اشعاع
استدعت
النيابة أحد الضباط المعروف عنهم الذكاء والنشاط للتحري عن قضية شائكة بعدما تقدم أحد
المواطنين البسطاء ببلاغ يتهم فيه وزارة الداخلية بقتل نجله المجند بقوات الأمن
المركزي، وذكر البلاغ أن ابنه توفي نتيجة تعرضه لاشعاعات فتاكة أثناء تنفيذه أحد
المهمات التي كلف بها، وأرفق بالمحضر بصورة لنعي وزارة الداخلية في جريدة الأهرام
تحت عنوان شهداء الواجب.
قام الضابط
باستدعاء صاحب البلاغ وعرف منه أن ابنه المجند في قوات الأمن المركزي اتصل به آخر
أيامه من أمام أحد الجامعات وقال أنهم كانوا يحرسون صندوقاً يحتوي على اشعاعات
ضارة وأنه وزملاؤه أحسوا بالغثيان بعدها لمدة طويلة، ثم بدأت عظامهم في التكسر
وأخبرهم أحد الأطباء أن الأشعة هي السبب في كل ما حدث، وفي صباح اليوم التالي علم
بوفاة ابنه، وعند تغسيل جثة ابنه لاحظ ليونة كبيرة في عظام ولده، وشوهدت بقع سوداء
تنتشر في كل أجزاء جسمه، ولهذا تقدم بالبلاغ.
بدا الضابط
تحرياته بالجامعة وتوصل إلى أن أحد السفارت الأجنبية بجاردن سيتي كان لديها جهاز
أشعة يعمل بمادة السيزيوم النشطة، للكشف عما يوجد بحقائب المترددين على السفارة،
وبعد مدة من الاستخدام تعطل غالق حاوية الأشعة، حاول المهندسون إصلاح الجهاز في
مكانه فلم يمكنهم إصلاحه، وتبين لهم ضرورة نقله إلى بلدهم ليتم إصلاحه هناك بصورة
سليمة، ووجدوا أن تكلفة نقله باحتياطات الأمن المطلوبة ستفوق قيمة الجهاز نفسه،
فقرروا إهداء المادة المشعة إلى أحد الهيئات العلمية المصرية وعرضوا الأمر على عدة
جامعات رفضت جميعها خوفاً من المسئولية وخصوصاً أن مادة السيزيوم عالية الاشعاع،
وتجرأت أحد الكليات وقبلت الهدية، تم نقل حاوية السيزيوم في صندوق مبطن بمادة
الرصاص الواقي من الإشعاع بواسطة روبوت آلي، وفي الجامعة تم بناء غرفة مبطنة
بالرصاص في الأرض الفارغة أمام الكلية داخل الجامعة لحين الاستفادة من هذه المادة
الغالية في إجراء التجارب على الاشعاع.
بعد عدة
شهور قام سافر العميد إلى الخارج في مهمة علمية، هلَّ موسم الامتحانات وقام
العاملون بتجهيز المكان وهموا بنصب خيام كبيرة أمام مبنى الكلية داخل الجامعة،
فوجدوا الغرفة وسط الأرض تقف عائقاً أمامهم، فأمر رئيس لجان الامتحانات بإزالة تلك
الغرفة وإخراج ما بها ووضعه بالمخازن، تم هدم الغرفة ونقلوا الصندوق ووضعوه أمام
باب الكلية، وسارت الأمور على ما يرام يأتي الطلاب في الصباح ويجلسون عليه
ليراجعوا المواد الدراسية ويتناولون المقرمشات و المشروبات الغازية، وبعد
الامتحانات يتحلقون حول الصندوق ليراجعوا إجاباتهم، فتح العاملون الصندوق والتقطوا
قوالب الرصاص المبطن للصندوق وباعوه لأحد تجار الخردة ليقوموا بصهره وبيعه، فأصبح
الصندوق بلا أي عازل للاشعاع والتقط الطلاب والعاملون الذين يمرون بجوار هذا
الصندوق نصيبهم من الاشعاع و لا أحد يدري ماذا حدث لهم وماذا فعل الإشعاع بهم.
عاد العميد
من سفره ففوجئ باختفاء غرفة تخزين المادة المشعة، فسأل عنها فأخبروه بإزالتها
لتجهيز المكان للامتحانات ونقل الصندوق، وعند فتحه لم يجد به قوالب الرصاص فأسرع
إبلاغ وزارة الداخلية لخطورة الوضع، تم إبلاغ السلطات العليا بالأمر وكلفت الداخلية
بعض المجندين من قوات الأمن المركزي بحمل الصندوق الذي كان غالقه معطلاً ومادة
السيزيوم تتساقط منه على الأرض ووضعه في مكان بعيد وسط الأراضي الزراعية المجاورة
للجامعة، وفرض حراسة عليه ومنع الاقتراب منه، وقاموا برش بعض الماء والتراب على
مادة السيزيوم المتساقطة على الأرض.
بالصدفة عرف
أحد الصحفيين ما حدث، فنشرت جريدة المعارضة الخبر في صفحتها الأولى فقامت قيامة
الدنيا وأمر رئيس الجامعة المعيدون بارتداء المعاطف البيضاء وحمل أجهزة قياس
الإشعاع (الجيجر) بعد وضع مقياسه على أعلى تدريج، بحيث لا يتعدى المؤشر الصفر
بقليل في وجود الاشعاع، وصورت كاميرات التلفزيون ووسائل الإعلام جهاز قياس الاشعاع
على وضع قريب من الصفر وأوهموهم أن كمية الإشعاع لم تتعدى الخط الأحمر أي أنها في
الحد المأمون، وانتهت القصة أمام الرأي العام، وزعمت وسائل الإعلام أن الموضوع هو
إثارة صحفية ليس إلا، وفي صفحة الوفيات كان هناك نعياً لم ينتبه أحد إليه، وزير
الداخلية ينعي وفاة مجندين من الأمن المركزي توفيا أثناء أداء الواجب، وما لم
يبينه النعي كيف وأين، فلقد توفي المجندان اللذان قاما بنقل الصندوق، وعند تشريح
جثثهم تبين وجود ثقوب في عظامهم بسبب الجرعة الإشعاعية العالية، ولا يعلم أحد إلا
الله ما هي الأضرار التي أصيب بها زملائهم الذين كانوا يحرسون الصندوق الذي يصدر
منه الإشعاع دون حائل، ولا أحد يدري ما الذي أصاب تجار الخردة عند صهرهم للرصاص
الذي أصبح مشعاً، وما الذي أصاب الطلاب والطالبات الذين كانوا يجلسون على الصندوق
ويحلمون بالمستقبل القريب والبيت السعيد.
رفع الضابط
تحرياته إلى النيابة فأمرت بحفظ التحقيق، وما زال الجرم مستمراً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق