مصطفى لغتيري
من حظ القصة القصيرة جدا في بلادنا أنها حظيت بنقاد متميزين و متحمسين، يعايشون التجربة الوليدة و يترصدون كل جديد فيها ، و كأني بهم يشكلون الجناح الثاني لهذا الجنس الوليد ، الذي لا يستطيع التحليق بدونه ، و مما يثير الإعجاب لدى هذه الكوكبة من النقاد أنها تتميز بانفتاحها الواسع و المثمر على كل ما يكتبه المبدعون دون تمييز أو إقصاء ،بمعنى أن اختياراتهم لا تحكمها مقاييس غير أدبية ،كما كان عليها الحال إلى وقت قريب لدى نقاد يعرفهم الجميع ،و من حسن الحظ أن القصة القصيرة جدا لم تغريهم بالتعاطي معها لأسباب عدة أهمها أن هذا الجنس في اعتقادهم "هامشي" فلم ينل عندهم بعد الحظوة اللازمة ، و خيرا فعلوا بابتعادهم عن قرة أعيننا :القصة القصيرة جدا ، حتى لا يجهضوا هذا الحلم الوليد الذي يترعرع بعيدا عن قبح المؤسسة النقدية العتيقة..
و من بين نقادنا الألمعيين الدكتور جميل حمداوي ، الذي يعود إليه الكثير من الفضل في التعريف بجنس القصة القصيرة جدا و الترويج له و مساندته و توجيه خطواته في طريقه الصعب نحو إثبات الذات ضمن عائلة الأجناس الأدبية العتيدة ..
و إذا كنت أعترف منذ البداية بأن مقالا من هذا النوع لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يوفي حمداوي حقه بحكم تعدد كتاباته و تشعبها ، فإنني أطمح على الأقل إلى تسليط الضوء على أحد كتبه الذي قرأته مؤخرا ، لعل ذلك يكون ردا لبعض الدين ،الذي أشعر به ككاتب قصة قصيرة جدا في ذمتي ، تجاه هذا الناقد المتميز...و سأحاول في هذا المقال أن أقف عند مصنف ضخم للكاتب وسمه ب" " من أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جدا "المقاربة الميكروسردية " الذي يقع في 380 صفحة من الحجم الكبير ، و هو يعد بحق تحفة حمداوي النقدية ، و قد خصصه الكاتب للدفاع عن مشروعه الطموح المتجلي في تأسيس منهجية جديدة تلائم فن القصة القصيرة جدا بعيدا عن استنساخ المناهج العربية و الغربية ، أو استدعاء مناهج خاصة بأجناس أدبية أخرى لتطبيقها على القصة القصيرة جدا ..
لقد رفع جميل حمداوي التحدي في كتابه هذا من خلال وضع اللمسات التفصيلية لمنهجيته التي يقترحها ، و لم يكتف بذلك بل جاول تطبيقها على النصوص كذلك.
افتتح الناقد كتابه هذا بمدخل حول القصة القصيرة جدا مركزا على تعريفها و تاريخها و و فنياتها ، ثم توقف في التفاتة كريمة و دالة تعترف بمجهود زملائه النقاد العرب و المغاربة في فصول طويلة ، فتناول بالعرض و التحليل و المناقشة كتب كل من :
- أحمد جاسم الحسين.
- - يوسف حطيني.
- - جاسم خلف الياس
- - هيثم بنهام بردى
- - عبدالدائم السلامي.
- - عبدالعاطي الزياني.
- - سعاد مسكن.
ليصل بعد ذلك إلى مربط الفرس في هذا المصنف النقدي الفارق ، و أقصد بذلك "المقاربة الميكروسردية" فينبري الكاتب بكثير من الجهد و الطموح لتشريح المنهجية المقترحة و تقديمها في شموليتها و تفاصيلها الدقيقة ، إذ يخصص الفصل الأول من القسم الأول من الكتاب لأركان القصة القصيرة جدا ، فيناقش المعيار الطبوغرافي الذي يعني به" كل ما يتعلق بتنظيم الصفحة تبييضا و تسويدا ن و كل ما تحتويه من مؤشرات أيقونية و بصرية وعلامات سيميائية و تشكيلية"
و لتفصيل القول في هذا المعيار يهتم الناقد في المبحث الأول بمقاييس القصر و الترقيم و التنوع الفضائي ، فيما ينبري في المبحث الثاني لتحديد المعيار السردي و يجزئه إلى مقاييس التركيز و التنكير و التنكيت و التلغيز و الاقتضاب و التكثيف و الإضمار و الحذف.
أما المبحث الثالث فخصصه الناقد لمعيار القراءة و التقبل ، و الذي يتحقق عبر مجموعة من العمليات التفاعلية كالإدهاش و الإبهار و الإرباك و المفاجأة و الحيرة الدلالية و التركيز على الوقع الجمالي و التحكم في المسافة الجمالية ، مع مراعاة أفق التلقي، و تخييبه ، و تأسيسه من جديد" .
و يفصل الناقد الحديث في هذا المعيار من خلال مقاييس المفاجأة و الإدهاش .
أما المبحث الرابع الذي وسمه الناقد بالمعيار التركيبي ، فتوقف فيه عند مقاييس الجملة البسيطة و الفعلية و التراكيب و التسريع و التناغم الداخلي ، و في المبحث الخامس أفاض الناقد القول في المعيار المعماري من قبيل البداية القصصية و الجسد القصصي و القفلة القصصية. كما تحدث في الفصل السادس عن المعيار البلاغي و تناوله من خلال مقاييس الصورة الومضة و المفارقة و السخرية.
في الفصل الثاني من الكتاب توقف الكاتب عند شروط القصة القصيرة جدا و سماتها الخارجية ، و تناول فيه المعيار المناصي من قبيل مقاييس العنونة و الانفتاح التجنيسي ، كما ركز على المعيار التفاعلي من خلال مقياس التناص ، في حين تناول في المعيار الدلالي مقاييس الأنسنة و الترميز و الانزياح و الفنطاستيك و الإيحاء و الغموض.
و تناول الناقد معيار التخطيب من خلال مقاييس الأسلبة و التبئير السردي و الالتفات ، أما المعيار الدلالي فبحث فيه مقاييس التشخيص الذاتي و الموضوعي و التشخيص الميتاسردي و الجرأة.
بعد هذا المجهود الكبير في تقديم منهجيته خصص الكاتب الفصل الثالث للمصطلحات النقدية الخاصة بالقصة القصيرة جدا ،فيما انصب الفصل الرابع على عوائق القصة القصيرة جدا و همومها و مشاكلها ،فتناول العوائق أولا و حددها في الإسهاب في الأحداث و غياب التكثيف و غياب القصصية أو الحكائية و التكرار و التطويل و هيمنة البعد الشاعري و السقوط في الخواطر و الإكثار من الوصف و استخدام الجمل الإسمية و الكتابة في ضوء النفس القصصي و الروائي و الوقوع في الموعظة و هيمنة التنكيث و غير ذلك من العيوب، التي يرتكبها بعض كتاب القصة القصيرة جدا.
أما هموم القصة القصيرة جدا فحددها الناقد في الاستسهال و عدم الوعي بالتجربة و الأدلجة و التسييس.
أما القسم الثاني من الكتاب فهيمن عليه المستوى التطبيقي ، ففي فصله الأول تناول الناقد قصص جمال الدين الخضيري ، و في الفصل الثاني انصب بحثه التطبيقي على االبداية و العقدة و النهاية في القصة القصيرة جدا ، فدرس أنواع البدايات و أنواع النهايات مثلا من خلال النصوص.
في حين خصص الفصل الموالي لمميزات الكتابة النسائية في القصة القصيرة جدا على ضوء المقاربة الميكرو سردية و تناول فيه مجاميع كل من :
- فاطمة بوزيان.
- - وفاء الحمري
- - السعدية باحدة
- - الزهرة رميج.
- - مليكة بويطة.
و ختم الناقد كتبه بخاتمة وسمها ب "القصة القصيرة جدا فن المستقبل"
بما يشي بالتعاطف الكبير للناقد مع هذا الجنس القصصي الجميل ، و من حسنات هذا الكتاب الضخم أنه يزخر بكم كبير من النصوص يمثل حساسيات مختلفة لدى كتاب القصة القصيرة جدا.
و إن كان التاريخ القريب سيدلي بقوله الفصل في هذه المنهجية المقترحة إما بتزكيتها أو رفضها ، فإن هذا التاريخ لا ريب سيسجل للدكتور جميل حمداوي هذه المغامرة الجميلة و الطموحة لتأسيس منهجية خاصة بالقصة القصيرة جدا ،متماهيا – في مغامرته هاته- مع النفس الإبداعي المتجدد لمبدعينا ، الذين لم يركنوا أبدا إلى ما هو متداول، بل سعوا دائما عبر تجريبهم و تجريبيتهم إلى اقتحام عوالم المجهول ، و القصة القصيرة جدا في آخر المطاف ليست سوى تعبير قوي عن مغامرة تجريبية نتمنى أن تكون محمودة العواقب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق