محمد عاشور هاشم
في روايتة " سيرة الزوال " الصادرة حديثا عن دائرة الثقافة والإعلام بإمارة الشارقة الإماراتية ، في حلة أنيقة ، والفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربي للرواية ، يضعنا الروائي المصري " هاني القط " أمام لوحات سردية لعدد من الشخصيات ، تبدأ سيرتهم أو تنتهي ( وربما تبدأ وتنتهي ) بالزوال . من الوهلة الأولى يُطالعنا " القط " بعنوان فرعي لأول شخصية من شخصيات روايته ألا وهو " صالح " يقول فيه " محال : ما مضى لا يعود " . صالح الذي يعيش في جزيرة وسط النيل ، هو وأبوه وأمه . يجيء الفيضان فتغرق الجزيرة ويموت أبوه وأمه ، ويضطر للرحيل إيذانا بزوال تلك الحياة المستقرة التي كان يعيشها .
ما واجهه صالح في البداية هو ما يواجهه في النهاية ، عبر نبوءة يسمعها ذات يوم على متن المركب الذي يعمل عليه ، مضطرا ( بعد أن عجز عن تسديد أجرة ركوبه ) من إحدى ضاربات الودع العجائز .
صالح هو الشخصية الأبرز لكن " القط " يقدم لنا شخصيات أخرى تواجه نفس المصير ، إبراهيم صاحب المركب ، الغارق حتى أذنيه في عالم المتعة والنساء ، برغم حياته الناعمة إلا أنه يقتل ابنته الوحيدة التي أجبرها على الزواج من ابن عمها ، بعد أن يشكّوا في سلوكها ، يترك الزوج له مهمة قتلها لكي يغسل عار العائلة بيده ، تتبدل حياته ويزول أمنه وتصالحه مع نفسه ، فيهيم على وجهه .
والسيد مصطفى الذي يرث عن أبيه رئاسة العائلة .. يتصارع مع ابن عمه الطامع في رياسته . يحب فرح زوجة ابن عمه ويضطر لترك البلدة والرحيل معها ، بعد أن يُفتضح أمرهما ، تاركا وراءه حياة السيادة والدعة ، إلى حياة أخرى فقيرة ذليلة !
شخوص الرواية بأكملها تعاني من هذا المصير ، الذي يبدو في بعض الأحيان قدريا ، لا دخل لهم فيه ، ولا يستطيعون تجنبه ؛ فزينب ، زوجة صالح ، تسمع النبوءة التي قيلت لزوجها وبشر فيها بفقد أكبر أبنائه ، ما أن يعود – صالح – من غياب طويل . يرتحل صالح وتطول غيبته ، وتجد زينب نفسها أمام هاجس تحقق تلك النبوءة ، لا تعرف هل تصدق حدوثها أم تكذبه ، ولا تستطيع أن تتصرف حيالها سوى بالاستعداد ، وشراء كفن لابنها في حال ما تحققت تلك النبوءة وفقدته . زينـب تفقد حياتها الأسرية برحيل زوجها وغيابه الطويل ، وتستعد أيضا لفقد ( زوال ) آخر أشد وقعا وأكثر ألما !
لا يتوقف " القط "عند هذه الشخصيات فقط ، بل أيضا يقدم شخصيات أخرى تسير إلى مصيرها – عكس شخصياته السابقة – بكامل إرادتها ؛ فالجد " سالم " يختار أن يعيش في الصحراء بعيدا عن صخب الحياة وزحمتها ، منتظرا بهدوء وصبر عجيبين ، ظهور جده القديم الذي بنى صرحا كبيرا على مشارف الصحراء ، وفرق أبناءه كثيري العدد على مختلف القرى والمدن ، بعد أن وصاهم بأن يعودوا ثانية ويتجمعوا في هذا المكان بعد رحيل الملك الذي كان يهدد أمنهم وحياتهم . يمتثل الجد " سالم " لوعد جده القديم ، وينتظر عودته وعودة أبنائه أو أحد منهم ، لكن حياته تنتهي وتزول قبل أن يتحقق من ذلك شيء !
اختار " القط " أن تقدم كل شخصية سيرة زوالها بنفسها ، لذا جاء السرد بضمير المتكلم . قسم " القط " روايته لأربعة وثلاثين فصلا ، عنون كل فصل منها باسم سارده ، وجاء نصيب كل سارد منهم كالتالي : " صالح " سبعة فصول ، " الريس إبراهيم " سبعة فصول ، " السيد مصطفى " ثمانية فصول ، " الجد سالم " فصلان ، " فرح " ثلاثة فصول " ، " زينب " أربعة فصول ، " حسن " فصلان ، " سالم " ( الابن ) فصل واحد !
استدعى " القط " على مائدته العامرة معظم مظاهر الحياة والموت من حب وكره وطمع وحقد وارتحال وفقد وعودة وهروب وهزيمة ، ولا يتوقف عند هذا فقط بل يلبس كل ذلك ثوبا إنسانيا شفافا ، طرزه بدقة على حجم ومقاس كل شخصية من شخصياته . وهو بهذا لا يسرد سيرة زوال شخصيات بعينها ، بقدر ما يسرد سيرة تجدد وزوال الحياة بشكل عام ! تجدد يعقبه زوال واستقرار يعقبه زوال .. وهكذا . ولم ينس أيضا أن يُقدم لنا نموذجا أسطوريا رائعا في شخصية الجد " سالم " الذي يرفض أن ينخرط في خضم الحياة ، مكتفيا بمكان على تخومها المزدحمة ، منتظرا لأجداده وأسلافه ، الذين ولوا وزالت حياتهم بغير رجعة ، لذا لم يعودوا ، ولم يتم اللقاء مرة أخرى ، ورحل الجد نفسه تاركا وراءه ميراثا متجددا من سير الحياة التي لا تلبث وأن تتجدد وتزول ، مرة بعد أخرى !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق