2011/09/30

"الهروب إلي الأحلام المشروعة" قراءة في رواية القاهرة .. روما

       الهروب إلي الأحلام  المشروعة
قراءة في رواية القاهرة .. روما                                                               إبراهيم عطية

يعد السرد القصصي من الفنون التي تواكب التطور ، وتتخذ من التقنيات الحديثة أدواتٍ فنيةٍ ، يطوعها المؤلف لخلق حالةٍ من التواصل بين المبدع والقارئ   .
وإذا كان السرد يقصد به الإخبار عن حدثٍ ما ، وقع في زمن ما ، وفي مكان ما ،  فمن هنا تبدأ  التجربة الإبداعية مراحلها الأولي التي يحركها مثير خارجي أو داخلي تتوافق مع رؤية المبدع الناتجة من ثقافته واستيعابه للواقع والمتغيرات الاجتماعية ومواءمتها مع الحالة الشعورية والبيئة ، التي تركت أثرها على طبيعة الأساليب القصصية ، وتعدد مستويات اللغة المنتجة للعمل القصصي سواء كان قصة قصيرة أو رواية ، وتوظيف  الأدوات الفنية التي تساعده في التعبير عن تجربته السردية وتحدث نوعاً من المتعة القصصية ، وشد انتباه المتلقي لما وراء الحدث ، الذي قد يتماس في بعض المواقف مع موضوعات حياتية تترك نتائجها على المجتمع   .      
وتمثل رواية " القاهرة .. روما " لـ ( محمد نجار الفارسي ) من التجارب الأولي التي تناولت موضوع الهجرة غير الشرعية ، والأسباب  التي تدفع الشباب في بلاد العالم الثالث اللجوء إليها .
والدوافع الواقعية كثيرة ، دفعت المؤلف إلي كتابة هذا العمل الروائي ، فهو شاب يعبر عن آمال ، وأحلام ، وطموحات ، وقضايا أبناء جيله في ظل الظروف الراهنة ، مستهلا افتتاحية الرواية بمقولة ماركيز .. " إن أفضل القصص هو ما كان تعبيراً شعرياً عن الواقع  " ليؤكد على أنه كان يود تقديم إهداء للشباب في تلك التجربة ولكنه تراجع في مرارة وحسرة متفاعلاً وجدانياً مع  هؤلاء الشباب وقضاياهم ومشاكلهم .
وقد اعتمد في سرد الأحداث على التقنيات الروائية السائدة ، حيث قسم البناء الروائي إلى عشرة لوحات أو مقاطع متتالية ، متصاعدة ، مسلطاً الضوء على الشخصيات الرئيسية ، التي أقام  عليها بناءه الروائي " مقهور رافع مقهور ، ابن نصر الدين ، سامي ) هؤلاء الثلاثة الذين يمثلون جيل من الشباب الضائع ، الذي دفعته الظروف الاجتماعية والأسرية إلي المصير المجهول دفعاً ، وقد لجأ إلي الاسترجاع أو ( الفلاش باك ) للكشف عن بواطن الشخصيات ، وتسليط الضوء على بعض الجوانب الخفية للشخصية ، لتضيف للتنامي الدرامي للحدث ، ثم يكمل رحلته بالإشارة إلى الأماكن التي وصلوا إليها ، وأثرها في تصاعد الأحداث " طرابلس ، زوارة ، مزرعة ، صحراء ، شاطئ ، بحر ، التيه "  لتبدو صورة الحيرة بين المعلوم والمجهول   ، تعبيراً عن طبيعة رحلة التيه والسفر إلى روما بطريقة غير شرعية ، وما ينتظرهم من مخاطر  مجهولة في مزرعة وصحراء وشاطئ وبحر التيه .   
ويحاول المؤلف إن يعيد سرد مأساة ثلاثة من الشباب الذين يمثلون فئة من كل شباب العالم الثالث ، مستعرضاً الظروف  التي دفعت بهم إلى إتباع الطرق غير الشرعية للهروب بحثاً عن فرصة عمل ، وحياة أفضل بعدما لاقوا   مرارة العيش في وطنهم الذي لم يعد هناك حل إلا السفر والبحث عن سبل أخري للحياة . 
ويبدو الاغتراب هدفاً لدى هؤلاء النماذج الشبابية المنكسرة أمام  ضغوط الواقع ومرارته ، فعندما يعنون الفصل الأول باسم " مقهور رافع مقهور " يسلط الضوء على هذه الشخصية التي جاءت من قرية في أقاصي صعيد مصر ، تتطلع لخوض رحلة السفر بداية من القاهرة إلي طرابلس ثم العاصمة الإيطالية روما ، يجلس في ميدان العتبة فيرى رجل كهل مفترشا بضاعته الخردة ، فيتذكر أباه الجالس على المصطبة من شروق الشمس حتى الغروب يفترشها بعلبة مرقة دجاج ودستة كبريت وكيلو لب بلدي ونصف خرطوشة سجائر سوبر ونصف خرطوشة كليوباترا وعلبة مدغة وأشياء أخري حقيرة  اشتراها  بمعاش السادات .
ويشير الراوي إلى معاناة الشباب بعد التخرج الذين يضطرون للعمل في المصانع التى يجبرهم أصحابها التوقيع على استمارة (6) قبل تسلم العمل وبمجرد التفكير في المطالبة بحقوقهم يكون مصيرهم الشارع .
وتتصاعد ذروة الأحداث مع ( مقهور ) ذلك الشاب نحيف الجسد من الهموم
و عدم قدرته على تدبير نفقات علاج أمه ، التي ماتت أمام المستشفي الخاص بعدما قبلت استقبالها شريطة دفع مبلغا ماليا  .
والمأساة قديمة من أيام الجد (مقهور) الذى سمى ولده (رافع) متوسماً فيه الخير والرفعة من الظلم والفقر ، لاسيما كانت ولادته مع قيام ثورة يوليو 1952 واستلامه قطعة أرض زراعية من الإصلاح الزراعي ، مما جعلت الحياة تتفتح أمامه ؛ ولكن الابن (رافع) أوصدت الأبواب فى وجهه من جديد ، فلم يجد مفراً من إعادة تسمية ابنه باسم الجد مرة أخرى (مقهور) تعبيراً عن حالة القهر التي يعاني منها .
ومقهورـ الحفيد ـ  حياته المأساوية تفرض نفسها عليه لتقهره ، فبعد أمه ووالده المقعد ، يعرض مأساة أخته ، التى أجبروها على الزواج وهي في سن الثالثة عشر من رجل يكبرها بسبعة عشر عاماً ، وعندما بلغت الثامنة عشرة ، مات زوجها تحت عجلات جرار هيئة الإصلاح الزراعي التي كان يعمل بها تاركاً ثلاثة أبناء ، مستعرضاً رحلة معاناتها فى مكتب التأمينات الاجتماعية لصرف مستحقات المعاش ، وصفاً تعقيدات الروتين الوظيفي الذي يواجه المواطنين في رحلة العذاب لصرف المعاشات .
***
 وتتحدد مستويات السرد بين الصعود والهبوط وفقاً لتطور ونمو الحدث ، والشخصيات المروي عنها ، لينتقل السرد الروائي عن إسلام بن نصر الدين
" ليصف رحلة شاب مطارد ، لكونه أطلق لحيته نبذه المجتمع ، وصنف من جماعة الإخوان المحظورة ، ليظهر ذلك واضحاً في الموقف الذي واجهه في نقطة التفتيش على الحدود المصرية ومعاملة الضابط له بطريقة سيئة قائلا له :
" خذ جوازك وغور اهو تريحونا من بلاويكم " صـ18
ويظهر سيطرة السلطة الأبوية وفرض سطوتها على الأسرة ، لتخرج أفراداً غير أسوياء  يؤثرون بالسلب على المجتمع . فالأب يفرض الحجاب على البنات الصغيرات ، ولم يكتف بفرض سيطرته على الأسرة في الأمور الحياتية ، بل في الشعائر الدينية ، وقد حدد مسجدا معينا لأداء الصلاة ، بعدما اقتنع ببعض المفاهيم الدينية المغلوطة من قبل بعض المتشددين في أمور الدين ، ويدلل على ذلك .."  هو لا يصلي سوى في مسجد اختاره بعناية .. كان على قناعة بعدم صحة الصلاة خلف أأمة المساجد الأخرى .. يبرهن على معتقده
- إمام مسجد .....يسمع الأغاني والمسلسلات كافرُ .
- إمام مسجد .....يدخن السجائر كافرُ .
- إ مام مسجد ....يحادث النساء الأجنبيات كافرُ .
- أما إمام مسجد ....يتقاضى أجراً من الحكومة الكافرة فهو كافرُ أيضاً . "
  تلك الشعارات التي يرددها الجهلاء المتشدقين ، متخذين من الدين ستاراً  لارتكاب ما ينافي تعاليمه وشعائره ، بعدما بايع أحد أمراء الجماعة الدينية التى تلقن الشباب خرافات لا تمت بصلة للدين الإسلامي ، وتسئ إليه .
ويشير إلي " زوار الفجر " الذين داوموا القبض على بن نصر الدين ، وإلى أبيه الذى قام بحبسه ، مما اضطره للهرب من جبروت أبيه وتسلطه عليه ومحاولة إجباره على القيام بعملية تفجير للسياح ، لكنه يرفض ويهرب من بيت العائلة .   
أما " سامي " فيمثل النموذج الثالث للشباب الضائع ، مات أبوه وعملت أمه خياطة من أجل الوصول إلى هدفه ، تفوق في دراسته ، وكان طالباً مثالياً ، حصل على مجموع كبير في الثانوية العامة أهله للالتحاق بكلية الحقوق ، رغبة في الوصول إلى هدفه أن يصبح وكيلا للنيابة ، وتتداعي الذكريات وينتقل السرد مطوفا حول الحدث الرئيسي ليؤكد على معاناة هؤلاء الشباب وتأثرهم بالأحداث السياسية الراهنة ،  مشيراً إلى ما يحدث في الجامعة من مظاهرات الطلاب بسبب اشتراك مصر مع القوات الأمريكية لضرب العراق ، ومحاولة استمالته سياسياً لضمه إلى الحزب الحاكم ، لكنه يرفض ويحصل على ليسانس الحقوق بامتياز ، ليبدأ أولي خطوات تحقيق الحلم ، فيتقدم لوظيفة معاون نيابة وفقا للإعلان المنشور في الجريدة القومية ، لكن الواسطة كان لها دورها وتم رفض طلبه ، وصدمته مقولة الموظف عندما سأله عن النتيجة :
" إنت ؟ إنت رسبت وعيلتك مش ملاءمة ."
وكانت بمثابة الصدمة التي أقعدته ، وألزمته البيت فقرر ألا يخرج إلا للجامع لأداء الصلاة  ، وطالت لحيته إهمالا ، وحاول بعض أفراد الجماعات المتطرفة دينياً استقطابه ، وذات يوم داهمت الشرطة المسجد أثناء الصلاة وقبض عليه ، واعتقل لمدة خمس سنوات دون أن يعلم أحد به ، وماتت أمه أثناء هذه الفترة ، وتداعت الذكريات في مخيلة الشخصيات الرئيسة في الرواية ليعبر  المؤلف عنها بأسلوب الفلاش باك / الاسترجاع كوسيلة فنية جعلته يمتلك الحدث ، ويسيره وفقاً لمخطط روائي محدد ، لا يمكن أن يحيد عنه .
وينتقل من الحديث عن الشخصيات إلى الأماكن ، وأثرها على تنامي الحدث مع تنامي الزمن في رحلة الهجرة غير الشرعية ، ووصول الميكروباص إلي مدينة
" طرابلس " عاصمة ليبيا ، رغبة في الهروب إلى ايطاليا مع التأكيد على عدم الإفصاح عن العميل الليبي الذي سوف يساعدهم في عملية الهرب ، ويفصح عن الهدف بجملة صادمة تكشف عن الغرض الحقيقي ( أنا هارب لايطاليا ويمكن أموت في الطريق ) ، ليؤكد على مدي خطورة الرحلة ، ولا يكتفي المؤلف بالسرد المتتابع لتطور الأحداث وتناميها ، بل عاد إلى الفلاش باك ، ليعبر عن الأمنيات البعيدة ، مبتكراً حيلة فنية أو موقفاً درامية يستطيع من خلاله الكشف عن بواطن الشخصيات وما يجيش بداخلها ، فيختلق موقف الحراسة  أثناء استيقاظهم بعدما قسموا على أنفسهم الوقوف خدمة حراسة يتناوبونها فيما بينهم ، حيث جلس " مقهور " يمني نفسه بالأحلام التي وعد والده بها ، يطارده هاجس الديون وبناء بيت مسلح ودكان ملئ بالبضاعة ، وكذلك الحال تتداعي الذكريات عند
 " سامي " من خلال رؤية منديل أمه بعد وفاتها ، وتستوي عنده جميع البلاد ويتلاشى الإحساس بالانتماء للوطن ، وطوال خمسة أعوام قضاها في جمع سبعة عشر ألف جنيها  تكلفة السفر ، حيث قام ببيع محتويات الشقة وترك ماكينة الخياطة عند جارة أمه .
أما ( ابن نصر الدين ) الذي باعت له أمه مصاغها الذى ورثته عن أمها من أجل أن يسافر " إسلام نصر الدين  "  وقلقه عليها ومصيرها مع أبيه قاس القلب .
وينتقل إلي منطقة " زواره " تلك المنطقة التي تبعد عن طرابلس حوالي مائة وعشرون كيلو مترا قرب الحدود التونسية للإ قامة في منزل به حوش كبير ، يقيم به أكثر من مائتين شاب من مختلفي الجنسيات ، وتتأزم الحالة في هذه الظروف العصيبة ليصف معاناة ابن نصر الدين من أثار الحمي ، تلك الحياة القاسية التي عاشوها بمرارتها وقسوتها ، تتأزم كثيراً ، بعدما شمت الشرطة خبر وجودهم في منطقة " زوارة " ، فيتم نقلهم إلى حوش آخر في مزرعة ما ، لتظل الانتكاسة مسيطرة على هؤلاء الشباب الذين يبحثون عن لقمة العيش ، لا تعنيهم الحرية ولا يبحثون عنها رغم كونها جوهر الحياة للإنسان ، كل ما يقلقهم المصير المجهول الذي ينتظرهم في رحلة الهروب ، والعذاب بعد حرق جوازات السفر كرهاً .
وأثناء انتقالهم في صحراء قاحلة تتزايد قسوة الرحلة ومشقتها  للوصول إلي شاطئ بحر التيه بعد تقسيمهم إلى ثمانية أفواج وركوبهم المراكب الصغيرة ، ويصف حالة الشباب في عرض البحر ، بعدما اشتدت بهم العواصف في الماء مع مراكب صغيرة تنذر بوقوع كارثة شبه محققه ، ويزداد إغراء هؤلاء الشباب بأكذوبة قالها أحدهم ( بينا وبين ايطاليا ربع ساعة بس  ) ، (ولفحات هواء البحر الباردة تصطدم بالثياب المبتلة الملتصقة بالأجساد فترجفها .. عكفوا على النفخ في أيديهم وفركها ) تلك الحالة التي صعبت من الرحلة والوقوع في مجاهل الرحلة والتيه حتى قبض عليهم حرس السواحل ووضعهم في صندوق وتقديمهم إلي مباحث أمن الدولة وتقديمهم إلى المحاكمة ، ووصف تلك النهاية في بناء سردي مشوق يظهر مقدرته على امتلاك أدواته الفنية . 
ورغم كون هذه التجربة الروائية الأولي لدي ( محمد نجار الفارسي ) إلا أنها تؤكد على مقدرته السردية على تطويع اللغة في التعبير عن عالمه القصصي المتخيل ، ومدي تماسه مع الواقع بتناوله قضايا اجتماعية وثيقة الصلة بالشباب في المجتمعات الفقيرة في قارة أفريقيا ، ولجوء أبناءها للهروب عبرطرق غير شرعية في سبيل تحقيق أحلامهم البسيطة – المشروعة -  لإيجاد فرصة عمل مناسبة ، تتيح لهم سبل الحياة الكريمة  ، فالهروب مركب نجاة لهؤلاء الشباب المطاردون في أوطانهم بكم هائل من المشكلات والصعوباب التي تواجههم في الحياة من أجل تحقيق أحلامهم البسيطة ،  واستطاعت الرواية التعبير عن هذه التجربة الروائية باقتدار  ، لتثير  المتلقي وتشبع لديه  متعة الحكي والقراءة . 

ليست هناك تعليقات: