2013/09/23

إلى السيدة زهرة زيراوي... ما أروعك يا وطننا !!.. بقلم: إبراهيم أكراف



المرأة التي لا تيأس
إلى السيدة زهرة زيراوي... ما أروعك يا وطننا !!
إبراهيم أكراف- طالب باحث
لا أتذكر أين وقعت الواقعة بالضبط، غير أنها ما تزال ماثلة أمام عيني وموشومة في ذاكرتي وقلبي؛ سيدة تظهر ملامحها أنها كبيرة في السن، أتكهن أنها تجاوزت الأربعين سنة، ببطن منتفخ تمشي في السوق. وقفت أتملى البطن المنتفخ تارة والوجه الذي تظهر عليه صعقات السنوات، فظل يخزني سؤال: لماذا لم تيأس بعد هذه السيدة؟
أرخيت العنان لبصري وأنا أقول في قرارة نفسي، لماذا لم يفرد العلماء-علماء الدين- في كتبهم "باب ما يجوز للمبدع ولا يجوز لغيره" على غرار ما فعله بعض أئمة اللغة، حين أفردوا أبوابا "في ما يجوز للشعراء ولا يجوز لغيرهم"؟
أوعز لي المشهد بكتابة خاطرة، أو قصة، أو رواية، يكون هذا البطن المنتفخ مداره. تركت الأمر في ذهني يختمر، منتظرا تطوع شخصية أو شخصيات لتتقمص دورها، وتهيؤ فضاء/ات لتكون مجرى للأحداث، فبقيت على هذه الحال أنتظر القبض على رأس الخيط لأسرد إبداعا ما من وحي هذه السيدة التي لم تيأس.
وإذا جاء أجل ولادة إبداع لا يستقدم ساعة ولا يستأخر. أقنعت نفسي أن المرأة التي لا تيأس لا يمكن أن تكون من نسج الخيال، فهناك بالفعل سيدة لا تيأس أبدا –ما شاء الله- عنَّ لي ذلك وقد كنت أفكر في الكتابة عن ظاهرة محمودة بالمغرب، وهي ظاهرة "الماماوات" (جمع ماما مع إضافة آل التعريف) –لا قياسا على الباباوات في سياقها الديني- فلا أعتقد أن مغربيا، بالانتماء والاهتمام، سينسى الراحلة "ماما آسيا" هكذا عرفت، ونسبها الوديع. ولا يعرف السيدتين "عائشة الشنا" و"زهرة زيراوي"، تعمدت ألا أعرفهن لأن المعارف لا تعرف أبدا.
سأتحدث في هذه الورقة عن الأم الأخيرة، أم المبدعين الشباب ووزيرة الثقافة بلا حقيبة ولا موظفين كما يلقبها البعض، إنسانة لا تحيا إلا في الظل، تهرب من الشمس كثيرا؛ رأيت ذلك بأم عيني وأنا أحظى بشرف تقليب ألبوم صور لقاءات صالونها الذي شرع أبوابه للأدباء من مختلف الأجيال منذ تسعينات القرن الماضي، كانت بصحبتي في زيارتها يومئذ أمينة، فسألتها:
-       ألم تلاحظي ملاحظة مهمة؟
نظرت إلي من خلف زجاجات نظاراتها، وكأنها تستفسرني عن طبيعة هذه الملاحظة، فسارعت بتقديم الجواب:
-       ألا ترين أن "ماما زهرة" لا تظهر إلا لماما في الصور –إن لم نجزم أنها لا تظهر-؟
تواصل "ماما زهرة" حرث الأرض اليباب متنكرة لذاتها، في وقت استقالت فيه الهيئات الثقافية من أداء دورها المنوط بها، وغدت مجرد هيئات للسفريات والرحلات، وتكريس أسماء معينة على أنها الشاعرة والناقدة والأديبة...، زهرة زيراوي تفتح للأدباء الشباب بيتها وتجلسهم إلى جانب كبار المبدعين، فيرخون العنان لقرائحهم دون مركب نقص. وتشكر الأدباء والمفكرين الكبار نيابة عن الوطن، الذي نسيهم أو تناساهم، فتعمل على تكريمهم والاحتفاء بهم وبمنجزاتهم. كل هذا من مالها الخاص، دون أن تلجأ لهيئة لطلب دعم، أو لدعوة "كراء" صحيفة مرموقة لتغطية صالونها. إنها إنسانة أورثها حاتم كرمه أو بالأحرى تجاوزته، فلن أعجب إن ضرب بها أحد المثل وقال "أكرم من زهرة"، ولن أتوانى إذا ما طلب مني أن أقدم مرادفا للكرم أو نكران الذات، في تقديم "زهرة زيراوي".
تصر السيدة زهرة زيراوي على مقاومة وطأة المرض، سواء في مقامها بالمغرب أو بلجيكا؛ فهمها الوحيد هو إحياء الثقافة، وإحلالها المكانة اللائقة بها، وربط جسور التواصل بين الأجيال والأقطار، فالإبداع عندها وطن يذوب الاختلافات، ويجعل الكل منصهرا في بوثقته، متساكنا متراحما في شعابه. فلا غرابة إذا لما كان هذا ديدنها أن يستضيف صالونها أدباء ومفكرين من جنسيات مختلفة.
زهرة زيراوي وحدها السيدة التي تلد كل يوم، إناثا وذكورا، فكل من دخل قلبها صار آمنا، يفترش داخلها وتغطيه أمومتها ويرتوي من أوردتها، هي ذي السيدة زهرة زيراوي وحدها يتساوى عندها أبناؤها البيولوجيون بأبناء وهبهم لها شغف الحرف، فلا تمل من سقيهم بيديها وبدعواتها؛ إذ لا يجد من دخل قلبها فرقا بينه وبين أبنائها الذين حملتهم في بطنها تسعة أشهر.
نعم تلد كل يوم، فلا يكاد بيتها يخلو من الزائرين. ما إن تتواصل معها عبر الهاتف، أو البريد الإلكتروني، حتى تفتح لك قلبها وتناديك بـ"ولدي"، بل الأكثر من هذا هي المبادرة دوما، كلما اقتنت مؤلفا أو طالعت مقالا وحاز إعجابها سارعت للبحث عن معلومات الاتصال في الشابكة أو عن طريق صديق، لتتصل بصاحبه مهنئة داعية إياه إلى بيتها وقلبها.
إنها المرأة التي لا تيأس أبدا –ماشاء الله- ولادة وعطاء، ما تزال تصر على حرث الأرض اليباب، وما تزال تصر على الولادة رغم الوجع الممض من بعض السهام، زاهدة في امتلاك منزل أو سيارة،، نادرة حياتها للانتصار لإنسانية الإنسان بإبداعاتها أو لقاءاتها الثقافية.
أطال الله عمرك يا سيدتي، فأنت "الوطن" وبين أحضانك نغتال اليأس، فلا يجد في مجلسنا مقعدا، فمنك نستمد تفاؤل الإرادة، فاسلمي زهرة متضوعة طيبة وسخاء... وإنك لفي سويداء قلوبنا أبدا وإن شاب الغراب.
أيا وطني متى تقف لزهرة موفها التبجيلا، وتنحني لتقبل يدها، وتضمها إليك عل جراح بعدك تندمل؟
زهرة يا زهرة، لن ينبت الوطن زهرة مثلك. خلقنا جميعا يا سيدتي من سلالة من طين، لكن من أي طين ولدت أنت يا سيدتي؟ !
أوقع لك في الختام "شيك" محبة على بياض يا سيدتي، فتقبليه مني قبولا حسنا، وإني مهما قلت في حقك لمقصر، ولعاجز عن البوح بما أكتنزه لك من محبة وتقدير عميقين.

ليست هناك تعليقات: