2012/02/29

ابتسامة الموجوع هشام علوان لابتسام تريسي

ابتسامة الموجوع هشام علوان لابتسام تريسي
بقلم: هشام علوان
وجه بشوش ، كوجه الأمهات في البكور ، حين يودعن أطفالهن إلى المدرسة ، تلّوح لصبيها ( نور ) من الشرفة ، تنصحه أن ( يدير باله ) على الطريق ، و توصي ( رفقاته ) أن يأخذوا بالهم منه ، فـ ( نور ) وديع جداً ، و طيب لأبعد حد . كانت ابتسام تخاف على ( نور ) من هسيس النسيم ، و رفيف الفراشات ، تتوجس دائماً خيفة ، تترقب – بقلب أم – خطراً قادماً من بعيد ، تشعر به وحدها ، يلتقطه رادارها الأنثوي ، فالحزن رفيق دائم لها منذ الصغر ، تستعيذ بالله من الضحكات ، و تدمع عيونها ، و تقول : - خير اللهم اجعله خير . ربما احتالت على شجنها بالكتابة ، فهي تفريج للمكلوم ، و تنفيس لما في الصدور ، كتبت مجموعتها القصصية الأولى ( جذور ميتة ) ، و فازت عنها بجائزة سعاد الصباح ، المركز الأول ، ثم جاءت روايتها ( جبل السماق ) ، في جزأين منفصلين ( سوق الحدادين ) ، و ( الخروج من التيه ) ، أتبعتها برواية ( ذاكرة الرماد ) ، ثم مجموعة قصصية باسم ( نساء بلا هديل ) . تعبر ابتسام تريسي عن وطنها بشكلٍ عام ، كما يتضح ذلك في روايتها ( المعراج ) ، حيث تقدم يوسف الفلسطيني السندبادي ، كثير الترحال ، الباحث عن الهوية و الوطن . تنضجها التجربة ، و تعركها الأيام ، فتقدم روايتها ( عين الشمس ) لغة بديعة ، مختزلة ، تحمل دفقات إنسانية مفعمة ، توشم الروح بأحاسيس شتى ، و متناقضة أحياناً ، لكنها صادقة دوماً ، و لذلك وصلت ضمن ( الست عشرة رواية ) في قائمة البوكر العربية ، لكنها تجاوزتها ، كما تجاوزت مبدعين كبار من قبل . و أخيراً .. أنجزت رواية ( غواية الماء ) ، لتبرز قدرات خاصة و مهارة عالية ، و تمكن واضح في أدواتها ، و تقنياتها السردية ، إنها بلاغة السرد الجميل ، و ميراث شهر زادي طويل ، استطاعت ببراعة ، أن تطوره و تطوّعه ، وفقاً لخدمة النص ، لا عبئاً عليه . لكن روايتها الكبرى مع الأحزان ، تبدأ منذ اختفاء ( نور ) ، تصوغ خلاصة تجربتها و حزنها ، و نفسها الموجوعة بالافتقاد ، حين اعتقل ( نور ) ، كأن ظلمة غشيتها ، لم تعد شجرة الياسمين تورق أصابها خريف من الغضب و الأحزان ، تتوق لفتاها الملائكي ، يرعاها و يسقيها ، و يشذب العشب الضار من حولها ، و يلتف مع ( رفقاته ) كل مساء يغني و يعزف لها ، فتهتز الأغصان ، و تطرح النوار . جريمة ( نور ) الوحيدة أنه إنسان حر ، تاقت نفسه لنسيمها العليل ، و حلم في بلد يقتل الأحلام بدم بارد ، يوزع بشار الأسى على الأمهات كل ليلة ، و يبتسم ، و يزداد ضراوة ، كلما عمّ الظلام ، الخفافيش تعشق الخرائب ، و تنعق في الكهوف ، بأغنيات الألم ، و تنتشي بالدم . غاب ( نور ) ، فأخذت البهجة إجازتها ، و خيّمت خيوط من عناكب الروح ، تثقلها و تنشر فيها القلق و التوجس ، ما أصعب الانتظار .. انتظار الأحبة نار ، و لوعة الافتقاد جحيم . كتبت ابتسام تريسي ، العديد من الرسائل لـ ( نور ) ، يعرف الجميع أنها لم تصل إليه في غياهب سجنه ، و اندهش كثيرون من جدواها ، لكنها وحدها كان لديها الإيمان بأن تلك الرسائل تحملها النسمات ، كل مساء ، لتنسل من بين قضبان السجان ، لتصل إليه ، و تربت على قلبه ، فيزداد بيقين الحرية ، و يبتسم في ظلمة الحبس ، فتضيء الزنازن ، و ينزعج الجلاد ، أدهشه النور و أغشى عينيه ، إنه قادم يا أحبتي ، يا أصدقاء الحرف و اخوتي في الآلام ، أفسحوا عيونكم لـلضي ، و ابتسموا للنور . 
* رسائل ابتسام تريسي إلى نور عبد الرحمن حلاق
 1- كم كنت أتمنّى لو أنّي معك على ضفاف الوجع أمسح الجرح.. وأحضن رأسك بين ذراعيّ .. وأغني لك ، كما في طفولتك : نامي يا زغيرة تا نغفى ع الحصيرة ويصير عنا ضو كبير يضوي ع كل الجيرة نامي عل العتيمة تا تنزاح الغيمة .. ستنزاح الغيمة يا نور سيزيحها نورك يا بني .. حرٌ أنت دائما ً..
 2- كم قلت للنار كوني برداً وسلاماً على روحي .. لكنّها أبت إلاّ أن تكويني ببعدك.. ! كم قلت إنّي لا آبه لرياح السموم وإنّي سأجتاز عتبات الجحيم وكأنّي أمرّ فوق الماء.. لكنّها عصفت بجسدي .. قطّعته أشلاء ً.. حوّلته هشيماً، وذرّته فوق بيادر لم يتبقَ منها سوى رماد الحرائق.. كم قلت ! كم تمنيت ! كم أكذب على نفسي ..!!!!!!
 3 – عبد الرحمن ابننا حرٌ على الرغم من اعتقاله .. لم أكن أريد أن أطالب بابني وحده .. ولم أحبّ فكرة عمل صفحة حريّة له ، فهو حرٌ على الرغم من كل شيء.. ما عرفته عنه خلال فترة اعتقاله يجعلني أشعر بضآلتي .. وأفخر به كما أراد .. من قال إن البشرية لم تعرف توحشا مثل هذا هو على إطلاع أكيد بتاريخ الإنسانية . حتّى في الحرب العالمية كان الصليب الأحمر متواجدا، والصحافة ، ومراسلون وثقوا للحرب ..!!! لكن .. ماذا سنكتب عمّا يجري الآن ؟ وكيف نوصفه؟ ..
 4 - نور عد إليّ سالماً يا حبة القلب.. أنا على يقين أنّ روحك تضيء السجن .. وستحطم القضبان .. لأنّك ولدت حرّاً . وستبقى حراً على الرغم من ظلمة معتقلاتهم .. ابقَ صابراً وثابتاً ومؤمناً حماك الله .. وردّك إليّ سالماً يا بني ...
 5 - لا صوت يعلو على صوت المعركة هذا كان في الماضي ! لا صوت يعلو على أصوات السنترفيشات ومولدات الكهرباء .. تحوّل ليلنا نهاراً.. فلم يعد لإيقاع المطر نغمه الساحر .. ولا العاصفة تجد لها مكاناً في الزحام .. حتّى القطط صار مواؤها أنيناً !
 6 – لو أنّ شارون يستطيع أن ينهض الآن من موته السريري لأحسّ بالخجل والغيظ والنقمة والصغار.. ربما لن يكفيه كل هذا .. فهناك من تفوق عليه .. ولقّنه درساً في التواضع سيحمله معه إلى القبر.. لكم الله يا أطفال بلادي .
 7 - تحدث "رئيس الجمهورية" كثيراً في خطابه الأخير عن الزيتون ، اليوم فهمت المقصود بهذا الزيتون ، ربما كان شيفرة سرية للقتل المعمم دون حدود .. وبلا خجل !!!
 8- يا طير طير سلّملي ع سوريا ، وع قلب ودّعته بأراضيا / بلادي الحنونة اسمعوها معي بصوت المرحوم معن دندشي لعلّ سوريا تعود كما غناها معن دندشي . صباحك أبيض مثل الثلج سوريا صباحك حرية
 9- . الحرية للمعتقل نور عبد الرحمن حلاق ، أعتقل بتهمة حمل كيس دواء ، لم يحدث في تاريخ البشرية أن كان كيس الدواء سبباً في الاعتقال .
 10 - إعلان براءة للأسباب التي بات يعرفها كل سوري حر أعلن براءتي من اتحاد الكتاب العرب ، الذي أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه يعيش حالة انفصال تام عن الواقع ، وبعيد كل البعد عن آلام ومشاكل وهموم الناس .
 11- غيرانة منك يا نور ، لأنّي لم أستطع فعل ما قمت به ، وبقيت طيلة عمري صامتة ! صحيح أنّي كتبت "عين الشمس" لكن بقدر ضئيل من الحريّة ، لم اكتب كل ما أريده لخشيتي من الرقابة هل عرفتِ الفرق؟ يحق لي إذن أن أفخر بما تفعله ، وأن أغار منك !
 12 – أدركتُ في لحظة أنّي لم أستطع التخلص منه بالكتابة عنه، وأنّ الزمن كان كفيلاً بجعله بعضي، بل كلي.. لذا لم أستطع إخراجه مني، وتركه يمضي بين السطور، أسطورةً.. أخلق منها كوناً غرائبياً، أحيا به.. وأنّي وعلى الرغم من كلّ خيباتي، أريده هو كما كان في أوّل لقاء بيننا.. وأدركت حمق النظرية القائلة "إنّ أفضل طريقة لنسيان حبّ ما، هي بالوقوع في حبّ جديد!". ( غواية الماء )
 13 – أدرك أكثر من أيّ لحظة مضت كم كان قاسياً عليك أن تري وجعي و هشاشتي .. لن تراهما أبداً .. أعدك أنّي سأنسحب وبكلّ هدوء .. كي تتابع أنت طريقك بكلّ ثقة .. أعدك لن أكون هنا بعد اليوم .. وأنت تعلم كم أنا صادقة الوعد .. رد عبد الرحمن : لست هشة يا غاليتي ، وسيزداد نور قوة عندما يرى قوة إيمانك ، هو فقط لا يريد لك الألم لكنه يستمد القوة منك ، أدرك حجم الانكسار في قلبك ففي قلبي مثله ، لكن تأكدي عندما سيعود غداً ويرى ابتسامتك سينسى أي ألم مر به وسيزداد قوة وإيماناً . ابتسام يا حبيبتي لنا أن نعلن فخرنا به على الملأ وفي الوقت ذاته أن نكبت صوت الأنين في قلبينا . تذكري كم يحتاجك . كم يحتاجنا . أدرك الآن لماذا كنت مصراً على رحيلي ..
 14- صباح النرجس الأبيض "الياسمين البحري" صباحه الذي كان يشعل قلبي دفئاً وحناناً .. يعرف أنّ زهوره تربكني وتورطني بمشاعر لا قبل لي على تحملها ، فأغدو لينة طيعة بين يديه .. كأنّي أنا ابنته الصغيرة ! منذ نعومة أظفاره عرف كيف يدخل البهجة إلى قلبي.. فكان يجمع زهور الربيع من الأرض ويأتي بها إليّ ويضعها قرب سريري .. يقطف زهور الكرز واللوز و المحلب ، فيعبق البيت برائحة عطر يسكن الروح ! كبر ... وصار يجلب لي القرنفل .. سافر .. وصار في كل عودة يحمل إليّ ياسمين البحر وإن لم يجده يوصي عليه من اللاذقية .. حتى في عز كانون ، في عيد ميلادي ، يصرّ أن يزيّن غرفتي بزنابق أعشقها .. لروحه الباقية في جسدي .. نرجس يتربع أمامي الآن .. وزنبق هناك في مكان ما .. سيأتي به إليّ يوماً ويقول "كل عام وأنت بخير يا أمّي"... فهل سينثر المنثور الأبيض والقرنفل في عيد الأم القادم فوق وسادتي ؟

ليست هناك تعليقات: