإدراك هوامش أخرى من الرواية المترابطة مع النص الأم للرواية.
/...وجها جميلا شفافا وظاهرا في امرأة جميلة، ولم تكن تحمل الحكمة من شيخ عمر طويلا ميسور الحال ولم تحمل جمال الشباب والوداعة والإيمان فالبناء الفكري لم يكن من صنيع الخيال، بل كانت الحقيقة المرة غير أن البناء الفني قد حمل تلك المشاعر والأحاسيس والتمنى،كم تتراءى للمتلقي بعيدا عن القيم الإنسانية والمفاهيم السامية التي تخفق وتحث عن مدى الشهوة والغزيزة، الرواية لم تتخذ بطلا واحدا إنما أكثر من ثلاثة أبطال محورية تدور حولها، فالرجل يحمل وطن،والوطن يحمل الأمة، بل النفي إلى التوارق معايشة هي الحياة الصحراوية وفي حياة خاصة تحت ضغوطات ظرفية مميزة هي ما ميز هامة التخييل السردي الواسع الذي استطاع أن يرسم فيه الروائي الحياة هناك موحيا إلى ما فيها من الفقر ، القهر ، والظلام ، تلك هي مظاهر من النّشاطات اليومية للبدو الذين ما زالوا يعشقون الرحيل والتنقل.وفي المقابل تطورات الحكي تجعلنا نقلب صفحات كتب علم الاجتماعي الخلدوني قراءة هاربة مع عباب الحكمة، بحيث هذه االرواية تحمل صور الرجل التارقي الذي يعيش داخل المجتمع أحزانه وأفراحه ،ويمارس تعاسته ومتعتها، ولذّته ويأسها في إخلاص،وإخلاصا للبداوة،في خضمّ هذا التكثيف الذي لا تتغيب صيغة المخاطبة لمَا فيها من خصوصيات، وذلك مما أضفى على
الرواية من التاريخية،وانسيابية السرد.
- تينهنان يا لوحة الطسيلي المحفورة في الخلد
- ياغزالة نرجسية ظلت أسطورة تنبض بسر إلهي في القلب
- تنهينان
- ياسمراء
- قالت هاهنا مثواي ...
- لا ولن أبرح أرضي ..
- ففيها سأغرس حلم وجودي وفيها أعتنق حرية أفرادي
- وفيها ستهتف السماء بذكراي
- وسنكتب الجداريات ما كان لي يوم
ارتبطت ملامح اللغة بالشعرية إلا أن تينهنان هي أصلا لا يقال فيها إلا الشعر أو لأن الصحراء ملمهة المتحدثين عنها أو أن للمكان أرواح تسكنه.
فتينهنان وتمنراست عنصران هامان في هذه الرّواية ،فالأولى يضرب تاريخها في عمق ما قبل الحضارات،وحافظت على جذورها،واستقراء رواية همس الهمس تدل على مضامين كثيرة من عهدها التليد بين البشرية،بمعنى أنها أنجبت أبطالها،والدليل على ذلك هو شخصيات الرواية في ميزاتها الخاصة وسيماتها الخصوصية.
أما/ تمنراست، إيليزي/ فقد تمكنت من رسم هيأتها على مستوى التضاريس التي احتفلت بعمرها وبمواسم الدهور وبمحافل الأيام ،ومنحتها خدها فوضعت هذه الأخيرة بصماتها عليها وفيها .
وهذا ربما ما جعل الروائي يتأثر بها وبحياة هذا المجتمع المتميز بالعديد من عاداته وتقاليده والرواية تحمل أشياءً كثيرة تدل على ذلك بما فيها من مظاهر اجتماعية وطبيعية اختلفت عن المجتمعات الأخرى من حيث أمور متعددة على أكثر من مجال،ولهذا فقد انتبه الروائي إلى هذه المنطقة وإلى هذا المجتمع لبناء ما أراد أن ينقله إلى المتلقّي بعين الاعتبار، ليصنع من هذه الأحداث بما أوتي سردًا بتشكيله التصويري كما تجيء الصور الموحية بهندسة الطاسيلي، قد أحاط بتضاريس المنطقة وواكب بلغتها متفاعلا مع المكان والزمان وعندها التقط لنا كل هذه المشاهد المؤثرة مستمدا من سيرة مجتمع اصطدم بالحياة البدوية وبالتقاليد وكأنهم يمارسون دورهم الذي كتبه لهم السّيناريوريست ابن خلدون وغيره ( الذين حققوا بجهودهم الفذة معرفة مفيدة ) حيث المقدمة لابن خلدون ووفيات الأعيان لابن خلكان. وما أورده ابن حولق وأخيرا كان كتاب عبد السلام بوشارب بعنوان ( الهقار أمجاد وأنجاد ) لكن الروائي أخذ من هذه التحف هذه القراءات العميقة من كتب تاريخية اجتماعية دون خلل،وينتقل بنا إلى موضوع آخر حيث لا يحس القارئ بهذا التدحرج من حديث إلى حديث واستدراجه من قضية إلى قضية بواسطة انسابية بالقدر الذي يعيشه ممارسةً من كدح في تلك المنطقة.
كما أن اللغة تمتلك من الشعرية ما يجعلها تبدو شفافة مخلفة آثار الصور الموحية وذات دلالات ( ص 13) : يقول تينهنان تينهينان يا لوحة الطاسيلي المحفورة في الخلد شاعرة ألهمت الكاتب فكانت هذه الجمالية في التشكيل السردي بتفاصيل النداءات البعيدة مرة والقريبة مرة أخرى، بحيث تتزاحم الأصوات السردية تتمدد مداهمات الحزن والفواجع في مراسيم العواصف العاتية، بل هي قراءات الروائي في أعناق شخصيات الروايات،تتزاحم هذه الأصوات الداخلية التي تحاول الخروج بل يحاول الروائي إخراجها من أعماق شخصياته على غير توارد، وهناك توافق بين القراءات العفوية التي يسيطر بها المتحرك على المتمثَّل،ويسيطر المتحرك بها على المتمثل، ولإخراج الذي يريد المبدع حشره من خلال المونولوج والمقاربة بين المتحاورين حتى بين الجنسين، فلكل شخصية صوت ولكل صوت عمل يقوم به في دوائر القص عبر حالات قد تحقق بذاتها لذاتها وقد تلامس ما يألف الحقيقة وقد تتباعد في تموج غير مكتمل إن التوظيف الحكائي وفعالية الحكي وممارسة الكاتب لها بقدرة تقترب من المناخ المعيشي وبالشخصيات والظروف، وتلك هي لوحات رائعة تتزين بمصطلحات فولكلورية أمثلة شعبية ، أغاني تردد على ألسنة لا ( المجتمع ) تغرق في التقليدية والكلاسكية وهو ما جعل الخطاب الروائي لا يتعانق مع أسلوبية بل هو كل فصل من فصول يجمع بين سيرة الماضى وصيرورة الحاضر بمفردات تتنفس بنسائم البيئة الصحراوية وروحيتها ربما هو ذلك الذي جعل الكاتب يتكئ على بساطة اللغة وشفافية لا تميل الى الغموض والإبهام بل الوضوح.
- السرد الكامل والمتتالي، عندما يتأمل القارئ في حيثياتها بكل رويّة فان خيوط النسج الروائي لا تتقطع فيما بينها والمشاهد تتوالى ،ولا تركن ولا تتوقف.
- ويبقى التوظيف الحكائي بعيدا عن التهويل والتطبيل والبرنوغرافية الذي يرتبكه بعض الروائيين للتوسع وشحن الأحداث والأشخاص في سياقة الحكايات والتنطع من موضوع الى موضوع فالتوظيف الحكائي هنا واعٍ إلى حدود كبيرة، ومقتصد بالرغم من أن الرواية هي في حاجة الى ذلك يقدم لنا الكاتب روايته في شكل قراءات توظيف نظري من حيث النظر الى العلاقة المتواصلة بين المبدع والنص والسياق ( الاجتماعي ،التاريخي ، الأسطوري ) بعيد عن التوقيع الشكلاني الذي فصل فيه الدارسون وخاصة الأكاديميون الذين يضعون الحدود المهيمنة على التوظيف الفني وتحديد الإبداع وحرية المبدع من حيث تحريك الشخصيات ورسم الحوار الذي يتطلبه الفكر .
- إن تجسيد الفكرة الواعية في بنية النص من ناحية والكتابة ببعض الرموز في فضاء غير مكشوف هي محاولة للبناء التأويلي بحيث يلج بنا في ذاكرة الماضي العميقة ، ثم يعود بنا إلى عمق النص
الروائي لمعايشة الحدث اليومي هذا الاستقصاء أبعاده الدلالية في حدود سياقات مفهومة المعالم بمعاني متعالية نحوها يقدم لنا الكاتب رواية وهو يحاول الإضافة لقد أضاف وتميز لكنه لم يتحرر قدر الإمكان من سطوة التاريخ وسطوة العاطفة والانفعال وسطوة الثورة وسطوة الانتماء الايديولوجي وفشل أمام التيار الفكري والصراعات جاعلا المشاهد بين التورية والسخرية والتعقل أحيانا عندما تتطلبه المواقف ، فالروائي استطاع أن ينتحل شخصياته ليرسم لنا أعماقهم بجمالية وصدق وتصوير فني واقعي للبيئة المحلية للزمن المعيش، والانفعالات الإنسانية والوسط الاجتماعي برؤية الراهن وبرؤية المفجوع حيث تتباين الأساليب في إطارها السردي والحواري، والترجمة الذاتية والمعادلة الموضوعية في جدلية مسؤولة..
- لم يقدم صاحب النص روايته بمفهوم مجرد لا يرتبط بقوانين الواقع الموضوعي أو بأطوار التاريخ أو بالتنبؤات المستقيلة بل كانت تواجهه صعوبات ومواقف فكرية يعايشها وينهل منها تتمحور حولها شبكة العلاقات الروائية في النص وتتوارى في دائرة الحكي ليدخل من حيث المسارب لاستنطاق الصمت، للتغلغل في الأزمات النفسية و الإيديولوجية وهي الرغبة في الحكي عن موضوع واحد ومميز لكن بأدوات تجعله يكسر المألوف السائد وتجعله يفتح جبهات لتعدد القراءات وهو الجميل في العمل الروائي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق