2016/10/08

رسالة المعلم .. من الإنتصار إلي الاندثار بقلم : أمير شفيق حسانين

رسالة المعلم .. من الإنتصار إلي الاندثار

بقلم : أمير شفيق حسانين

حكي لنا التارخ المصري - كثيرا - عن قيمة المعلم المصري في فترة ما قبل الثلاثنيات والأربعينيات وما تلي هذه الحقبة الزمنية من عصور وتغييرات وأحداث هامة داخل المجتمع المصري ، ووصف لنا الكتاب والمدونون الكثير والجميل وسطروا بأقلامهم السطور عن كل ما هو رائع في شأن المعلم المصري ، والذي وصفوه بالقامة والقيمة ، وصاحب المقام العلي عند الأثرياء والعامه ، ولم يستهن بقيمة المعلم ، يوما ما ، بل ظلت رسالته السامية تتلألأ و تحقق أهدافها عبر العصور والأزمان .
ومن الممكن أن ينسي الإنسان - منا - الطبيب الذي قدم له العلاج ، أو يغيب عن ذاكرته المهندس الذي بني له بيتا ، بل أحيانا يتناسي المحامي الذي وكله في إعادة حق مسلوب له ، أما المدرس فهو موفور بالذكر الطيب العطر، طوال الوقت ، لا يمكن أن تنساه ذاكرة الانسان مهما تآكلت مع كبر السن وكلما ذكر- إسم المعلم - كلما ذكر الأدب والقيم والمبادئ الراسخة .
كان معلم منتصف القرن الماضي هو الرمز البارز والمثل الأعلي والقدوة الحقيقية ، وصاحب الرأي الصائب والمشورة التي تعود بالفائدة الحتمية ، وهو القائد لطلابه في كثير من الشئون ، والناصح الأمين لغيره في شتي الأمور ولذا كانت تخصص بيوت الامراء وأبناء الأمراء والوجهاء لتكون مقار لكثير من مدارس قاهرة المعز، وتري تلك المدارس موجوده الي الآن في معظم أحياء وسط القاهره ، وهناك داخل حجراتها يجلس الغني بجانب الفقير سواسيه ، مقصدهم واحد وهو التزود بالعلم وتعلم حسن الخلق .
وقد ظل المعلم هو الحديث الشاغل لتلامذته وطلابه ، دائما ، فهم يقلدونه في مشيته الهادئة و سكناته وحركاته السوية المعتدلة ، وعندما كان يمشي المعلم في الشارع أو الحي أو الحارة ، والصبيه تلهو و تلعب، تراهم وقد أخذ كلا منهم جدارا يستتر خلفه أواستقل جانبا يواريه ، أو إختضن شجرة تواريه بعيدا عن أعين معلمه ، كاتما أنفاسه ، ودقات قلبه ترتعد من شدة الخوف من هيبة معلمهم ، ذلك الخوف الذي يمتزج بالحب والتقدير .
أما داخل حجرة الفصل تجد المعلم ، تارة منفعلا غاضبا يظهر عقابه للمخطئين والمقصرين ، وتارة أخري تجده مبتسما ضاحكا بشوش الوجة ، يشدد بأذر المجتهدين ، وتستشعر منه لين الحديث إلي جلسائه من طلاب العلم ، وقد شهدوا بفضله عليهم ، ودعوا له بوافرالصحة وتمام العافيه.
قديما كان ينظر إلي خريجي مدارس المعلمين ، نظرة تتوجها الاحترام والتقدير من جانب الناس في الشارع المصري ، حيث كان يبادر كل خريج باستلام مسماه الوظيفي كمدرس " أد الدنيا " في غضون أشهر قلائل جدا من تاريخ تخرجه ، بل وكانت الدولة تخير المدرس قبل تخرجه بشهر - تقريبا - لإختيار المدرسة التي يرغب في العمل بها ، من بين ثلاث مدارس بمركزه .
ولذا كان الاقبال علي كليات التربية كبير جدا ، بل كانت تعد في منتصف الثمانيات واحدة من كليات القمة ، التي تحتل الرغبه الاولي للطلاب المقبلين علي الجامعه ، تلك المهنة الشاقة التي تعتبر في ذاتها رسالة أساسها الأمانة ، أكثر منها كمهنة تمتهن لأجل كسب المال وتحقيق أية أرباح !!
أما اليوم ، وما أدراكم بتلك الأيام التي تبدلت فيها الظروف ، وأختلفت فيها كثير من الأمور، ومن ثم صارت - فيها - كلية التربية ذلك الكابوس المروع ، الذي يطارد خريجو التربية المساكين ، ومنذ أن توقفت التعيينات والتكليفات في نهاية التسعينات ، انصرف الكثيرون من خريجوها للعمل بمهن آخري أوإحتراف حرف أو تعلم أي صنعه تسترهم من عار البطالة ، بالرغم من أن دراسة كلية التربية لا تتيح إلا العمل بمجال واحد فقط وهو التدريس .
أما القطاع الآخر من أبناء كليات التربية فإزدادوا إصرارا علي العمل بمجال التدريس، والالتحاق بالمدارس الخاصة ، والتشبث بتلك المهنه ، التي اعتبروها رسالة ذات ضمير يقظ ، تمتزج فيها مشقة العمل بلذة التواجد وسط المتعلمين ، الذين منهم - غدا -الطبيب والمهندس والضابط وغيرهم من أرباب المستقبل الباهر .
داخل التعليم الخاص ، الأمر يختلف تماما تماما ، فالمدرس أحيانا مرغم علي الالتحاق بهذا القطاع ، حتي لا ينسي ما درسه من علوم ، ومع ذلك فهو يعمل بالمدارس الخاصة ، متواريا في الظل ، طوال الوقت ، يقبض علي قلبه بكلتا يديه ، فسلاح المال الذي يتعلم به المتعلمون ، ربما أحيانا يغلب علي شخص المعلم ، فالدارس متسلطن بماله ومال أبيه ، يظهر جامد القلب بنفوذه ونفوذ أبية ، بل ربما يحرم المعلم من حقه في معاقبة طالب المدرسة الخاصه - إذا قصر - في واجبات أو إساءة سلوكيات أو الخلل في أخلاقيات ، وإلا حينئذ ، يكون استبعاده عن العمل المصير الحتمي له !!
وبعد أن كان المعلم - سالفا - يؤدي رسالته بأمانه ، وهو صاحب الهيبه والاحترام ، داخل وخارج المدرسة ، أصبح سلاح المال هو القائد الجبروت والمتصرف الأول داخل العملية التعليمية ، ولا تصنع الحرج بالسؤال عن هيبة المعلم إذا ما ظهر سلاح المال ، فالكلام واضح تماما لا يحتاج لتفسير .
ولا أدري هل تبدلت الأمور ، هل تغير الهدف الأسمي من التعليم .. هل صارت المدارس المصرية العريقة - بمشوارها الطويل - مصدرا سهلا للحصول علي شهادات ورقية عليها توقيعات حبرية لأجل التوظيف بهذا المكان الكبير أو التعيين بذاك القطاع الاستراتيجي أم ماذا صار الهدف إذن ؟!
وإذ عندما يصبح دخل المعلم الزهيد من جيب تلامذته الذي يقدم لهم العلم والتربية الأخلاقية ، فماذا تنتظر بعد ذلك إذن ؟! ولك أن تجد حلا لتلك الرؤيه المعقدة وهو ، كيف لمعلم ما مهما طال عمره أو كثرت سنوات خبرته أو إزدادت قيمته العلمية والتربوية داخل الحقل التعليمي ، أن يقدم علي معاقبة طالب ما ، وراتب هذا المعلم هو جزء من مصروفات هذا الطالب التي يدفعها نظير تعلمه !! والأمر الاخطر بكثير هو ذهاب المعلم الي البيوت لأجل إعطاء الدروس الخصوصية مقابل المال ، وقد أصبح كثير من معلمي هذه الأيام يدهسون الأرض دهسا ، ويجوبون الشوارع طولا وعرضا ، في البرد القارس شتاء ، والحر الشديد صيفا ، قاصدين البيوت لأجل الدروس الخاصة ، الأمر الذي زاد من سلطة المتعلم علي المعلم ، وحول رسالة التعليم والتعلم من رسالة هادفة إلي عملية تجارية كلا طرفيها الطالب ومعلمه ، والهدف من تلك العملية الربح الوفير وجمع الأموال وتحقيق الثراء بأسرع وقت ممكن !!
ولك أن تتمعن قليلا ، لتجدها نظرية سقيمة ولا مغزي لها ، بل إنها تعمل علي هدم أصول رسالة حملها قديما صفوة المخلصين لتنوير العقول ،، واليوم عندما دخلها عامل المال ، باتت مهنة من لا مهنة له !! وبعد أن تعالت رسالة المعلم المصري وانتصرت بقوة عبر العصور والأزمان ، صارت هذه الأيام تتهاوي وتندثر وتندثر ،، فهل تري لها من باقية !!

ليست هناك تعليقات: