2013/09/09

رحلة بلا عودة .. بقلم: محمد نجيب مطر

رحلة بلا عودة 
محمد نجيب مطر
 انطلق نحو طائرته الخاصة، أدار محركاتها وانطلق بسرعة لكي يمكنه الوصول في الموعد، أحس ببعض الخوف من الفشل، سيواجه مقاومة شديدة من منافسيه هذه المرة، عليه أن يقنعهم بجدوى مشروعه، نعم إنهم يملكون حضارة قد لا تكون أدواتها متوفرة في بلده، ولكن الإنسان هو الإنسان أينما حل وارتحل، هو خليفة الله في الأرض، ولهذا تتجلى فيه عظمته، سواء كان في إفريقيا أو أوروبا، الموعد بعد ساعتين والمسافة لا تستغرق أكثر من ساعة ونصف، وسيهبط بطائرته أمام مبنى الاجتماعات مباشرة، كانت عوادم السيارات والغبار الذي تحمله الرياح تؤثر على رؤيته فآثر الارتفاع بالطائرة إلى مستويات أعلى، صادفته بعض المشاكل بسبب انخفاض ضغط الهواء في الارتفاعات العالية، وتكاثر السحب والضباب، تكونت عاصفة متوسطة فانعدمت لديه الرؤية لبعض الوقت وشاهد سحب يميل لونها إلى اللون الأزرق، ولكنه اعتمد على الخرائط الجوية المخزنة في حاسب الطائرة، تعرض لموجات من الرعد والبرق فهدأ من سرعته وهبط إلى مستويات قريبة من سطح الأرض، توقفت أجهزة القياس والتوجيه الكهربية في الطائرة لفترة قبل أن تعود للعمل، فاعتقد أن ذلك بسبب البرق، عندما بدأت الأرض في الظهور رأى الأبنية عالية بأشكال لم يتعودها من قبل، ارتفاعات شاهقة برؤوس مدببة وكأنها صواريخ منصوبة للانطلاق نحو الفضاء، نظر إلى أجهزة القياس وحدد موقعه، إنه في نفس المكان الذي اعتاد الهبوط فيه، ما الذي تغير في الرحلة؟ بحث عن مكان للهبوط فوجد مساحة خالية قريبة من مكان الاجتماع المزعوم، ولكنه وجد جمع غفير من البشر حول تلك الساحة، هبط في المكان فوجد الجميع ينظر إليه وإلى طائرته بدهشة وحيرة، وتصاعد التصفيق الحار فجأة وهو يهبط من طائرته واندفع الجميع نحوه في جنون. أخذ الحاضرون يرحبون به في حماسة، ويأخذون معه الصور التذكارية، وكأنه أحد الأبطال الرياضيين أو الفنانين العائدين بجائزة دولية، وكما انقضوا عليه في حماس انفضوا من حوله في سرعة، وذهب كل واحد إلى حال سبيله وكأن شيئاً لم يكن. كانت المدينة يغلفها هواء يميل إلى الزرقة، تنبعث فيه رائحة الأوزون التي تنبعث من الأرض بعد هطول الأمطار عليها فتبعث على النشاط والحيوية، بحث عن مكان الاجتماع فلم يهتدي إليه حاول أن يسأل البعض عن العنوان فكانوا يحدقون فيه طويلاً ويدققون النظر في ملابسه ثم ينصرفون وكأنهم لا يفهمون ما يقول. دخل إلى أحد الاستراحات ليأخذ مشروباً ويتدبر أمره، أحضرت إليه فتاة رشيقة القائمة ليختار منها مشروبه المفضل، فلم يجد أي شئ له معنى، فاختار بالصدفة مشروباً وعندما تذوقه وجد له طعماً مذهلاً بعث في نفسه السرور والانشراح، ذهب ليدفع ثمن المشروب، وعندما أعطى النقود للعامل نظر إليها بشدة وقلبها، وصرخ في انفعال، تجمع الناس حوله ونظروا إليه بريبة، فظن أنهم يريدون المزيد، فأخرج لهم المزيد من الدولارات، فدفعوه إلى الخارج دفعاً وكأنه مجنون أو مجزوم. لم يفهم شيئاً مما يحدث حوله، صادف أحد الساعات الكبيرة في ميدان المدينة فوجد الوقت متقدماً بضع دقائق عن ساعته، ولكن ما أزعجه وسبب له الحيرة أن التاريخ 30 مارس 2513، لقد انطلق من مدينته في الثلاثين من مارس عام 2013، هل استغرقت رحلته خمسمائة عام للوصول. كاد أن يقع من هول المفاجأة، فوجد من يتلقاه برفق ويسأله عما به، التفت فوجد العاملة التي أحضرت له القائمة والمشروب في الاستراحة : هل أنت على ما يرام؟ لقد رأيتك في الاستراحة ولم أدرِ لم دفعوك للخروج بتلك القسوة غير المعتادة في مدينتنا، هل تحب أن تأتي معي لتأخذ قسطاً من الراحة، فلبى دعوتها ووجدها فرصة سانحة لكي يستفهم منها عما حدث له. أحضرت له طعاماً ممتازاً وجلست تطيب خاطره وتسأله إن كان يحتاج إلى طبيب فشكرها، وأخبرها أنه انطلق من مدينته منذ خمسمائة عام ووصل اليوم فكيف يكون ذلك؟ فسألته هل أتيت إلى هنا بالقطار أم بالحافلة، فقال لها : بالطائرة؟ فاستفهمت عن شركة الطيران، فأخبرها أنه قادم على طائرته الخاصة، فسألته هل واجهتك غيوم زرقاء وبرق ورعد وأمطار وتعطل في أجهزة القياس الحاسوبية، فهز رأسه بالإيجاب، فقالت له ربما مررت بأحد الفجوات الزمنية، أخذته الدهشة وسألها عن معنى ما تقول، فأخبرته أنه في ظروف معينة لا تحدث إلا نادراً تكون حركة الأرض بالنسبة للكواكب و الشمس و المجموعة الشمسية برمتها في حركتها داخل المجرة، و حركة المجرة نفسها مع المجرات الأخرى مناسبة لحدوث فجوة زمنية تأخذك من زمن إلى زمن، فنحن نعيش في أكوان متوازية، وأنت انتقلت من كون إلى كون، فعبر لها عن عدم اقتناعه لما تقول لأنها تخيلات لا تروق له و لا ترقى إلى الحقائق العلمية، ولكنه سألها : وهل من طريق إلى العودة، فأخبرته أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تتجمع تلك الظروف الفلكية مرة أخرى بنفس الطريقة أو بطريقة أخرى قبل مرور قرن أو أكثر، وربما تأخذك الفجوة الزمنية الجديدة إلى زمن جديد وكون جديد لا تعرف عنه شيئاً. توجه نحو الطائرة وأدار محركاتها وانطلق لا يلوي على شئ وهناك صافحها وعرض عليها العودة معه والزواج منها، فأخبرته أنها ليست آدمية، فهي روبوت يحاكي جسم الإنسان، ولكن تكونت له عواطف وأحاسيس الإنسان بفعل برامج خبرة تراكمية، فعبر لها عن دهشته لأنه استمتع معها بكل دقيقة جلسها معها، ولم يشعر لحظة أنها مجرد ماكينة، فأخبرته أنها مبرمجة على ذلك ولكنها تسعد بإسعاد الآخرين، فأشار إليها بيديه وانطلق إلى حيث لا يدري.

ليست هناك تعليقات: