2013/09/09

أنا.. وشاعر.. وقصيدة / ذكريات شخصية جدا (3) بقلم: أحمد محسن العمودي



أنا.. وشاعر.. وقصيدة / ذكريات شخصية جدا (3)
أحمد محسن العمودي
الطائر الجريح..
إبراهيم ناجي
( 1898- 1953)

أول مرة يمرّ بي اسم (إبراهيم ناجي) كان في مرحلة الدراسة الإعدادية، وذلك حين كان مقرر علينا بضعة أبيات له في منهجنا الدراسي في مادة النصوص.  فسأَلَنَا المدرس -الذي كنت أمقته، لثقل حضوره، وأسلوبه الغبي في التدريس، فلم يكن يفعل أكثر من أنه يملأ (السبورة) بنفس ما هو مكتوب في الكتاب، ويظل يردده علينا، بلا زيادة ولا نقصان، أي أنه كان عبارة عن (بغبغان) ونحن من وراءه سِرْبُ بغبغانات! فكان أن سأَلَنَا (البغبغان).. عفوا قصدي المدرس، عن قصيدة شهيرة مغناة لنفس هذا الشاعر، فلم يعرفها ويجيب سوى زميلي (وائل) المصري والذي يجلس بجواري.. فقال هي قصيدة الأطلال وغنتها أم كلثوم، فأثنى عليه المدرس وعلى القصيدة التي وصفها بالرائعة.
ما شدني في الأمر برمته.. ليس ثناء المدرس على القصيدة، لأن كرهي له.. بالتأكيد قد جعلني أكره كل ما يثني عليه، بل شدني أن صاحبي يعرف ذلك عن الشاعر من دوني، وأنا،  الذي كنتُ قد بدأت أتحسس أولى خطواتي في القراءة الشعرية خارج حدود المنهج الدراسي، لا أعرف لا الشاعر ولا قصيدته.. بل ولست وقتها حتى من محبي الإستماع لأم كلثوم!  وكنت أحمل رأيئا أوليا  كون أغانيها مملة وثقيلة، ولا تصلح لغير وقت النوم، لانها خير منوم لشدة بطء ألحانها ومللها! إذْ لم أحاول الإستماع بجدية لها، ومرت تلك الحادثة دون التسبب في ولوجي لعالم إبراهيم ناجي! لكن بقي لصيقا بذاكرتي اسمه وأطلاله المغناة.

بعدها بفترة ليست بالطويلة، كنتُ راكبا في السيارة، بجانب بن عمي وزوج كبرى أخواتي، وهو يدير في جهاز التسجيل، شريط أغنية (الأطلال).. بصوت (طاهر مصطفى)، وهو الفتى الصغير، الذي فاجأ صوته "الرائع" الجميع في ذلك الوقت وهو يعيد غناء بعض أغاني أم كلثوم.
وبدون أن أحاول الإستماع أو الإنصات، قلت له فورا:
- يا(بو رياض) إيش عاجبك في هذي الأغاني إللي تجيب الملل والنوم؟!!
فرد متبسما:
-      كيف تكون تحب الشعر، وتقول هذا الكلام عن أغاني أم كلثوم والأطلال؟!!
وكان (طاهر مصطفى) لحظتها يردد -تحديدا- من الأطلال:
"هل رأى الحب سكارى مثلنا ** كم بنينا من خيال حولنا
ومشينا في طريق مضمر ** تثب الفرحة فيه قبلنا
وظحكنا ظحك طفلين معا ** وعدونا فسبقنا ظلنا"
فأخذ (رحيمي) –أي زوج أختي- يردد الأبيات ويلقيها، دون اللحن، على مسامعي لأتبيَّنها، بشكل يحاول فيه أن يظهر جمال المعنى وروعته..
فأخذت أتلقَّاها منه بإنصات واهتمام، وصوت طاهر مصطفى، في خلفية اللحظة، يغنيها.. وأعجبني المعنى الذي في المقطع تماااما، وخطفت بصري وذهني وبصيرتي تلك الصورة الشعرية في عجز البيت الأخير منه تحديدا:
"وعدونا.. فسبقنا ظلنا"
فسبقنا ظلنا.. أي لقطة شعرية هذه التي كان بلوغها أمرا شعريا بحتا لـ(سكارى) الحب، والظحك كطفلين!!
حقيقة، أُخِذْتُ بتلك اللقطة الشعرية.. وأنا الذي لا أزال أتحسس -بخجل- آثار السابقين فيه.
أوصلني إلى المنزل، فاستأذنته.. وأخذت شريط الأطلال معي..
وما إن هدأ البيت في الليل، إنفردت بنفسي وجهاز التسجيل بإحدى الغرف، وأخذت أسمع أغنية الأطلال كاملة للمرة الأولى في حياتي المديدة بإذن الله.
لا أدري كيف أصف الأمر ليلتها.. ولكني كنت كمن جلس منفردا، بمن تمناها عمرا، في غفلة كاملة عن أهل الأرض جميعا، ففعل الأفاعيل.. طبعا دون أن يكون الشيطان ثالثهما!

أذكر ليلتها أني كتبت القصيدة المغناة في دفتري كاملة.. مستخدما زرار الإيقاف الخاص بجهاز التسجيل، بين كل بيت وبيت حتى أتمكن من كتابتها..
ثم حفظتها كاملة، وهي في حدود 30 بيتا مغناة، وكنت أحسبها تشكل القصيدة كاملة، وعرفت أن الأمر ليس كذلك لاحقا.
لم يمضي وقت طويل، بل هي بضعة أيام وكنت قد أقتنيت المجموعة الكاملة لأشعار (إبراهيم ناجي) من مكتبة المأمون التي أصبحت (كشكا) صغيرا للكتب بعد أن كانت دهاليزها ورفوفها تشكل متاهة للمرتادين!
وفتحت الديوان أول ما انفردت به، على قصيدة الأطلال طبعا، لأفاجأ أنها طويلة جدا، وأن أم كلثوم لم تغني سوى أجزاء منتقاة منها. فهجمتُ على القصيدة حتى آخر بيت فيها، ومن ثم نبشت وعلَّمت على كل الأبيات التي غنتها أم كلثوم من النص الكامل، وأقارنها جماليا بما لم تغنه منها.. واكتشفت أن الرباعية السابقة الذكر من الأغنية:
"هل رأى الحب سكارى مثلنا...الخ
ليست من قصيدة الأطلال أصلا، بل تم ضمها إلى الأغنية من قصيدة أخرى لإبراهيم ناجي.
وكان ذلك أول فتح بيني وبين إبراهيم ناجي، فسامرت ديوانه ليال وليال.

كان في آخر الكتاب، سيرة ذاتية مختصرة لناجي، وبعض من ملامح شخصيته ومراحل حياته، وكذلك ذكر لبعض ممن أحبَّ وكتب فيهن شعرا، وكان قد أحب كثيرا، رحمه الله.
عُقْبالي يا رب.. ههه
لفتني هنا، آخر من أحبها إبراهيم ناجي -والتي أثَّر فيها وأثَّرت فيه كثيرا- في آخر طور من حياته الشعرية والعُمريَّة..
تدعى (زازا)..
وهي شابة أصغر منه بكثير، ومع ذلك تحابا، وكان أشد ما يربط بينهما الأدب والشعر، فهام بها ناجي -في كِبره- "إلى حدّ أنها كانت كل همّه وشغله في أكثر يومه من مطلعه إلى مطلع اليوم الذي يليه".. كما قال صديقه الشاعر (صالح جودت)، وغدت ملهمته لمعظم أشعاره في تلك المرحلة الأخيرة من عمره..
فطربتُ لسيمياء ذلك الحب..
حب و وَصْلٌ ملئ بالشعر والأدب.. "إيه الحلاوة دي".
ورسَّخ ذلك في ذهني، بكل بساطة وسذاجة ذلك الوقت، أن الشاعر لابد له من حبيبة وملهمة كي يكتب شعرا حقيقيا..
فأصبحتُ بعدها أبحث فيمن حولي من بنات الأقارب و الجيران عمن تصلح أن تكون (زازا) لي، وحبيبة وملهمة.. وبالتالي تبادلني ذلك الهيام، لأكتب شعرا مثل (ناجي)!!
فأحببت في تلك المُرَاهَقة -بشكل منفرد وجميل، أي من طرف واحد خفي- (ليلى).. ثم (فاطمة).. وكذلك (هدى).. وغيرهن ممن لم أعد أذكرهن...
(قال يعني الولد كان "دون جوان" وقته).
وكل واحدة منهن كانت جميلة بطريقة ما في عيني، وأحدثت في داخل فؤادي الخفيف وقتها.. بعضا من الرفرفة والتهويمات الحسية -الساذجة ربما- لكنها كانت جديدة عليَّ آنَئِذ.
إيييييه.. أيااام...

والجميع ذهب، كلٌ إلى قدره الخاص، ورُغم أني لم أحاول أن أتتبع أو أسأل عن مآل أيٍّ منهن، بعد كل هذه السنين، إلا أنه يراودني يقين بأن كل منهن قد أصبحت زروجة وأمَّا.. ربما لنصف دزِّينة من الأطفال، وجمال كل (زازا) منهنّ قد صار أطلال كأطلالِ ناجي.. بعد أن أُصِبْنَ باالإنبعاجات والترهلات التي تشتهر بها المرأة المشرقية بعد الزواج والأولاد!

ماعلينا...

وفي أثناء قراءاتي الكثيرة للمجموعة الكاملة، وقعت على تلك القصيدة من آخر ديوان صدر لناجي بعد وفاته، والذي تم وسْمه باسم هذه القصيدة الرائعة، وهي: "الطائر الجريح"..
كتبها في آخر حبيباته والأكثر تأثيرا عليه.. وهي هذه  الـــ(زازا)
وذكر اسمها تصريحا في القصيدة المليئة بكل أسباب الجمال الشعري الذي كنت أعرفه حتى ذلك الوقت، فغدت واحدة من أروع ما قرأتُ..
وتجلّى فيها ناجي بكل الروعة والشجن.. منذ المطلع القوي، الذي يأخذك بعيدا ببلاغته..
"أيُّ جوادٍ قد كبا ** وأيُّ سيفٍ قد نبا" .

وحتى باقي سياق القصيدة وهو يصور (حزنه) الشفيف الصادق الذي عُرفت به كل اشعاره.. بعكس الكثير من مجالية وأتباع نفس المدرسة الشعرية (أبوللو) التي ينتمي إليها، والذين تشعر بكثير من الافتعال والمبالغة (الزُخْرفيَّة) في الرقَّة والخضوع والإنكسار ناحية الحبيب!!
ولكن (حزن) ناجي في هذه القصيدة كان بطعم إحساسه  بـ(آخر العمر):
"لـمَّا رأتْ فيَّا شحوب ** الشمسِ مالتْ مغربا"...

ومليئ بالحكمة.. والعشق الروحاني البعيد عن ملذات الجسد الذي لم يكن له من شعر ناجي أي نصيب.
رحم الله ناجي الطبيب الشاعر.. والذي أذكر أن الدكتور (طه حسين) كتب عنه نقدا مُتعالي بعد صدور أول مجموعة شعرية له، ختمه بقوله: مشكلة ناجي أنه شاعر بين الأطباء، وطبيب بين الشعراء!
وذهب النقد الذي لم يكن موفقا.. وبقي الشعر والشاعر في الوجدان.

أخيرا أقول، أني أطلب من أي شخص يعرف الأخ (الدندراوي محجوب) وهو من السودان الحبيب.. أن يبلغني عن مكانه على وجه السرعة!
فالدندراوي هذا كان زميلي في مقاعد الدرس في صفوف الثانوية، وحصل أن أعرته هذه المجموعة الكاملة من أشعار إبراهيم ناجي.. وفي المقابل أعارني ديوان (أشهد أن لا امرأة إلا أنتِ) لنزار قباني.. والذي كانت أشعاره ودواوينه ممنوعة من دخول السعودية تماما في ذلك الوقت. لكن الطريف في الأمر، أن صديقي (الدندراوي) –بعد الاستعارة المتبادلة للكتب بيننا- لم يحضر إطلاقا للصف!! لنفاجأ بعدها بأسبوع أنه قد ترك المدرسة نهائيا وانتقل إلى حيث لا يعلم إلا الله.
"إذا يبدو أن في الأمر خِدعة" ههههه
وبناءً عليه كان هذا "البلاغ" المتأخر سنينا لا يعلمها إلا الله أيضا.



مقطع من القصيدة..

(الطائر الجريح)
يقول إبراهيم ناجي:
أيُّ جوادٍ قد كبا وأيُّ سيفٍ قد نَبَا
تعجَّبتْ (زازا) وقد حقَّ لها أن تعجبا
لمَّا رأتْ فيَّ شحوب الشمسِ مالت مغربا
وهي التي زانتْ مشيبي بأكاليل الصِّبا
وهي التي قد علّمتْني حين ألقى النُّوبا
كيف أُداري النابَ إن عضَّ وأخفي المخلبا
***
لاقيتُها أرقصُ بِشراً وأُغني طربا
وهي التي تهتك سِتْرَ القلبِ مهما انتقبا
لا مغلقاً تجهله يوماً ولا مُغَيّبا
في فطنةٍ تومضُ حتّى تستشفَّ ما خبا
رأتْ وراء الصدرِ طيراً قلِقاً مضطربا
في قفصٍ يحلمُ بالأفقِ فيلقى القُضُبا
إنَّ زماناً قد عفا، وإنَّ عمراً ذهبا
وصيّرتْهُ طارقاتُ السقمِ.. وَقراً متعبا
ورنَّقتْ موردَهُ، أنّى له أن يَعذُبا؟

ليست هناك تعليقات: