في ذات صباح
عبد
العزيز مشرف
الصباح يشبه كل صباح ، لا شيء يدعو للعجب ، النوم فى عيون الناس لا
يزال عالقاً ، يحاولون دفعه ، يسيرون فى شوارع المدينة مطرقين ، قليلون منهم هم من
يتبادلون التحية إيماء أو بنأمة تسمعها العين ولا تفسرها الأذن ،
وبقيتهم كعادتهم كل يوم مربوطون بخيط خفى يشدهم إلى المجهول ، فلا هم يعرفون
ما سيكون ، ولا هم يستريحون من عناء الظنون .
هذا الجزء من
المدينة يجذب كثيرين من راغبى الصمت والتأمل ، يقفون فوق الكوبرى الرابط بين ضفتين
، يطيلون التحديق فى الماء المنساب كأن في صفحته إجابات عن أسئلة لم
تزل عالقة ، بعضهم يسير خطوات قليلة سرعان ما تتوقف ليديم التحديق فى موجة مفاجئة
قافزة تنتهى كعادتها بتشتت يستوعبه البحر كله ، فلا البحر يزداد ، ولا
الموج يكف عن الجريان .
وهناك فى
أسفل الكوبرى حيث تستطيع أن تطأ الماء بقدميك ، وتغترف منه بيديك ، هناك شاطئ ضيق
بالكاد يسع عدة كراسى مصفوفة فى خط مستقيم يفصل بينها مناضد بلاستيكية صغيرة تتسع
كل منها لصينية شاى واحدة ، وأحجار يتخللها الماء فتراها غارقة حيناً ، وحادة
جارحة حيناً ، هناك يجلس أشتات من البشر : صياد بصنارة يلقيها آملاً
سمكة ولو صغيرة تشعره بالإنجاز والزهز ولو أمام ذاته المقهورة ، لكنه ولفترة طويلة
لم يجن غير انقطاع الخيط ، أو إمساك الشص بعوالق ونفايات البحر ، إلى
درجة استرعت انتباه من حوله من الجالسين دفعت أحدهم لأن يقول : " شكلك
كده هطلع لنا غريق " ، ويمر وقت ويغيب كل فى عالمه ، يحتسى الينسون
والشاى بعض رواد الشاطئ ، ولا يزال صاحب الصنارة لم يخرج غير إحباطه كل مرة ، وإذ
بمركب من مراكب الإنقاذ النهرى بضابطها وجنوده يرسون على الشاطئ تحت الكوبرى
ويسحبون من الماء جثة شاب فارع الطول فيضعونها ويطلبون ما يسترونها به
، يفزع الجالسون ويبقى بعضهم يعاون أو يشاهد لأول مرة فى حياته غريقاً خرج
للتو من الماء ، حالة من الدوار تنتاب الجميع ، تدور الأفكار فى رءوسهم بسرعة
الضوء ، وتبرق أمام أنظارهم مشكلاتهم كلا شىء ، فأمام الموت ، أمام
جسد فارع متين غارق لا شىء سوى الصمت .
كان النهار قد سار حثيثاً ، ودبت الحياة الصاخبة فى كل مكان ، والتهمت بقايا
السكون الذى كان ، وضاعت نظرات نحو الماء وسط ملايين النظرات كما تضيع موجة
وسط اليم بين ملايين الموجات ، ولم يلتفت أحد إلى الجسد الممدد تحت الكوبرى
ملفوفاً ببطانية مهترئة ، لكن الصباح تحت الكوبرى لم يعد ككل صباح .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق