2012/02/18

فصل من رواية "خداوند" لعمرو صلاح

على جيلاني
د.عمرو صلاح
1 نوفمبر 201
أخيرا ها هي الجامعة. آه منك يا طهران! يقولون عنك من أكثر مدن العالم ازدحاما وأراك أنا أكثرهم بلا منافس. حمدا لله أرى حارس الأمن. إذن لقد دخلت الحرم الجامعي. ها هو يقترب سيحيينى بفارسيته المحببة لي .

- سلام عليك بروفسير (جيلانى)
وأنا أومئ له برأسي نفس الإيماءة منذ سنوات .مللت كل هذا. أحمد الله كثيرا على تلك الأجازة .منذ عينت في كلية ألاقتصاد والعلوم السياسية لم أقم بأجازة بهذا الحجم. لا أعنى بالطبع المدة ولكن ما أعنيه ما سيحدث وأين ستكون الأجازة.

- سنفتقدك كثيرا بروفسير (جيلانى)
يقولها دكتور( أحمدي) رئيس القسم. أعلم تماما أنه من أسعد الإيرانيين حاليا كوني سأغيب عنه وعن القسم طيلة هذه المدة. في الآونة الأخيرة لم تكن العلاقات بيننا على ما يرام .ربما أتحمل أنا جزءا من هذا الفتور. ولكن الأمور لا تسير كما نبتغيها دائما.أجمع الكثير من حاجياتي من المكتب. من يراني يعتقد أنني ذاهب بلا عودة وليس مجرد أجازة أسبوعين.. ولكنى أتوقع اللاعودة. لماذا يا (على )؟أسال نفسي ولا أعلم..

آه منك يا طهران ها أنا قابع مرة أخرى في السيارة أنتظر ذلك البحر الهائج من السيارات وتلك السيمفونية البغيضة من الكلاكسات.. المسافة من منزلي للجامعة لا تتعدى نصف ساعة في الظروف العادية. ولكن منذ متى كانت حياتي تخضع للظروف العادية؟لماذا فعلت بى هذا يا بروفسير( موسوي) ؟لماذا أنا تحديدا؟

المنزل يبدو لي مبهجا على غير العادة هل لأني سأتركه ويعلم الله وحده ما أذا كنت سأعود إليه أم لا؟

يا بروفسير (موسوي) كيف حدث هذا.. كيف؟
قبل ذلك بثلاثة أشهر

يا ألهي كم أعشق هذا الطريق. كلما مررت به أشعر وكأني أولد من جديد. تلك المساحات الخضراء والأشجار التي تتدلى فروعها على الأرض فتبدو كعروس تجدل ضفائرها ليلة عرسها. ولكنى لا اشعر بهذا اليوم .منذ أن هاتفنى خادم أستاذي وأبى الروحي (رضا موسوي)راجيا منى الحضور في أسرع وقت لمقابلة الأستاذ وقلبي منقبض بشدة. أعلم أن حالته تتدهور يوما بعد يوم .السرطان يبث فيه سمومه الأخيرة. عندما زرته في المرة الأخيرة شعرت بقرب النهاية.

- سأموت يا (على)

قالها بوهن وأنتفض قلبي وأمسكت عنوة دمعة يائسة كادت تنحدر من عيني.
- العمر الطويل لك يا أستاذي ومعلمي .

نعم. من غير (رضا موسوي ) يكون أبى وصديقي وأستاذي ؟منذ فقدت والدي الحقيقي في حرب العراق وأنا لا أزال شابا غضا طريا في مواجهة موجات بحر الحياة الهائج وقبلها بسنوات فقدت والدتي وأنا لا أعرف أبا غير( موسوي). كم جلست حزنت فرحت غرقت في أحضانه في كلاردشت ساحرة مدن شمال إيران تلك التي اقتحم الطريق الآن لأصل إليها قبل فوات الأوان. في تلك الفيلا الأنيقة وإمام تلك الحديقة الموشاة بزهور الياسمين وذلك الخرير المنهمر من المياه عشت حياتي مع صديقي وأبى( موسوي).

توقفت بالسيارة أمام باب الفيلا في تلك البقعة الهادئة من (كلارديشت) .داخل هذين الطابقين وأمام تلك الحديقة الخضراء عشت أجمل أيام حياتي. قرعت الجرس. السحب المتجمع في السماء ورذاذ المطر المتساقط يكملان لوحة النهاية. كان( جعفر) الخادم المخلص لأستاذي والذي يشكل في وجداني جانبا لا يستهان به في استقبالي. لم أكن بحاجة للحديث لأعلم ما أل إليه حال البروفسير( موسوي) كما أحب أن أ ناديه دائما .احمرار عيني وشحوب وجه (جعفر)يشيان بحجم خسارتي القادمة. سبقني( جعفر) في هدوء إلى غرفة( موسوي). أتلفت حولي في جنبات الفيلا .هنا ذاكرت ؛هنا تناولت الطعام؛ هنا أعددت حقيبتي ؛هنا أخبرته سأرحل إلى طهران يا أستاذي لقد حصلت على وظيفة معيد بالكلية وسأبقي في طهران .هنا بكى وهنا احتضنته.
دلفت إلى الحجرة .كان نائما على فراشه اقتربت ببطء جلست على المقعد أمامه .لولا قليل من أنفاس لازال يجود بها لحسبته ميتا. اصفرار الوجه وبروز عظامه وهذه النحافة التي لم أرها من قبل يرسمان صورة الوداع. لقد قارب أستاذي على الثمانين وأصبح على رأس القائمة الطبيعية المرشحة للرحيل فلماذا لم يتركه السرطان يرحل في هدوء؟
فتح عينيه ببطء. لمحنى. حانت منه ابتسامة واهنة
- ها قد حضرت يا "على" حمدا لله على سلامتك..
نهضت. قبلته في جبينه. قبلت يديه .
- لا اقوي على التأخير يا أبى.

حاول النهوض فلم يقو. ساعدته قليلا وحضر "جعفر"فنهض بصعوبة وهو يستند بظهر متعب على وسادته .
أومأ برأسه إيماءة بسيطة إلى "جعفر"قائلا
- لتتركنا الآن يا "جعفر"أريد الحديث مع (على )الحديث الأخير.
أنقبض قلبي بشدة. انصرف "جعفر" بادرته قائلا
- لا تقل هذا يا بروفسير سأحصل على أجازة سأقضيها معك وسنذهب .....
قاطعني "موسوي"بإشارة من يده.
- ستحصل على أجازة يا"على"ولكنك لن تقضيها معي ستقضيها هناك حيث يجب أن تكون.
حاصرنا الصمت للحظات. كان"موسوي" يلتقط فيها أنفاسه اللاهثة ثم عاد ليكمل:
- لقد طلبت حضورك اليوم يا "على " لأوصيك وصيتي ألأخيرة وصية الأب الذي لم ينجب واعتبرك منذ زمن أبنه الذي لم تمنحه ألأقدار له .
امسك بكوب من الماء بجواره ارتشف رشفة وأكمل:
- لقد قضيت معي زهرة سنوات عمري وعمرك في هذا المنزل قرأنا وتعلمنا وفهمنا وشرحت لك وسألتني وأجبتك والآن حان الوقت لوصيتي يا "على" .
صمت للحظات قبل أن يلقى بقنبلته التي ستغير مجرى حياتي
الجفر يا "على" الجفر.!!!!

مرة أخرى يا أستاذي!الجفر. لماذا تطاردني بهذا الموضوع دائما ؟أعلم الآن كم كلف هذا الجفر أستاذي" موسوي". منذ ترك الجامعة وتفرغ لدراساته وقراءاته في الجفر .منذ سافر إلى جامعة( قم) وجلس مع الحوزات الدينية واستمع وتكلم وقرأ وأضاع عمره. ثم جئت أنا في حياته ليزرع بداخلي بذرة من هذا الشيء سعيت دوما للهروب منها. أتذكر الآن هنا في هذا المكان يوم أعطاني هذا الكتاب الغريب( علم الجفر) ما هذا يا أستاذي سالت أنا ؟اقرأ يا "على" اقرأ قالها هو. وقرأت يا أستاذي وقرأت..

علم الجفر هو باختصار شديد علم (استنطاق الحروف).ذلك الحديث المستمر عما أملاه الرسول عليه الصلاة والسلام على سيدنا وأمامنا "على بن أبى طالب" ليحكى فيه ماذا سيحدث حتى أخر الزمان. كتب بالرمز والحروف على جلد ماعز وتناقل عبر الأزمنة والأجيال يحكى سر الكون وأسرار المستقبل ..
لكل حرف رقمه الخاص الذي يرمز له ومن خلال الأرقام واستنطاق الحروف تحكى المخطوطات وعلم الجفر أسرار الكون وحكمة الحياة عبر العصور والأزمنة.

هذا هراء!!!
اسكت يا "على"! هكذا كان يوبخني أستاذي دائما. لست متدينا ولا عالما ولا أية من آيات الله ولكنى اتبع دائما المنهج العلمي في البحث. هناك المئات من الكتب والمراجع التي تتحدث عن علم الجفر ولكن...
- أين ذهبت يا "على"؟
عدت من فضاء ذكرياتي الواسع على صوت أستاذي الواهن.
- لا وقت لدى يا "على" فاستمع جيدا لقد أضعت عمري وجل جهدي ولم أتزوج من اجل أبحاثي ودراساتي في هذا الموضوع .أنا مثال حي لمن تتملكه فكرة ما فيركض خلفها حتى يمسكها أو يفنى معها. أنا أمسكتها يا "على"! لقد عثرت على ما بحثت عنه طيلة حياتي .المخطوطات الأصلية للجفر. ما أملاه الرسول الكريم على الإمام "على بن أبى طالب" منذ قرون وقرون.
لولا قليل من ثقة في أن عقل "موسوي" لم يصبه السرطان لقلت انه يهذى هذيان الموت .
- لقد سافرت طوال السنوات الماضية إلى كل مكان شككت في أن تكون هذه المخطوطات هناك دمشق ،بغداد ،مصر كل مكان. وبحثت وقرأت ورأيت ووجدته يا "على" هو هناك مدفون حيث ترقد نسمات الحضارات في مصر .
لم اعلق من جانبي. أي تعليق حاليا لا قيمة له .الرجل يحتضر و الاستماع الصامت له هو جل الاحترام والتقدير في لحظاته الأخيرة.
مد "موسوي" يده أسفل الوسادة واخرج لفافة أعطاها لي .
- هذا هو المكان يا "على". رحلتي عبر سنوات وسنوات .أبحاثي التي أغلقت حياتي عليها ..مخطوطات الإمام "على" وعلم الجفر الأصلية .عبق التاريخ وأسرار الكون عبر الأزمنة هنا يا "على."
أخذت اللفافة مشدوها سألته:
- ما هذا؟
سعل "موسوي" قبل أن يجيب :
- إنها خريطة المكان التي ترقد فيه أسرار الكون وحكمة الأزمنة .المخطوطات الأصلية للجفر التي ستدحض أى تشكيك أو أكاذيب حوله.
لم استطع الصمت أكثر من هذا:
- ولكن يا أستاذ كيف تأكدت من كل هذا وما هو دليلك أن هذه المخطوطات موجودة أصلا وفى هذا المكان؟
رد "موسوي":
- الآن لا فائدة من الحديث والشرح والتفسير ما بين يديك هو ثمرة سنوات وسنوات من بحثي .أوصيك به إما أن تقتنع وتذهب وإما أن ترفض وتخسر أنت مجدا واخسر أنا عمرا أفنيته في هذا.

حاولت التملص بطريقة غير صادمة:
- ولكنى مريض وأنت تعلم هذا. كما أن الأمور في مصر غير مواتية الآن بعد الثورة هناك؟
"موسوي "لازال حاضر الذهن حتى في أيامه الأخيرة:
- الظروف الآن أفضل في مصر يا "على" لقد ذهبت أنا هناك وبحثت وشاهدت وأعددت دراساتي في ظروف أسوا من هذا بكثير. كما انك لست مريضا بمرض سيقضى عليك قريبا مثلى. إنها أمراض الوحدة التي ستعانيها كما عانيتها أنا ولكنها ستعالج ولن تعوقك يا "على".
استفسر من داخلي. السكر من أمراض الوحدة كيف يا أستاذ؟

سأريك شيئا. قالها "موسوي" وهو يعطيني لفافة أخرى طالبا منى قراءتها. كانت نسخة من جريدة مصرية تتحدث عن علم الجفر وتنبؤاته بالثورات العربية. حيث أوردت الجريدة مقتطفات مما هو مذكور فى كتاب الجفر عن ثورة تونس مثل (في صفر يأتي من تونس خبر)وحديث عن الثورة المصرية . نظرت إلى "موسوي كان يردد كلمات كأنها تأتى من عالم أخر(0اذهب يا "على". اذهب وابحث واحفر الرمال لتجد أسرار الكون وحكمة الحياة عبر العصور والأزمنة)

هناك تعليق واحد:

ماجدالساهر يقول...

روعة عاشت الايادي..تحيتي