المثقفون والسلطة
فؤاد قنديل
في بلادنا تتحدد علاقة المثقفين بالسلطة بناء على طبيعة انشغالهم بقضايا أمتهم ، وكيفية النظر إليها ومدى استعدادهم للدفاع عنها .. هذه االفئة الأم تضم طائفة كبيرة من المثقفين الذين يستشعرون من البداية أن الثقافة رسالة إنسانية بالدرجة الأولى ، أي أن جانبا رئيسيا منها مجتمعي ينصرف إلى النظر في شؤون المجتمع السياسية والإنسانية، ولا يكتفي بالانعزال داخل بوتقة الإبداع الأدبي والفني والفكري متخذا سمت الصوفي وكلما لاحظ هؤلاء المثقفون تقاعسا عن تلبية احتياجات الجماهير تصاعدت نبرات الاحتجاج الذي لا يحتمله النظام عادة، وسرعان ما يضيق بالغضب المعلن الذي يهدد الكراسي، فتحتد المواقف وتلتهب لغة الخطاب، وفي المقابل تبدأ الأيدي الخفية في توجيه بعض الضربات بغرض الردع.. يضطر المثقفون إلى التحدي انطلاقا من شرف الرسالة ونبل المقصد واعتمادا على اتساع آفاق النشر والتأثير، مما يضطر السلطة حينئذ إلى كشف الوجه القبيح فتطلق كلابها الرسمية التي تعلمت كراهية أصحاب الرأي، أو على الأقل كل من يخالف السادة شاغلي الكراسي، أرباب الكلمة الأولى والأخيرة
لا يبدأ الاختلاف الحاد و المواجهات بين الطرفين إذن إلا مع اللحظات الأولي التي تشرع فيها السلطة في اتباع أساليب عنيفة عندما تلحظ علو صوت المعارضة ، ثم تتصاعد الحساسية البوليسية لدي السلطة التي كلما استبدت خافت وشعرت رغم قوتها بالهشاشة ، وأصبحت كل صيحة عليهم تدفعهم للاعتقاد أن المثقفين هم العدو .
يتحمل بعض المثقفين في جَلد كل ألوان الضغط والقهر، ولا يصبر آخرون، وينتج عن التفاوت في ردود الأفعال مرحلة كارتخاء الحبل بين طرفين، حيث يرتد الجميع إلى الذوات المنكوبة بالمواقف التعسة للسلطة، ويغرقون في الأسئلة المصيرية والمنطقية...ما السر في غياب الرؤية وتراجع الضمير وتحجر القلوب إزاء مطالب المحرومين؟ ما السر في هذا التمسك المقيت بالباطل والتنكر للمبادئ المعلنة سلفا؟ ما مبرر تجاهل التاريخ ودروسه؟ وهكذا تكشف هذه المرحلة غطاءها لينقسم الجميع تقريبا إلى أربع فرق.
1 - فرقة تقرر التواؤم مع السلطة، ابتعادا عن التهديد والخطر من ناحية، وطلبا للمنفعة من ناحية أخرى،والمنفعة كما لا يخفي مائدتها شهية وتتنوع عليها الطعوم اللذيذة والنعم والأموال والمناصب والسفر والوظائف للأقارب والأصدقاء فضلا عن إعطاء الضوء الأخضر لوسائل الإعلام ورقية وصوتية ومرئية لتلميع من اختاروا المنفعة والكف عن مواصلة الحروب ، على أن العزم على السير في درب المهادنة والبعد عن التنديد بالسلطة وإدمان التعرض لها بأقذع الاتهامات يتطلب قدرا كبيرا من المرونة لإجراء عملية التحول من حالة إلى نقيضها، وترويض النفس على قبول ما يحدث من فساد، وابتلاع النفاق الذي يبذله بسخاء المنتفعون نحو أصحاب المناصب أملا في الرضا السامي، كما أن ذلك يقتضي توفر وجوه مكشوفة لا يندى لها جبين حتى تستطيع مواجهة اللائمين من قدامى المحاربين ، وهذا يعنى بالطبع أن المثقفين ليسوا جميعا قادرين على هذا التحول خاصة إذا كانوا قد رضعوا المبادئ الوطنية منذ نعومة الأظفار ، وهناك منهم من يتحول بمنتهي الليونة واليسر دون أن يهتز له جفن فمن هؤلاء من كان مناضلا حتى أمس فإذا طلع عليه الصباح وكان قد اقتنع بالوعود الوردية فإنه يوجه بوصلته فورا نحو السلطة ويمزق مقالا كان قد أعده ضده ليكتب آخر لا يمدحها فيه ولكن يبين الظروف الصعبة التي تواجهها واضطرت معها أن تلجأ لما لجأت إليه رحمة بالبلاد والعباد ، وهكذا يتم التحول الذي يشهد نقلة نوعية ملموسة في المقال التالي أو الحلقة التالية من برنامجه التليفزيوني..
2 - فرقة متعففة لم تتأثر وطنيتها لكنها بسبب إحساسها بشراسة السلطة وضخامة القلعة البشرية التي تحصنها ترى ألا أمل في مقاومة هذا الكيان المستبد ، فيقرر أبناؤها الانكفاء على الذات، والإقبال على النشاط الشخصي الآمن، يتفرغون للقراءة والكتابة الأدبية والفكرية ويمارسون الأعمال الفنية الخالصة، حريصين على الاختباء وراء فكرة أن التاريخ لن يَحْتسب إلا ما أنجزوا وصنفوا ووضعوا من الكتب العلمية والأدبية، عازمين على قطع الصلة بكل ما ينتمي للسلطة ورفض الاستجابة لها حتى ولو كانت دعوة للتكريم أو التقدير.
3 - فرقة قررت الجمع بين المنزلتين أو المصلحتين، والأفضل أن نقول بين المنفعتين، فهم يرون أنه لا بأس من الآكل على كل الموائد، وماذا في أن يمالئوا السلطة فينالوا نصيبا من الكعكة العامرة، وأن يجاروا الرافضين لها، فقد يكتسبون الصيت بوصفهم من المناضلين، وقد يلحقون قطار التاريخ ولو في عربته الأخيرة، أو على الأقل حتى لا يُتهمون ببيع القضية، ويتطلب البقاء في هذه الفرقة الالتزام بقوانينها ومن ذلك مواصلة القفز فوق الحبال والأسوار، ومحاولة تسريب مواقف متميعة، ونشر كتابات يمينية ويسارية في آن، دينية ومتحررة في الوقت ذاته، لأن الرغبة في التربح تسكن القلوب وتشغل الرؤوس، وتحدد أطر التفكير على حساب الصدق والكرامة.
4 - فرقة تشبثت بالنضال وأبت أن تتخلي عن المجتمع وقضاياه وعزم رجالها على الاستمرار في المقاومة ولو وضعوا الشمس عن يمينهم والقمر على اليسار ما تحولوا ولا تبدلوا مهما تعرضوا لصنوف الإرهاب والتعذيب أو ألوان الإغراء.
أتباع هذه الفرقة يعرفون جيدا طريقهم ويدركون أهمية الدور التاريخي لكفاحهم ضد أطماع السلطة وأفكارها المتخلفة وممارساتها المشبوهة التي تكشف عن التبعية وتجاهل القضايا القومية. ورموز هذه الفرقة ورجالها يتميزون بقدر كبير من التفاؤل ولا يفقدون الأمل لأن عليهم أن يتحملوا الآلام والمعارك الدنبئة ومطاردة أرزاقهم وعليهم أن يقبضوا على الجمر من أجل الدفاع عن حقوق الشعب وآماله في غد أفضل تتحقق فيه كل طموحات الشعب في حياة كريمة وعادلة ونظيفة وآمنة تتوفر فيها كل قيم الحق والخير والجمال والتسامح والسلام..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق