2013/12/06

مَـاءُ الـحَياةِ .. قصة بقلم: علي هلال



مَـاءُ الـحَياةِ
علي هلال
خَفَتتْ أصْواتُ مُحركاتِ بَعض السيارات المزعجة ، وتَوقفتْ أُخري ، بينما أقْبلتْ بعض السيارات في هدوءٍ لِتَصطف ؛ خَوفاً أو احتراماً لِذلك الضوء الأحْمر _ الدموي _ الصَادر عَنْ إشارةٍ مروريةٍ في أحدِ الشَوارع الرئيسية داخِل العاصمة . لَجأ البعضُ مِن أصحابِ المرْكبات إلي أَخذِ غَفوة قَصيرة قَدْ تُعيدُ النشاط إلي أجسادهم ، بَينما تَمايل البعض مع مُوسيقي وكَلمات الأغَاني المُنبعثة مِنْ مُشغلاتِ المُوسيقى فِي سَياراتهم ، وهُناك مَنْ تَجاذبَ أطرافُ الحديثِ مَع مُرافقيه . كان الجميع يَعلم أن هُناك مُتسع من الوقت عَلي الضوء الأخضر_ الزمردي _ ؛ بسبب ازدحَام المَدينة في ذلك الوقت من كل صَيف . أَتَتْ في مَلابسها الرثة : وعلي ذراعِها الأيسر تَحتَضنُ طِفلها الباكي الذي حَاولت إسكاته بقطعةِ حَلوى لكنهُ رفَض واستمر في البكاء .

أَخذتْ تَعبر بين السيارات تَعرض للبيعِ ما بِيمينها من مَناديل ورقية وحلوي _رخيصة الثمن _ طَلباً للرزقِ . كَان الإرهاقُ يَبدوُ علي وَجهها وعَينيها ، والتعبُ قد تَحكم في جَسدها الهزيل ؛ حرارةُ الشمس قد أصَابتها ببعض الدُوار ، و رائحة الدُخان المُنبعث من السيارات قد أصَابها و طِفلها ببعض السُعال. 

تَعِبَتْ من كَثرةِ الخُطي بين السيارات ودَقٌ النَوافذ . لَمْ يُعيرها البعض من أصَحاب المركبات اهتماماً كَأنها غَير مَرئية ، و مِنهم من زادها بُؤساً علي بُؤس فَنهرها بالكلام أو الفعل ، قَليلون هم مَنْ اشْتروا مِنها ببضعةِ قروشٍ لا تَكفيها لشراء طعامٍ لطفلها المسكين ، فَاستمرتْ في سَعيها . أَخَذتها قَدماها إلي سيارةٍ فارهة ، يَقودها شاب تَبدو عَليه آثار النعمة ، عَرضتْ عَليه مَا لَديها ، فَأسْتَقبلَها بابتسامة ، و اشتَرى مِنها بعض الحلوى ، وأعَطاها ضِعف مَا طَلبتْ . نَظرتْ إلي الأرضِ وهَمتْ بالرحيلِ ، فأستوقفها الشابُ مرة أخري وعَرض عليها المزيد من المَال مُقابل الجَسد ؛ فَقَدْ كَانت رُغمَ بُؤس حَالها علي قدر مُتوسط من الأنوثة ، والجمال المُختبئ خَلف مَلابسها الرثة . نَهرتهُ بشدهٍ ، رافضةٌ أن تُعطيه ما سأل ، أخَذتْ تَجري بعيداً عَنه ، والدموع تَتلألأُ مِنْ عَينيها ، و اتَجهت بعيداً عَن تِلك الإشارة المرورية التي كَانت هي الأخرى قَد أَذنَت للسيارات الواقفة بالمرور .

ومَا أن شَعرتْ بالأمان حَتى تَوقفتْ عن الركض ، و ارتَمتْ إلي جوار سُور إحدى المدارس الحكومية ، أسْندتْ رأسَها المُثقل بالأوجاعِ علي الحائط ، واحتضَنت طِفلها الباكي ، وأخَذتْ تَبكي فَقرها المُدقع .وداخل واحدٍ من فُصول تلك المَدرسة التي قَدْ جَلست عند سورها ، كَان المُعلم قَد طَلب مِن طُلابه أن يُرددوا خَلفه قول عنترة بن شداد :
لا تَـسقِني مـاءَ الـحَياةِ بِذِلَّةٍ     بَـل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ

ليست هناك تعليقات: