الصرخة
  محمد نجيب مطر

ذات يوم وبينما يجلس في حديقة الجامعة في مكانه المعهود مع أحد زملائه على العشب الأخضر وبين شجيرات صغيرة سمعا صرخة نسائية حادة، فانطلقا إلى المكان التي اطلقت منه تلك الصرخة، فوجدا زميلة لهما في نفس الكلية ممددة على ظهرها في حالة تشنج ظاهرة وليس معها أحد، يداها ممدوتان كأنهما قطعتان من الخشب البارد، وجسدها مستقيم ومشدود كأنه قطعة واحدة، فحملوها وكأنها لوح من الخشب الذي لا يمكن ثنيه، وأوقفا سيارة أجرة لنقلها إلى مستشفى الطلبة، وكانت الشمس على وشك الرحيل، وهناك استدعوا لها طبيباً بعد أن قاموا بتركيب بعض المحاليل لها، وهي تنظر للمهندس وزميله بعيون دامعة وكأنها تقول لهما لا تتركاني وحدي.
بعد الكشف عليها قال الدكتور : أنها تعاني من صدمة عصبية بسبب حزن مفاجئ شديد أدى إلى اكتئاب، وفسر ذلك بأن الحزن حالة شعورية يمر بها كل إنسان بسبب قد لا يعرفه إلا الشخص نفسه، مثل فقد عزيز أو خسارة مادية أو معنوية أو حتى الفشل في الوصول إلى هدف معين، أما الاكتئاب فهو رد فعل مبالغ فيه على الشعور بالخسارة، المصابون بالاكتئاب يشعرون بفقدان الأمل والمساعدة والتقدير، ويسود عندهم اتهام للذات والشعور بالذنب، ثم أعطاها حقنة منومة فنامت واستراحت، وسأل الطبيب عنها وعن علاقاتها العاطفية وهل هي مرتبطة بأحد الأشخاص وربما حدث بينهما نوع من الخلاف أصابها بحزن أدى إلى تلك الحالة، وقال لهم إن حل المشكلة يكمن في إزالة سبب الحزن والتوتر، كان الزميلان يعرفان علاقتها بمصطفى الطالب الذي يكبرها بعامين وعلى وشك التخرج، ويعلمان أن الخلافات بينهما على أشدها، وأن المشاحنات بينهما لا تنتهي، فطمأنوا الطبيب أنهم سيذهبون للبحث عن هذا الشخص وسيحضرونه لكي يصالحها وتنتهي المشكلة.
 انطلق الصديق للبحث عن مصطفى وتركه بجوار الفتاة، فانطلق إلى بيته في منطقة بولاق الدكرور، وعندما لم يجده سأل أهله أين يجده لأنه يحتاج إليه في موضوع مهم جداً، فأخبروه أنه سيبيت عند زميل له في مدينة نصر، فأخذ العنوان وانطلق إلى هناك وعندما وجده صارحه بالموقف، تأثر وأسرع معه إلى المستشفى بعد أن كاد الليل أن يطبق على المدينة بأسرها.
ظل الطالب بجوار الفتاة التي لا يعرفها إلا معرفة عابرة، فقد رآها أكثر من مرة في المدرج أثناء المحاضرات، وأخذ يتأمل وجهها الملائكي البرئ أثناء النوم، وشعرها الذي يتهدل في غير نظام، فعند النوم يستيقظ الطفل الذي بداخل الإنسان، وسأل نفسه هل يؤثر فينا الآخرون بهذه الدرجة؟ أليس من الضعف والسفة أن يربط الإنسان سعادته بتصرفات شخص آخر، أيترك الإنسان مصيره بيد غيره ؟ أتتوقف سعادة الفرد على فرد آخر؟ هل سعادة المرء من إنتاج الآخرين أم هي إنتاج ذاتي ينبع من داخل الإنسان بإرادته وليس للآخرين شأن بها ؟ وهل الحزن يؤثر فينا إلى هذه الدرجة فتتوقف العضلات عن الحركة ويستحيل الجسم قطعة واحدة؟ هل الحزن هو يجعل العضلات ترفض الحياة وتتوقف عن العمل ؟ ما الذي يفعله الحزن فينا ؟
هل يمكن للحزن أن يوحي للعقل بأن الموت أفضل من الحياة وأن عليه أن يتوقف عن إرسال الأوامر إلى الجسد، وأن عليه أن ينتحر، أم أن العقل يصدر الأوامر والعضلات وهي التي تعصى الأوامر؟ أم هو مجرد إنذار من الجسد بعدم تكرار تلك الأحداث وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة؟ وتساءل بصوت عالي أمام الطبيب: هل يمكن للعقل أن يصدر أمراً إلى الجسد الذي يحمله بالموت والفناء وبالتالي يحكم على نفسه أيضاً بالموت؟ إنه بالتالي يصبح عقلاً غبياً إلى درجة كبيرة، ضحك الطبيب بصوت عالي أدهش من حوله لأنهم تعودوا منه على التجهم الدائم ولم يروا الابتسامة على وجهه قط، قال الدكتور: إذا يأس العقل من الشفاء في حالة تفشي المرض بصورة لا يمكن السيطرة عليها، وعندما يتيقن العقل بأن الجسد لن يتحمل ذلك الهجوم الشرس من المرض، فإنه يصدر أوامر إلى الجسد بعدم مقاومة المرض، فيقل إحساس المريض بالألم ويحس بالراحة ويطلب الطعام ويأكل وينشط جسمه لانعدام المقاومة وانعدام الألم، ويستبشر أهل المريض بشفائه بينما يدب الموت في كل خلية منه دون مقاومة وهذا ما يسمونه صحوة الموت.
تفرس الطالب في وجهها البرئ وتمعن فيه لأول مرة فهو لا يجرؤ على مجرد النظر إليه في الأحوال العادية، وجهها خمري يميل إلى بعض السمرة، شعرها الأسود كالشلال ينسدل على كتفيها بلا ترتيب، تمردت خصلة من الشعر فنزلت على وجهها لتقسمة نصفين، على شفتيها شئ ما ربما يكون مشروع لابتسامة ربما تحلم بهذا الشخص الذي كان السبب في مشكلتها، هكذا هو الإنسان يبحث عن يرفضه ويرفض من يريده.
قطع عليه تأملاته دخول مصطفى مهرولاً في حالة ارتباك وكأنه متهم بارتكاب جريمة قتل و قادم لإثبات براءته منها، أشار الطبيب إليه وإلى وزميله بالخروج وقال لمصطفى : صالحها واعتذر عما سببته لها، واقسم لها بأنك تحبها وبعد الخروج من هنا تشاجرا كما شئتما، طيب خاطرها و لا تتركها إلا وهي تسير معك إلى الخارج، بعد عشر دقائق فقط سمع الجميع صوت المريضة وهي تضحك في سعادة وفرح وكأن شيئاً لم يكن، دخل الزميلان إلى الغرفة فرأوها واقفة أمام المرآة تعدل من شعرها وشكلها وملابسها استعداداً للخروج، فقال: سبحان مغير الأحوال، فتوجهت إليه وقالت إنها لا تعرف كيف تشكره وأنها لن تنسى أبداً ذلك الموقف النبيل له ولزميله، ثم انصرفت على عجل مع مصطفى وتركتهما وهما يتعجبان.
أصبحت الطالبة من الصديقات المقربات له ولم تنس له شهامته، وحينما تقابله تقف لتطمئن عليه وعلى أحواله، وتجامله بعبارات طيبة، وإذا غاب عن المحاضرات تسأل عنه زملاءه، وتسأله أن يشرح لها ما فاتها من المحاضرات والسكاشن، وحينما كان يسألها عن أحوالها مع مصطفى تخبره بأنها أخبار سيئة، وتقول له بصراحة أنه على وشك التخرج، وربما يريد أن يبدأ حياة جديدة بعد التخرج، وربما كان الموضوع بالنسبة له مجرد علاقة عابرة بعد أن نال منها ما أراد.