رمضان.. من حال إلى حال!
أحمد طوسون
قبيل الشهر الفضيل عادة تتلبسني حالة من الملل والإحساس بثقل خطواتي في الحياة وعدم الرغبة في القيام بشيء.
فإذا ما اقتضى الأمر لظروف العمل أو خلافه القيام بأمر ما فإنه يكون شديد الوطأة على النفس والبدن.. أسير متثاقلا محملا بخطايا وأوزار لا بد أني اقترفتها خلال العام.. ورغم أن كثيرا منها لا بد أن يكون من قبيل اللمم أو مما اقترفته ألسنتنا ووقعت عليه أبصارنا وتمنته أنفسنا في صراعنا مع الحياة، إلا أن تراكمه على النفس والروح يكسوها بطبقة حالكة السواد تكاد تمنع العين والقلب من المشاهدة والرؤية التي تجلي القلوب وتنقيها.
وحين تهل بشائر الشهر وتتزين واجهات البيوت والشوارع والميادين بالزينات والفوانيس تستعيد الذاكرة طيبات ألمت بالنفس عبر حياتها خلال الشهر الفضيل الذي تغيرت مظاهره وتحولت عبر الزمان والمكان.
عندما كنا أطفالا كان رمضان يرتبط في أذهاننا بتلاوة القرآن وصلاة الجماعة وصلاة التراويح والاستمتاع بتواشيح الشيخ النقشبندي وتلاوة الشيخ رفعت على البرنامج العام لقرآن المغرب.. قبلها نهرع إلى شراء ألواح الثلج ومن لا يستطيع شراء الثلج يجيد وضع القلل القناوي في مواجهة هواء العصاري ليشرب الماء باردا من القلل والأزيار.. حيث لم تكن المباني جثمت على أنفاسنا ومنعت عنا نسمات الصيف التي كنا ننتظرها من العام إلى العام!
سنوات مصيرية عشتها في رمضان خلال الاستعداد لامتحانات الثانوية العامة.. حيث كنت أصلي الفجر في جامع المحطة مصطحبا كتبي وأبقى في المسجد لاستذكار دروسي حتى صلاة الظهر.. كما قضيت امتحانات آخر العام خلال عامين من دراستي بكلية الحقوق خلال شهر الصوم الفضيل.
كانت الامتحانات تبدأ في الثانية بعد الظهر وبمجرد انتهاء الامتحانات نركب السيارة عائدين من بني سويف إلى الفيوم قبيل آذان المغرب بقليل ولم نشعر يوما بالتعب.. على العكس كنا نتفاءل بالشهر الفضيل مهما كان تقصيرنا.
الآن تغير الحال وأصبحت البيوت تحتشد بالثلاجات والمبردات ويتفنن الباعة في أنواع العصائر والزينات وتزدان الموائد بأطايب الطعام والحلويات وبدلا من متابعة قناة واحدة أو اثنتين خلال شهر رمضان أصبحت مئات الفضائيات تقدم وجباتها الرمضانية سواء الدينية أو الدرامية أو برامج التوك شو.. لكنني أظل أحن إلى رمضان القديم حين يتجول بي الريموت على قناة تعرض دروس الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه، أو تلاوة للشيخ رفعت أو ابتهالا للشيخ النقشبندي.
رمضان قديما كان بسيطا ومعبرا عن غاية الصيام من كونه شهر تكافل وتسامح وعبادة، الآن طغت عليه مظاهر الاستهلاك وتوارت مظاهر الإخلاص نسبيا عن المشهد.
لكن بقى رمضان بالنسبة لي انتقال من حال إلى حال.. فبمجرد أن يعلن مفتي الديار ظهور الهلال ونتبادل التهاني والتبريكات مع الأهل والجيران والأصدقاء تنقشع عن النفس هالة السواد وتنزاح الكآبة الكامنة على النفوس.. وتشعر الروح بطمأنينة غريبة، فقد هل شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار.
هذا الشهر الذي يذكرنا حين نجوع بنعمة العطاء التي أنعم الله بها علينا ويذكرنا بأهلنا وجيراننا وإخواننا ممن يجوعون طيلة العام ولا يجدون ما يسدون به رمقهم.. حين تلفنا المساجد بأمنها وأمانها نتذكر إخواننا من المسلمين الذين فقدوا الأمن والأمان ويعيشون تحت نير الظلم والاحتلال والعدوان.. وحين يؤذن المؤذن لصلاة المغرب نحمد الله على أنه أنعم علينا بنعمة الصيام وأعاننا عليه في هذا الصيف الهجير وروانا بعد عطش وأشبعنا بعد جوع.
تحلق النفس برغم كل الشوائب التي تحيط بها في أجواء إيمانية لا نظير لها في غير الشهر الفضيل.. تشعر أنها خفيفة محلقة إلى أعتاب السماء.. تقر بذنوبها وتترجى الرحمة والمغفرة من الرحمن الرحيم الغفار.
رمضان في الشوارع والميادين والبيوت اختلف من زمن إلى آخر، لكنه بالنسبة إلى نفوسنا وأرواحنا ظل الشهر الذي يبث الطمأنينة والراحة في القلوب بسبب تلك الكيميائية الغريبة التي تفوح في الهواء بمجرد إعلان ظهور الهلال فتتحول الوحوش الكامنة داخل النفوس إلى كائنات أشبه إلى الملائكة تسير على الأرض وهي تتلمس طريقها إلى عتبات المساجد أو إلى بيوت الأهل والأقارب لصلة الأرحام، أو إلى بيوت الفقراء والمحتاجين لتقدم ما تستطيع عون.
ألا ليت العام كله رمضان.
هناك تعليق واحد:
الله عليك يا استاذ احمد
كل سنة وانت طيب
شرفنى زيارة مدونتك الجميلة واستفدت من قلمك الراقى والمعلومات وأخبار الأدب والثقافة اللى بتنشرها
دمت مبدعاً
إرسال تعليق