الكلمة الافتتاحية لمؤتمر أدباء مصر الأخير
مَا لَمْ يَحْدُثْ فى الربيعِ الماضِى
فارس خضر
الذينَ تحدَّثُوا باسمِ التنويرْ، فى حينْ كانوا يُسوّغُونَ خِطَابَاتِ النّظَامِ البائدْ، ما أظُنُّهُمْ كانوا يتوقَّعُونَ ولو فى أَسْوَأِ كوابِيسِهِمْ أنْ نجلسَ فى لحظةٍ ملتبسةٍ كهذهِ لننتَظِرَ الظلامَ القادم.
لقدْ نَزَلَ السياسِىُّ عن أكتَافِ الثِقَافِى، بعد أن رَكِبَهُ لما يزيدُ على نصفِ قرنٍ، ولم يَعُدْ عليهِ بَعْدَ اليومِ أن يُقدِّمَ للعُرُوشِ الخَائرَةِ ذَرائعَ للبقاء، ومعَ هذا تبدو خُطُوَاتُهُ مُتَثَاقِلةً، ويداهُ مرتعِشَتَينِ، وقراراتُهُ إصلاحيةً واهنةً، وكنا ننتظرُهُ ثائرًا..
إنَّ مثلَ هذا الأداءِ يُذكرُنَا بالأيامِ المقبورةِ، أيامَ كانتْ كلُّ الأشياءِ مرتبةً ومتأنقةً كالديكوراتِ الكرتونيةِ، كلُّ الأشياءِ فيما يشبهُ، حتَّى صِرْنَا نعيشُ فيما يشبهُ الوطنَ.
إن نضالَ المثقفِ المصرىِّ ليسَ بحاجةٍ إلى إبانةْ، هذا المثقفِ الذى يقفُ الآن فى المسافة الأبعدِ عن فكرةِ التخوينِ، وعن تناحُرِ المتناحرينَ حولَ المكتسباتِ والغنائمِ، بوسعِ كلِّ عابرِ سبيلٍ أن يَصِمَهُ بالخِيَانَةِ، بل ويشككَ فى وطنيتِهِ وثوريتِهِ، وهو الذى تحملَ العبءَ الأكبرَ من الإقصاءِ والتعنتِ والمطاردةِ فى الأرزاقِ، بينَما كان المأجُورُون يغرِفُونَ من بحورِ الفسادْ.
هذا المثقفُ عصبٌ مكشوفٌ يتمُّ إقصَاؤُهُ، والتقليلُ من دورِهِ، بينما يلتزمُ الصمتَ، وكلُّ هذهِ الأفواهِ تتكلمُ فى نفسٍ واحدٍ بحجرةٍ ضيقةٍ وخانقةْ، والإرادةُ الوطنيةُ التى بدتْ فى أنصَعِ صورِهَا إبَّانِ الخامسِ والعشرينَ من ينايرِ فتَّتَها الساسةُ ومحتَرِفُو الانتخاباتِ والائتلافاتِ والتجمعاتِ، والخارجُونَ علينا بزعيقِهِمْ من كلِّ فجٍّ عميقْ.
والدمُ الطاهرُ الذى أريقِ ستُغطِّيهِ طبقاتٌ ثقيلةٌ من التواطؤِ والصمتْ، والصوتُ الثائرُ الذى فقدَ بوصلتَهُ يتهَاوَى لتدْهَسِهُ البياداتُ الغشيمةْ..
هكذَا.. منذُ عمرِو بنِ العاصِ وهم يُحاولونَ الإمساكَ جيِّدًا بقرونِ البقرةِ ، لا يهُمُّهُمْ إنْ نَزَفَتْ دمًا، وأبناؤُهِا العراةُ الجياعُ، المهانُونَ فى كلِّ أرضٍ، المحرُوقُونَ فى القطاراتِ والمسارحِ، والمُبعَدُونَ عن ولائمِ الساسةِ وتجارِ الأديانِ وعبدةِ الماضِى، المحكُومونَ بقوانينَ السادةِ والعبيدِ، هُمُ الذين صدّرُوا الحضارةَ الإنسانيةَ للعالمِ، منذ أطلَقَتْ طفولةُ البشريةِ صرختَهَا الأولَى.
لقدْ أفرَطْنِا فى التفاؤلِ، فحمّلْنَا هذا المؤتمرَ عنوانًا ساحرًا يداعبُ أخيلةَ الشعراءِ ويُرضِى أشواقَ وطموحاتِ المبدعين، قلنا: "سقوط نصِّ الاستبدادِ".. والاستبدادُ يمارسُ جبرُوتَهُ على بعد أمتارٍ من هذِه القاعَةِ. والمتخبِّطُونَ فى إدارةِ البلادِ يُجْهِزُونَ على ما تبقَّى من الإرادةِ الوطنيةِ، تاركينَ القُوَى المتناحرةَ التى تُمْعِنُ فى انتهازيَّتِها بتحالفَاتِها البراجماتيةِ تعملُ بطريقةِ "فُخار يكسرُ بعضَه"!.. تاركةً تياراتِ الإسلامِ السياسى تجْنِى حصادَ السنواتِ العجافِ. ليتباعدَ الحلمُ الذى بدَا وشيكًا، ويتضاءلَ الشعورُ بأننا على أعتابِ دولةِ القانونِ، الدولةِ المدنيةِ الديمقراطيةِ التى تكفلُ المساواةَ والعدلَ والكرامةَ والحريةَ للجميعْ.
ويبقى الحلمُ ما بقينا..
فارس خضر
الأمين العام لمؤتمر أدباء مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق